مقالات

وقفات مع المتنبي وشعره (14) د . أحمد الزبيدي        –         الإمارات

د. أحمد الزبيدي

 الفخر والاعتداد بالنفس

قال أبو الطيب في “معجز أحمد” (ص 9) :

‌أَمِطْ ‌عنك ‌تَشْبيهِي بِمَا وَكَأنَّهُ

 فما أحدٌ فوْقِي ولا أحدٌ مِثلِي

يقول: لا تُشَبهني بأحد، ولا تقل كأنه فلان، أو ما أشبهه بفلان، وهذا كثيرٌ في ديوانه. قال :

‌تغرَّب ‌لا ‌مستعظماً غير نفسه

 ولا قابلاً إلا لخالقه حكما

يذكر نفسه ويقول: إنه تغرَّب، لا يستعظم أحدًا إلا نفسه!! ولا يرى أحدًاً فوقه! ولا يرضى بحكم أحد إلا بحكم الله تعالى.                    وقال:

‌إِنْ ‌أكنْ ‌مُعجبًا فَغيرُ عَجيبٍ

لمْ يَجدْ فَوْقَ نَفْسِهِ منْ مَزيدِ

يقول: إن تكبرت بما لي من الشرف، فليس إلا لأني عجيبٌ، لا نظير لي في زماني، ولا لأحد مزيد علي.

وقوله:

الخَيْلُ ‌واللَّيلُ والبَيْدَاءُ تَعْرِفُنِي

 والطَّعْنُ والضَّرْبُ والقِرْطاُس والقَلَمُ

(الرواية الشهيرة للشطر الثاني من البيت :

والسيف والرمح والقرطاس والقلم)

وقال :

أَيّ مَحل أرتقي

أَي عَظِيم أتقي

وكل مَا قد خلق الله

وَمَا لم يخلق

محتقر ‌فِي ‌همتي

 ‌كشعرة فِي مفرقي

يقول: أي محل أرتقي إليه؟! فلا مزيد فوق ما أنا عليه … وأي عظيم أخشى منه وأحذره؟ وكل شيء خلقه الله تعالى وما لم يخلق بعد، هو محتقر عند همتي، كشعرة في مفرق رأسي.

ورُوِيَ أن الشبلي كان يتمثل به، ولكن على معنى آخر يريده :

“إن كل ما خلق الله تعالى من تمتعات الدنيا والآخرة محتقر في همتي، فلا أطلبه دون الله تعالى”.

ورُوِيَ أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: قيمة كل عالم همته، فقال الشيخ أبو عبد الله القرشي: فمن كانت همته الدُّنيا فقيمته أقل من جناح بعوضة، ومن كانت همته الله ففضله وشرفه ماله قيمة.

وسُئِلَ الشبلي رحمه الله تعالى: هل يقنع المحب بشيء من حبيبه دون مشاهدته؟ فأنشد: [من السريع]

وَاللهِ لَوْ أَنَّكَ تَوَّجْتَنِي

 بِتاجِ كِسْرى مَلِكِ الْمَشْرِقِ

وَلَوْ بِأَمْوالِ الوَرى جُدْتَ لِي

 أَمْوال مَنْ بادَ وَمَنْ قَدْ بَقِي

وَقُلْتَ لِي: لا نَلْتَقِي ساعَةً

 لاخْتَرْتُ يا مَوْلايَ أَنْ نَلْتَقِي

قال ابن وكيع (ت 393ه): (ولولا عادة الشعراء تمدح أنفسهم لكان هذا الكلام من نهاية الجهل وضعف العقل، وقد قرأت أبياتاً لبعض المحمقين تشبه هذا البيت، وهي:

أتيهُ على جِنّ البلاد وإِنْسها

 فلو لم أجد خَلقاً لتهْتُ على نفسي

أتيه فَما أدري مِن التيّه منْ أنا

سوى ما يقولُ الناس فيّ وفي جنسي

فإِنْ يزعموا أني من الإِنسِ مثْلهمْ

 فما لي عيب غير أني من الإِنسِ

وقد وصف البديع الهمداني-صاحب المقامات- متكبراً فقال: كأن الدنيا خاتم في خنصره، وحساب خراجها في بنصره، وكأن الشمس تطلع من جبينه، والغمام يندي من يمينه، وكأن كسرى حامل غاشيته، وقارون وكيل نفقته.

وقد انتقِدَ أبا الطيب على استعماله كلمة (ما) في التشبيه، حتى قال أحدهم: والتشبيه بِمَا محَال، وقال  الجرجاني صاحب “الوساطة” (ت ٣٩٢هـ): (إنما يشبه من الأسماء بمِثل وشِبه ونحوهما، ومن الأدوات بالكاف)، وقد سُئل المتنبي نفسه عن ذلك فأجاب برد مفحم، قال: (أن ما تأتي لتحقيق التشبيه كقول عبد الله: الأسد: ما عبد الله إلا الأسد، وإلا كالأسد تنفي أن يشبه بغيره، فكأن قائلاً قال: ما هو إلا كذا، وآخر قال: كأنه كذا، فقال ‌أمط ‌عنك ‌تشبيهي بما وكأنه، وما في التحقيق للنفي في هذا الموضع، ولكنها تضمنت نفي الأشباه سوى المستثنى منها فمن هذا الوجه نسب التشبيه إلى ما وكأن، إذا كان له هذا الأثر).

