د. أحمد الزبيدي
قال العلامةُ محمود محمد شاكر -رحمه الله – :” إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -فيما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).
قصَّة زكريا عَلَيْهِ السَّلَام
أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام، حين وهبه الله عز وجل ولدًا على الكِبر، وكانت امرأته عاقرًا في حال شبيبتها، وقد أسنت أيضًا، حتى لا ييأس أحد من فضل الله ورحمته، ولا يقنط من فضله.
” {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} ” أي ضعف وخار من الكبر ” {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ} ” أي غلب على سواد الشعر شيبه، وما عودتني في ما أسألك إلا الإجابة، وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران، وكان كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير إبانها ولا في أوانها،وهذه من كرامات الأولياء، فعلم أن رازق الشيء في غير أوانه قادر على أن يرزقه ولدا وإن كان قد طعن في سنه {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } فسأله ولدًا برًا تقيًا مرضيًا من صلبه، يرثه في النبوة والحكم في بني إسرائيل، فلما بشر به شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد له والحالة هذه {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ}،{وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقرا لا تلد، وأنا {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} أي شيخ كبير ، قال له الملك الذي يوحى إليه بأمر ربه: {قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي هذا سهل يسير عليه، {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} أي قدرته، أوجدتك بعد أن لم تكن شيئًا مذكورًا، أفلا يوجد منك ولدًا وإن كنت شيخًا؟! وقال تعالى: ” {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}، ومعنى إصلاح زوجته أنها كانت لا تحيض فحاضت.
{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً} أي علامة على وقت حمل زوجته {قَالَ آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزا من غير بأس. وأمره بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب، واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والإبكار، فلما بشر بهذه البشارة خرج مسرورا بها على قومه من محرابه {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} .
غير أن بعض الطاعنين تمسكوا بقوله تعالى {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ}، {قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، وزعموا: قد شك في قدرة الله تعالى .
قال الرازي: “ولو كان الأمر على ما قالوه لكان زكريا عليه السلام غير عاقل لما سأل الله ذلك، فلما أضافه إليه استنكره فاستبعد قدرته عليه كان ذلك من أفعال المجانين، فثبت ان الأمر بخلاف ما قالوه ، وذلك أن زكريا عليه السلام لم يسأل ربه أن يهب له ولدًا من جهة الولادة وإنما سأله أن يهب له ولدًا من عنده، فقال (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) غنما سأل ذلك عندما أخبرته مريم أن رزقها يأتيها من عند الله، فلما بشرته الملائكة بالولد، سأل كيف يقع ذلك على كبره، وكيف وكانت امرأته عاقرًا ؟
قال الإمام ابن حزم في الفصل (ج1: ص138):” قُلْنَا لَيْسَ فِي جَوَاب زَكَرِيَّا وَمَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام اعْتِرَاض على بشرى الْبَارِي عز وَجل لَهما، إِنَّمَا سَأَلَا أَن يعرفا الْوَجْه الَّذِي مِنْهُ يكون الْوَلَد فَقَط، لِأَن (أنى) فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن بِلَا خلاف أَن مَعْنَاهَا من أَيْن، فصح مَا قُلْنَا من أَنَّهُمَا سألاه أَن يعرفهما الله تَعَالَى من أَيْن يكون لَهما الْوَالِدَان أَو من أَي جِهَة؟ أَبِنِكاح زَكَرِيَّا لامْرَأَة أُخْرَى، أم نِكَاح رجل لِمَرْيَم، أم من اختراعه تَعَالَى وَقدرته، فَإِنَّمَا سَأَلَ زَكَرِيَّا الْآيَة ليظْهر صدقه عِنْد قومه وَلِئَلَّا يظنّ أَنَّهُمَا أخذاه وادعياه. {قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ}.
وقد سبق الشيخ الشعراوي -رحمه الله- إلى معانٍ قلما التفت إليها أحد غيره من المفسرين، وهذا فضل الله يأتيه من يشاء.
قال:” إن بلوغ الكبر ليس دليلا على أنه عاجز عن الإنجاب… ذلك أن الإنجاب بالنسبة لبعض الرجال ليس أمرا عسيرا مهما بلغ من العمر – إن لم يكن عاقرا-، ولكن المرأة هي العنصر المهم، فإن كانت عاقرا، فذلك قمة العجز في الأسباب. ولو أن زكريا قال فقط: {وامرأتي عَاقِرٌ} لكان أمرا غير مستحب بالنسبة لزوجته، ولكان معنى ذلك أنه نسب لنفسه الصلاحية وهي غير القادرة.
إنه أدب النبوة وهو أدب عال؛ لذلك أوردها من أولها: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} إنه لم يقل: “بلغتُ الكبر” بل يقول: إن الكبر هو الذي جاءني ولم أجيء أنا إلى الكبر؛ لأن بلوغ الشيء يعني أن هناك إحساسا ورغبة في أن تذهب إليه، وذكر زكريا {وامرأتي عَاقِرٌ} هو تضخيم لطلاقة القدرة عند من يستمع للقصة، لقد أورد كل الخوالج البشرية، وبعد ذلك يأتي القول الفصل: {قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} إنها طلاقة القدرة التي فوق الأسباب لأنها خالقة الأسباب.
رحم الله الشعراوي فقد كان من العلماء الربانيين الذين قرأوا القرآن قراءة وعي وتدبر، وغاصوا في بحاره وعثروا على درره وجواهره، وعبروا عن علومه، بأسهل عبارة، وألطف إشارة، حتى صار في وسع العوام أن يسمعوه ويتذوقوه ويفهموه ويقبلوا عليه ، فرزق القبول في نفوس الناس، والمحبة في قلوبهم.
زر الذهاب إلى الأعلى