لم يرض المستشرقون حتى تَحقَّق لهم ما أرادوه وتمنوه؛ فقد بدئوا بتجنيد من قدم للعيش في بلادهم من الشرقيين، ممن يتقنون التأليف، ويحسنون التصنيف؛ في وضع مؤلفات باللهجة العامية، والدعوة إليها، والدفاع عنها، بحجة تسهيل دراستها -في مصر- على الطلاب الأجانب الراغبين في تعلمها.
وبغض النظر عما إذا كان هؤلاء المؤلفين من العرب أمثال عيادة الطنطاوي، وحسن المصري، والصايغ، وغيرهم يعلمون أو لا يعلمون بمخططات المستشرقين فإن كتبهم وتصنيفاتهم خدمت -بقصد أو بغير قصد- مخططات المستشرقين من المضي قدما في تنفيذ وتطبيق ما خططوا لتنفيذه. غير أن كتبهم -ومن باب قول الحق- لم يترتب على تأليفها وانتشارها خطورة كبيرة على العربية الفصحى في المدى القريب، ربما لأنهم عرب؛ قد اقتصروا في تأليفهم على تسجيل خصائص ومزايا العامية ترغيبا للطلاب الأجانب-فعلًا- بدراستها، في حين أن الدراسات الأجنبية التي درست العامية يظهر فيها روح المقت ونَفسُ العداء للعربية الفصحى، والرغبة الجامحة، في إقصائها بلا رحمة ولا شفقة عن ميادين الكتابة كلها؛ ولا سيما الميدان الأدبي. ربما يكون ذلك وربما يكون غير ذلك!
غير أن المستشرقين انتبهوا لذلك، ولأنهم على قدر كبير من الخبث والدهاء، ولأن الكتب التي ألفها العرب لم تشف غليلهم، ولم تداو عليلهم، قرروا أن يتولوا هم مهمة التأليف وقديما قال الشاعر:
ما حَكَّ جلَدَك مثلُ ظفرك
فتولَّ أنت جميعَ أمرك
{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}.
فاخذوا بدراسة العامية، وأخذوا بإصدار الكتب، وبدأت مصنفاتهم ومؤلفاتهم تتلمس طريقها إلى أيدي الناس، وقد أعان على ذلك أن معظم المؤلفين كانوا ممن ساكني البلاد العربية؛ ولا سيما أرض الكنانة “مصر”، سكنى الدراسة، والتمحيص، والمراقبة، والتسجيل، والتفحيص، ومن ثم كتابة التقارير ورفعها إلى لجان ونخب حتى يحصلوا على الإجازة والترخيص.
وكانوا يتولون فيها مناصب عالية زمن الاحتلال البريطاني لمصر.
رأيت فضيلًا كان شيئًا ملففا
فكشفه التمحيص حتى بدا ليا
وعلى رأس هؤلاء جميعًا المستشرق الألماني د. ولهلْم سْبِيتاَّ (1818 – 1883 م) وقد كان مديرًا لدار الكتب المصرية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، في كنف الاحتلال البريطاني، ففي سنة (1880م) وضع سبيتا للناس كتابًا سماه “قواعد اللغة العربية العامية في مصر” أورد فيه نبذة صالحة عن فتح العرب لمصر في سنة (19هـ) وانتشار لغتهم بين أهلها، وقضائها على اللغة القبطية، لغة البلاد الأصلية حسبما يرى، والتي لم يبق من آثارها سوى بعض المفردات، وحاول في هذا أن يثير العنصرية العرقية المصرية ضد اللغة العربية، ثم اختتم مقدمته بشرح الفكرة التي راودته طويلاً، وهي اتخاذ العامية المصرية لغة أدبية. قال: (وأخيراً سأجازف بالتصريح عن الأمل الذي راودني على الدوام … وهو أمل يتعلق بمصر نفسها، ويمس أمراً آخر هو بالنسبة لها وإلى شعبها يكاد أن يكون مسألة حياة أو موت، فكل من عاش فترة طويلة في بلاد تتكلم العربية يعرف إلى أي حد كبير تتأثر كل نواحي النشاط فيها بسبب الاختلاف الواسع بين لغة الحديث ولغة الكتابة “[أجنحة المكر الثلاثة]، حبنكة (ص360)
قال محمود شاكر “الجمهرة” (2: 1191): “ولهلم سبيتا”، الخبير بتكنولوجيا اللغة في القرن التاسع عشر والذي ألف كتابا يدعو فيه المصريين بالشفقة والرحمة التي في قلبه، ليتخذوا العامية لغة للكتابة والتأليف..وسْبيتا” هذا فدائي عظيم، عرض نفسه للمتالف في سبيل مصر! ولذلك قال في مقدمة كتابه (وأخيرًا سأجازف بالتصريح عن الأمل الذي يراودنى على الدوام طول مدة جمع هذا الكتاب، وهو أمل يتعلق بمصر نفسها، (انظر، ما أشد حبه لمصر)، ويمس أمرا هو بالنسبة لها وإلى شعبها يكاد يكون مسألة حياة أو موت (شوف إزاي) (فكل من عاش فترة في بلاد تتكلم العربية، يعرف إلى أي حد كبير تتأثر كل نواحي النشاط فيها، بسبب الاختلاف الواسع بين لغة الحديث ولغة الكتابة). ” ينظر: تاريخ الدعوة إلى العامية وكتاب: أباطيل وأسمار”. اه