وقد أعجب هذا الجواب أكابر اللغويين والنحويين، مثل ابن جني، والمعري، وابن فورجة، ومن المحدثين العلامة عبدالله الطيب -رحمه الله- حيث قال : (وكأن الكاف وما أشبهها من أدوات التشبيه معروفة، وقل ما تذكر «ما» في أدوات التشبيه. وهي بلا ريب من أدوات التشبيه الطويل نحو قول الأعشى:

وما مزبدٌ من خليج الفرات

جونٌ غواربه تلتطم

 إلى قوله:

‌بأَجْوَدَ ‌مِنْه ‌بما ‌عُنْدَه

 إذَا ما سماؤُهمُ لم تَغِمّْ

وقول النابغة:

‌وَمَا ‌الْفُرَات ‌إِذا ‌جَاشَتْ ‌غواربه

فِي حافتيه وَفِي آذيه الجشر

إلى قوله:

يومًا بأجود منه سيب نافلة

 ولا يحول عطاء اليوم دون غد

ثم قال: (وقد كان أبو الطيب رحمه الله بأسرار الشعر عليمًا).

وكنت قد حبرت مقالين(في جريدة البيان) في سعة علم أبي الطيب في اللغة، وتضلعه في النحو وفلسفته فيه.

ومن عجيب ما روي في البديهة حكاية أبي تمام حين أنشد أحمد بن المعتصم بحضرة أبي يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي وهو فيلسوف العرب:

إقدام عمرو، في سماحة حاتم

 في حلم أحنف في ذكاء إياس

فقال له الكندي: ما صنعت شيئاً، شبهت ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين بصعاليك العرب! ومن هؤلاء الذين ذكرت؟ وما قدرهم؟ فأطرق أبو تمام يسيراً، وقال:

‌لا ‌تُنكروا ‌ضَرْبي ‌لَهُ مِن دُونِهِ

 مثلاً شروداً في الندى والباس

فاللهُ قَدْ ضَرب الأقلَّ لِنُورِهِ

مثلاً من المشْكاةِ والنِّبراس

“المشكاة”: الكوة في لسان الحبشة، و (النبراس): المصباح، فهذا أيضاً وما شاكله هو البديهة، وإن أعجب ما كان البديهة من أبي تمام؛ لأنه رجل متصنع، لا يحب أن يكون هذا في طبعه. وقد قيل: إن الكندي لما خرج أبو تمام قال: هذا الفتى قليل العمر؛ لأنه ينحت من قلبه، وسيموت قريباً، فكان كذلك.

قلت: وربما عيب عليه ذلك؛ لأن ضرب المثل بعمرو، وحاتم، صار شائعًا.

قال ابن الأثير: “فإن هذا المعنى مخصوص ابتدعه أبو تمام، وكان لابتداعه سبب، والحكاية فيه مشهورة…،”.

وفي “سير أعلام النبلاء” للذهبي (ج 11: ص 68) : (…فقال الوزير: أعطه ما شاء فإنه لا يعيش أكثر من أربعين يوما؛ لأنه قد ظهر في عينيه الدم من شدة فكره. وصاحب هذا لا يعيش إلا هذا القدر، فقال له الخليفة: ما تشتهي? قال: الموصل فأعطاه إياها فتوجه إليها ومات بعد هذه المدة). قال الإمام الذهبي: “هذه حكاية غير صحيحة. وأما البيت فلن يحتاج إلى اعتذار أصلا ولا ولي الموصل. بلى، ولي بريدها، كما مر”.

وذكر القاضي عياض في كتابه “الشفاء” (ج : 1 ص: 249) :” وقال ‌‌‌نفْطَوَيْه (ت 323 ه) في قوله تعالى {‌يَكَادُ ‌زَيْتُهَا ‌يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، يقول: يكاد منظره يدل على نبوته وإن لم يتل قرآنا كما قال ابن رواحة:

 ‌لو ‌لم ‌تكن ‌فيه ‌آيات ‌مبيّنة

كانت بداهته تنبيك بالخبر

وقد سها صاحب “العود الهندي” -رحمه الله- وساق هذا القول ونسبه للجاحظ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. دكتور أحمد جزاك الله كل خير عرفتنا الكثير عن نواحٍ وزوايا في شعر المتنبي وفي حياة المتنبي نفسه لو حاولنا نحن الدرراسه والبحث لسنوات ما وصلنا لمثل هذا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى