مقالات

بين العامية والفصحى (4) . أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

الاستشراق والمستشرقون

ما يهمنا -الآن- في الحديث عن حركة الاستشراق والمستشرقين؛ هو القدر الذي يتصل اتصالًا وثيقًا ببحثنا هذا؛ “بين العامية والفصحى”، لما فيه من الصلة المباشرة، والعلاقة الوطيدة. بل سيكتشف أنه هو الأساس الذي انطلقت منه، وبنت عليه، ولولاه لما نجحت الدعوة في قليل أو كثير، بل سيتبين لك في ما يأتي؛ أنهم الخطر الداهم، والهلاك المدمر الذي هدم حصوننا من الداخل؛ وما زال، بل قد تجاوزها ليعبث بأهم المقدسات، وإفساد أهم المرتكزات، مما أسهم في إفساد حياتنا الأدبية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، لذلك كانت حركة الاستشراق والمستشرقين من أهم، بل أهم ما أسفرت عنه النهضة الأوروبية الحديثة .قال العلامة محمود شاكر في كتابه الفريد، (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (ص 48) يصف المستشرقين. ” ومن يومئذ نشأت هذه الطبقة من الأوروبيين الذين عرفوا فيما بعد باسم “المستشرقين”، وهم أهم وأعظم طبقة تمخضت عنها اليقظة الأوروبية،  لأنهم جند المسيحية الشمالية ، الذين وهبوا أنفُسهم للجهاد الأكبر، ورضوا لأنفسهم أن يظلوا مغمورين في حياة بدأت تموج بالحركة والغنى والصيت الذائع، وحبسوا أنفسهم بين الجدران المختفية وراء أكداس من الكتب، مكتوبة بلسان غير لسان أممهم التي ينتمون إليها، وفي قلوبهم كل اللهيب الممض الذي في قلب أوربة، والذي أحدثته فجيعة سقوط القسطنطينية في حوزة الإسلام، ولكن لا عمل لهم ليلا ونهارا إلا حيازة كنوز علم دار الإسلام بكل سبيل، تتوهج أفئدتهم نارا أعتى من كل ما في قلوب رهبان الكنيسة، ولكنهم كانوا يملكون من القدرة الخارقة أن يخالطوا أهل الإسلام في ديارهم ،وعلى وجوههم سيمياء البراءة واللين والتواضع وسلامة الطوية والبشر. وبفضل هؤلاء المتبتلين المنقطعين عن زخرف الحياة الجديدة = وبفضلهم وحدهم، وبفضل ملاحظاتهم التي جمعوها من السياحة في دار الإسلام ومن الكتب، وبذلوها لملوك المسيحية  الشمالية، نشأت طبقة الساسة الذين يعدون ما استطاعوا من عدة لرد غائلة الإسلام ثم قهره في عقر دياره، ولتحقيق الأحلام والأشواق التي كانت تخامر قلب كل أوروبي، أن يظفر بكنوز الدنيا المدفونة في دار الإسلام وما وراء دار الإسلام، وهم الذين عرفوا فيما بعد باسم رجال “الاستعمار” = وبفضلهم وحدهم أيضا، وبفضل ملاحظاتهم التي زودوا بها رهبان الكنيسة، ثارت حمية الرهبان، ونشات الطائفة التي نذرت نفسها للجهاد، في سبيل المسيحية، وللدخول في قلب العالم الإسلامي لكي تحول من تستطيع تحويله عن دينه إلى الملة المسيحية، وان ينتهي الأمر إلى قهر الإسلام في عقر داره،= هكذا ظنوا يومئذ= وهذه الطائفة هي التي عرفت في ما بعد باسم رجال “التبشير”، فهذه ثلاثة متعاونة متآزرة متظاهرة، وجميعهم يد واحدة ،لأنهم إخوة أعيان، أبوهم واحد، وأمهم واحدة، ودينهم واحد، وأهدافهم واحدة، وسائلهم واحدة.                                                                             وبحسب المستشرق الألماني الكبير بوهان فك :” فقد قرّر ‌مجمع ‌فيينا ‌الكنسي (1311م) إنشاء خمسة كراسي لتعليم اللغة العربية في أكبر خمس جامعات في أوربا (باريس، أكسفورد ـ بولونيا ـ سلمنكا ـ جامعة الإدارة المركزية البابوية) وعين للتدريس فيها مدرسين كاثوليكيين”. وهنا تكمن البداية!

    أما اهتمامهم بدراسة “اللهجات العامية العربية” فقد بدأ في القرن التاسع عشر الميلادي، وظهر ذلك في صور كثيرة، نعد منها:

  • إدخالهم تدريس اللهجات العامية في مدارسهم وجامعاتهم، بل وأنشأوا مدارس خاصة لهذا الغرض، مستعينين في ذلك بالشرقيين الذين كانوا يعملون في بلادهم، وبالمستشرقين الذين كانوا يعرفون اللهجات العربية المحلية،ففي إيطاليا انشئت “مدرسة نابولي للدراسات الشرقية ” سنة 1727م، وجددت في سنة 1888م.

 وفي النمسا “مدرسة القناصل” سنة 1757م وكان من مدرسيها حسن المصري صاحب كتاب ” أحسن النخب في معرفة لسان العرب” سنة 1869م.

 وفي فرنسا “مدرسة باريس للغات الشرقية الحية” سنة 1759 م. وكان أستاذها المستشرق سلفستر دي ساسي، ومعاونه السوري ميخائيل الصباغ  (1775 – 1861 م). وترجمة الأخير في ميخائيل بن نقولا بن ابراهيم الصباغ الكاثوليكي. أديب، مؤرخ. ولد في عكا بفلسطين، ونشأ في دمشق، وتولى الترجمة لنابليون بونابرت في مصر. معجم المؤلفين (ج3: 62):”  واتصل بالمستشرق الفرنسي إيزاك سلفستر دِي ساسي (1758 – 1838 م). مولده ووفاته بباريس. كان واسع الاطلاع على اللغات الشرقية فضلًا عن الغربية، تعلم اللاتينية واليونانية وآدابهما في بيته. ثم انقطع الى العربية والفارسية، مع علمه بالتركية والعبرية. وقضى حياته في التعليم والتأليف والنشر. وكان أستاذا للعربية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس سنة 1795 ومنح لقب بارون سنة 1813، وهو أحد الذين عملوا على إسقاط نابليون الأول سنة 1814 وعاش أيام الانقلابات السياسية في عهد الثورة منزوياً في قريته بري  بعد أن فقد كل أملاكه.

من آثاره: “الرسالة التامة في كلام العامة”، و”المناهج في أحوال الكلام الدارج”، والكتاب بالعامية المصرية والشامية.

وفي روسيا مدرسة “لازارف الإكليركية للغات الشرقية” سنة 1814م . وكان الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810 م- 1861م) أستاذا فيها، تعلم وعلّم بالأزهر، واتصل به بعض المستشرقين، فدعي لتدريس اللغة العربية في معهد (اللغات الشرقية) ببطرسبورج (ليننغراد) فسافر سنة 1256 هـ ، وقد تخرج عليه بعض المستشرقين الروس. وصنف كتبا منها: (أحسن النخب في معرفة لسان العرب) ، و(الحكايات العامية المصرية). وللدكتور حسين محفوظ (رسالة) في سيرته . الأعلام للزركلي (ج6 : ص320).

وفي ألمانيا؛ مكتب كبير لتدريس اللغات الشرقية وأهمها العربية ولهجاتها، وكان من مدرسيها أحمد والي، وأمين معربس، والمستشرق الألماني  د هرتمن، الذي قام برحلة استكشافية في بلاد الشام دَوَّن فيها كل ما رآه، ووصفها وصفاً دقيقاً، وهي؛ حيفا، ودمشق، وبيروت، وحماة، وطرابلس، واللاذقية، وحمص، وحلب، ثم رجع إلى وطنه، وفي طريق عودته التقى كثيرا من الأدباء والفضلاء والعلماء. سماها “رحلة إلى سورية”.

 وفي المجر الكلية الملكية لعلوم الاقتصاد الشرقية؛ ودراسة اللهجات؛ وعلى رأسها العربية، سنة 1891م.