فَمَكَثَ “المقتطف غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ -وكان متواطئا مع الإنجليز على مصلحة وطنه-، فدعا بدعوة سبيتا، واستشهد بأقواله، وتسلح بحججه وبراهينه، ولكن دون الإشارة إلى رأيه وتأويله لما قاله (أعني ولهلم سبيتا) . ومجلة المقتطف هذه أصدرها، الدُّكْتُور يعقوب صَرُّوف -(1852 – 1927 م)-، عالم بالفلسفة والرياضيات والفلك، من كبار المترجمين عن الإنكليزية، ولد في بيروت، وتعلم بها في الجامعة الأميركية، مع صديقيه فارس نمر (1856 – 1951 م)،- اللبناني؛ من السابقين إلى العمل في الصحافة، وكان قد عمل في المرصد الفلكي مع الدكتور ” فانديك “. وصديقه الثاني؛ شاهِين مَكارْيُوس (1853 – 1910 م)، من مؤسسي (المقطم) بمصر، وأحد أصحاب (المقتطف)، ولد في لبنان ونشأ فيه يتيما فقيرا، وكانت تعوله أمه من عملها في خدمة الدكتور فانديك، تولى إدارة مجلة المقتطف ببيروت (سنة 1876 م) ورحل إلى مصر مع زميليه يعقوب صروف وفارس نمر. وخدم الماسونية بكتبه. ومنح لقب ” دكتور ” في الفلسفة من جامعة نيويورك سنة 1890 م.
وإذا لم يخب ظني، وتخذلني فراستي، فإن الأمريكي المسيحي د. “فانديك” هو الذي كان وراء تعليم الثلاثة؛ صروف، ونمر، ومكاريوس، ووراء تجنيدهم لخدمة أهدافه وخدمة أمريكا.
قال د. الدسوقي-في كتابه “الأدب الحديث” ( ج1: ص115): “ولما وفد على لبنان الدكتور “فانديك” الأمريكيّ مبشرًا بالدين المسيحيّ، والمذهب البروتستانتي، ورأى البلاد في حاجةٍ للمدارس العلمية، أنشأ مدرسة “عبية” سنة 1847، وكانت كل هذه المدارس في الجبل؛ لأنه موئل المسيحية، فلما وقعت مذابح سنة 1860، ونزح كثير من أهل الجبال إلى بيروت، ابتدأت الإرساليات تفتح المدارس فيها..”.
وقال انور الجندي رحمه الله “تاريخ الغزو الفكري” (ص184): ” وقام الدكتور فانديك الأمريكى بدور ضخم في هذا العمل، فقد بدأت هذه الحركة بالقرى دون المدن. بدأها الفرنسيون من قرية (عينطورا) وبدأها الأمريكيون من مدرسة (عيبة) ثم عمت لبنان، وكان الدكتور “فنديك” يصور التنافس بين الأمريكيين والفرنسيين فيقول: وأنا في طريقى إلى قرية كذا لأفتح مدرستين، قاذا قيل له أنها لا تحتمل ذلك قال: سأفتح مدرسة وسيأتي اليسوعيين فيفتحون مدرسة أخرى، ثم نشأت الكلية الامريكية. ثم قدم بعد ذلك إلى مصر ومات بها، واحتفلت المحافل الماسونية في القاهرة والإسكندرية بتأبينه، وهو صاحب قصيدتين مشهورتين في استنهاض همم العرب ودعوتهم إلى إحياء أمجاد آبائهم، ورفض التجبر والاستبداد، وفيهما دعا قومه من العرب إلى الثورة على الأتراك، وختم قصيدته مهددًا الترك بقوله:
صبرًا هيا أمة الترك التي ظلمت
دهرًا فعما قليلٍ تُرفع الحجبُ
لنطلبن بحد السيف مأربنا
فلن يخيب لنا في جنبه أَرَبُ
ونتركن علوج الترك تندب ما
قد قدمته أياديها فتنتحبُ
ومن يعش يرَ والأيام مقبلة
يلوح للمرء في أحداثها العجبُ”
وإذا نظرت إلى رواد حركة القومية العربية التي نشأت من أجل تمزيق الدولة العثمانية، ومحاربة العربية والإسلام وجدت أكثرهم أو جلهم من عائلات مسيحية في لبنان؛ فالبستاني، واليازجي، وأديب إسحاق، والنقاش، وشميّل، وتقلا، ومشاقة، وزيدان، ونمر، وصروف، كانوا على صلة وثيقة بالإرساليات الإنجيلية الأمريكية في بيروت وقد رُموا بالماسونية). وانا أستميح القاري الكريم العذر في هذه الإطالة، ولكن فعلت ذلك ليكون على علم بأن الأمر قد دبر بليل، وخطط له في حجرات مظلمة!
قال محمود شاكر:” وعمل المقتطف -السالف- سيِّئٌ جدًّا؛ لأنه استغفل الناس مرتين؛ مرة بالحجج السخيفة المختلسة، ومرة بالتظاهر بأن هذا الاقتراح آتٍ من قِبَل قوم عرب اللسان والمولد، هم أصحاب المقتطف، مع أن انكشاف أمرهم قريبٌ كان وميسورٌ”.
وأضاف:”وبإلقاء المقتطف هذه القنبلة (سنة 1881) بدأت كلمات “سبيتا” تأخذ طريقَها إلى بعض الناس، وقام الشيخ خليل اليازجي – وهو لبناني نصراني – فدفع ما قاله أصحاب المقتطف دفعًًا قويًًّا شديدًا”…. ثم جاء المستشرق الألماني د. كارْل فولرس على أثر سبيتا، فخلفه في دعوته، وحمل لواءه، وتبنى قضيته، وكان كل همه إقصاء الفصحى، وإدناء العامية، كما خلفه في إدارة دار الكتب المصرية، وكان أحد محرري دائرة المعارف الإسلامية مادة (الأزهر”.
ولله در الشاعر:
وراعي الشَّاة يحمي الذِّئْب عَنْهَا
فَكيف إِذا الرُّعَاة لَهَا ذئاب
وقال أبو ريشة:
لا يُلامُ الذِّئْبُ فِي عُدْوَانِهِ
إِنْ يَكُ الرَّاعِي عَدُوَّ الغَنَمِ
ووضع كتابًا سماه “اللهجة العربية الحديثة في مصر” (سنة 1890)، ثم تولى ترجمته في سنة (1895) إلى الإنجليزية “بوركيت”، وجه فيه العرب بعامة، والمصريين بخاصة إلى استعمال الحروف اللاتينية في كتابة العامية، وحاول أن يدرس فيه قواعدها، ممثلًا ومستشهدًا بكثير من نصوصها.
وباختصار شديد فإن كارْل فولرس ألحَّ وألحف أكثر مما ألح عليه وألحف فيه “سبيتا” من وصف الفصحى بالصعوبة والجمود، وعدم صلوحها، وتشبيهها باللاتينية، وتشبيه العامية بالإيطالية، وقد لقي عمل فولرس هذا تأهيلا وترحيبا أيضا من رزق الله بن يوسف بن عبد المسيح بن يعقوب شيخو (ت ١٣٤٦هـ) ففي ترجمته لكارْل فولرس في كتابه: ” تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين” ذكره وترحم عليه، وقال:” ومن تآليفه الحسنة كتابه في اللغة العربية العامية بين قدماء العرب بالألمانية (سنة 1906) وكتابه عن اللهجة العربية في مصر”. ولا تعليق، ثم جاء من بعدُ؛ المستشرق الإنكليزي “سِلْدُن ولمور” القاضي في المحاكم الأهلية بالقاهرة، زمن الاحتلال البريطاني، فحمل أيضاً لواء الدعوة إلى “الإقصاء والإدناء” بقوة وذكاء. فأصدر عام (1901م) كتابه “العربية المحكية في مصر” سلك فيه مسلك ” ولهلم سبيتا” -فهو في نظره الأب الروحي لدعوتهم-، وحاول في كتابه دراسة العامية المصرية، وتكبد عناء وضع قواعد لها، ثم سرعان ما دعا مثل سابقيه؛ إلى كتابتها بحروف لاتينية، وإلى اعتماده كلغة أدبية، وهدفه من ذلك بين؛ فهو يريد فصل المسلمين عن تراثهم العظيم؛ قرآن، وحديث، وفقه، وتاريخ، ومناهج تعليم وغيرها..، وقطع الصلة بينهم وبين ماضيهم التليد وضرب الوحدة اللغوية القائمة بين الشعوب الناطقة بالعربية الفصحى في مقتل، وذبحها من الوريد إلى الوريد، وقد تفنن الرجل في إدارة معركته، فكان يلبس لكل حالة لبوسها، فمرة يلبس ثوب الصديق، ومرة يتكلم بلسان الشفيق، ومرة يتوسل إلى إقناع الناس بألفاظ كالشهد والرحيق.
قال :”ومن الحكمة أن ندع جانباً كل حكم خاطئ وجِّه إلى العامية، وأن نقبلها على أنها اللغة الوحيدة للبلاد، على الأقل في الأغراض المدنية التي ليست لها صبغة دينية، وهناك سبب يدعو إلى الخوف؛ هو أنه إذا لم يحدث ذلك، وإذا لم نتخذ طريقة مبسطة للكتابة فإن لغة الحديث ولغة الأدب ستنقرضان، وستحل محلها لغة أجنبية، نتيجة لزيادة الاتصال بالأمم الأوربية” .