وفي إنجلترا: أنشأت جامعة لندن في أوائل القرن التاسع عشر فرعا فيها لتدريس العربية الفصحى والعامية، وكان من مدرسيها حبيب أنطون السلموني اللبناني، ولما ذهب العلامة اللغوي أحمد فارس الشدياق اللبناني (1804 – 1887 م) إلى لندن اقترحت عليه المدرسة تأليف كتاب في العربية المحكية أي العامية فوضعه بالإنجليزية وهو “أصول اللغة العربية المحكية” سنة 1856م،  ‌‌‌والشِّدْيَاق هذا لغوي أديب. ولد في قرية عشقوت  (لبنان) من أبوين مسيحيين سمياه “فارس”، ورحل إلى مصر فتلقى الأدب عن علمائها. ورحل الى مالطة فأدار فيها أعمال المطبعة الأميركانية. وتنقل في أوربا، ثم سافر إلى تونس فأعتنق فيها الدين الإسلامي وتسمى (أحمد فارس) فدعي إلى الاستانة حيث أقام بضع سنوات، ثم أصدر بها جريدة (الجوائب) سنة 1277هـ فعاشت 23 سنة، وتوفي بالآستانة، ونقل جثمانه إلى لبنان.

من آثاره؛(سرّ الليال في القلب والإبدال) (الواسطة في أحوال مالطة) و (كشف المخبا عن فنون أوربا) و (الجاسوس على القاموس) و (اللفيف في كل معنى طريف) و (الساق على الساق في ما هو الفارياق)،  وغيرها.

وأسفر ذلك عن ظهور كتب كثيرة باللهجات العامية، مثل “أحسن النخب”، و”الحكايات المصرية العامية”، و ” الرسالة التامة في كلام العامة”، وغيرها من الكتب.

كذلك أُلفت كتب أخرى لخدمتها والدفاع عنها، ودعما لحجتها.

بعد كل هذا يتساءل القاريء العربي: هل كانت أعمال المستشرقين، الذين كانت تعلو وجوههم البراءة، ويظهرون اللين والتواضع، وسلامة الطوية والبشر، وكانوا يعيشون في بلادنا في أمان وسلام، وجهودهم كانت تصب فعلًا في خدمة اللغة العربية وأهلها ؟  الحقيقة؛ أن شيئًا من ذلك لم يكن البتة، فجهودهم كلها، وتعبهم في النهار، وسهرهم في الليل، وإنفاق الأوقات، وتضييع الشباب، كان لأجل غاية واحدة فقط وهي؛ القضاء على اللغة العربية الفصحى، وإحلال العامية محلها. وسيرى القاري الكريم مصداق ذلك في ما يأتي من مقالات.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. العامية والفصحى وجهان للغه العربيه لا يستغنى عنهما كوجهان لقطعة العمله الواحده ولكن الاستعمال هو المهم والزمان والمكان من يحدد ذلك
    شكرا يا دكتور للتوضيح والاسهاب في هذا الموضوع للاهميه.

  2. تحياتي واحترامي وان المستشرقين جائز ان يكونوا قد فهموا الحضارة العربية والاسلامية على غير موضعها فحرفوا الكلم عن مواضعه لانهم لا يتقنون الية عمل تلك اللغة وقد ادخلوا عليها مصطلحات العامية التي اختلطت بالفصحى وكونت منتجا اخر منفصلا عن المقصد الحقيقي .وهذا عن جهلهم بفنونها وبلاغتها وهذا ما اعتقده وكونوا حضارة غربية مبنية على اساس فيه رائحة الاسلام لكنه ممجوج وقد اخذناها ومزجنا بدورنا فتشكل جسم هجين منفصل في مجتمعنا .وهذا باعتقادي والله اعلم وارجو ان اسمع منك رايك بكلامي المتواضع امام علمك وانت دكتور احمد الزبيدي خير من يعطي المعلومة الصحيحة مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لشخصك الكريم وارائك البناءة الغير منحازة لطرف من الاطراف تحياتي مهند الشريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى