د. أحمد الزبيدي
جهاد “ولكوكس” في إقصاء الفصحى
ارتبط ذكر المؤلفاتُ الأجنبية –التي تحدثنا عن بعضها سابقًا- و تناولت دراسة اللهجة العامية المصرية بذكر عدد من الأسماء اللامعة في سماء الاستشراق، كان لها أكبر الأثر في إحداث البلابل والاضطرابات والخطر، كما أثرت في فساد حياتنا الأدبية؛ في مصر، والشام وسائر الدول العربية، جعلتها تَمُورُ مَوْرًا بما تركت في جسمها من ندوب وأخاديد؛ فكرية، وثقافية، ودينية، ما زلنا إلى اليوم نعاني من ويلاتها وآثارها .
حوادثُ الدهرِ تمورُ مَوْراً
تسُرُّ طَوراً وتَسوءُ طَوْراً
على أن من عرف تلك الأسماء يجد أنها مشتركة في ثلاثة أمور:
-
كانوا جميعًا يتولون مناصب مهمة وخطيرة.
-
كانوا يخططون ويعملون على مرأى ومسمع ودعم الانتداب البريطاني.
-
أنهم درسوا اللغة العربية دراسة جيدة، وشيئًا من أسرارها.
-
أنهم غَلّفوا دراساتهم وأبحاثهم بغلاف البحث الأكاديمي ، والمنهج العلمي، لذا عملوا جميعًا بما أوتوا من قوة ومكر ودهاء، لتحقيق ما أسميه –نظرية الإقصاء والإدناء-مستغلين بذلك طيبة العرب وتمسكهم بقيمهم النبيلة؛ في إكرام الضيف وإجارته، وغفلتهم عما يمكر بهم، ويحاك ضدهم في الخفاء.
ولعل أخطرهم جميعًا هو المهندس الشهير “ولكوكس” (1852 ـ 1932) الذي لعب دورًا خطيرًا في إقناع الناس في تقبل فكرته، وتبنيها، والعمل بها، وسلك في ذلك سبلًا شتى؛ من تأليف الكتب، وإلقاء المحاضرات، وتأسيس المجلات، وتجنيد الجنود ممن يتكلمون بألسنتنا، وينتسبون -زورًا وبهتانًا- لعروبتنا!
ففي سنة (1926م) نشر رسالةً باسم (سوريا ومصر وشمال إفريقية ومالطة تتكلم البونية لا العربية) زعم فيها أن لغتها هي الكنعانية أو الفينيقية، ولغة مصر البونية، معتمدًا في ذلك على الشبه بين كلمة Ponic وكلمة Fenek التي أطلقها المصريون على الفينيقيين، و أنها مقطوعة الصلة بالفصحى؛ فقد سبقتها إلى مصر بألفي سنة؛ معَ الهكسوس مستوطني مصر مدة خمسمئة سنة؛ يتكلمون بها وينشرونها حتى وصلت مالطة. وقد ركز في بحثه هذا على نقاط من شأنها أن تثير الفتن، وتزرع في القلوب الإحن. مثل حديثه عن الفتح الإسلامي لمصر، وتسميته بالغزو الإسلامي، مما أثر على بقاء لغتهم.
و في أثناء ذلك زيَّف كثيرًا من الحقائق العلمية والأدبية كقوله:
إن اللغة المصرية أكثر ارتباطًا من اللغة العربية باللغة العبرية وأخواتها اللغات السامية ، وهي تمتاز على اللغة العربية بخصائص مثل أسلوب النفي المزدوج، كقولهم: (أنا ما عملتش)، وقوله: إن الحياة في مصر الزراعية لم تلائم العرب؛ ولذلك قلّ تأثيرهم في اللغة المصرية.
ونظرًا لتهافت هذا القول وسخافته فإننا نربأ بأنفسنا أن نرد عليه.
ولم يكتف “ولكوكس” بتأليف الرسالة المذكورة فقط، بل سارع إلى تأليف كتاب آخر سماه (الأكل والإيمان)، أراد أن يضرب به عصفورين بحجر واحد -كما يقولون- ففي الوقت الذي احتوى فيه كتابه على إرشادات صحية، وفوائد طبية، ضمنه تعاليم مسيحية، وإرشادات دينية.
كذلك، أدرج العامية في نماذج علمية، وجعل ذلك كله في قالب حواري بين فتى يسأل وأستاذ يجيب، ثم بعد لأي؛ أنشأ “ولكوكس” مجلةً أطلق عليها اسم (الأزهر)، لأغراض ذكرها-كذبًا- في المقدمة، قال: (ولقد افتتحت الأزهر وشحنته بالمسائل الرياضية المفيدة بعدما وقفت على شدة عوز المصريين لهذه الفنون، وأن السبب الوحيد في تأخر العلوم إنما هو تأخر لغة التأليف، وعدم إقدام المؤلفين على تصنيف كتبهم باللغة الحية المستعملة التي يعلمها ويتكلم بها كل مصري -يقصد العامية- ضنّا منهم على أبناء جلدتهم بالمعلومات النافعة، فأخذوا يضعونها في لغة غير مشهورة لا يعلمها إلا القليل، ولذلك أصبحت دائرة هذه العلوم ضيقة، …فحملني حبي لنشر العلوم وميلي لتنوير المصريين أن أسير في هذه المجلة سيرًا وطيدًا عامًا، …فأبوا إلا أن يترجموا عن أفكارهم بلغة غير مشهورة،(يقصد الفصحى) وأخذوا يرسلون بها الرسائل العديدة بغية رصدها بالجريدة، فما كان يسعني في ذلك الوقت إلا قبولها وشكرهم، مؤملًا أنهم ربما يخلعون نعل الخوف والإحجام ويلبسون رداء الحرية والإقدام، فيعبرون عن معلوماتهم باللغة الحية)، غير أن محاولته قد باءت بالفشل، ولم يلبث أن أغلق مجلته بعد صدور العدد العاشر منها، ثم شرع في ترجمة الإنجيل إلى اللغة العامية، وترجمة قطَعًا من روايات الأديب شكسبير أيضاً.
وقد أظهرت هذه الترجمات عجز العامية في نقل بعض أفكار “شكسبير”، مما ساقه إلى الرجوع إلى الفصحى ليستعير منها بعض الكلمات والجمل، كذلك رأينا أنه صبغ العامية بلهجته الأجنبية، هذا إلى ما أحدثته العامية من تشويهٍ ومسخٍ لروائع “شكسبير”.
ومع أن هذا الإخفاق الذي مُني به “ولكوكس” كان كفيلًا بالقضاء على طموحه، وتحطيم آماله، إلا أن مقته للعربية، وحقده عليها أبقى جذوة الحماس في قلبه ونفسه مشتعلة ومتوهجة، فلم يلبث أن سهر وتعب وكَدَّ على إعداد مقالة؛ ألقاها في نادي الأزبكية سنة 1893، عنوانها، (لِمَ لَمْ توجد قوة الاختراع)، مقالة شديد الخطورة، وربما تكون أشد خطورة من كل ما سبق من أعماله كلها، حاول فيها أن يقلب الأمور، ويزيف الحقائق بمنتهى الخبث والدهاء والغرور؛ خاطب الناس فيها على قدر عقولهم وأفهامهم، حتى يتمكن من الوسوسة والإيحاءات الشيطانية، وذكر أن العامل الأكبر في فقد قوة الاختراع لديهم هو استخدام اللغة العربية الفصحى في القراءة والكتابة، ونصحهم باتخاذ اللغة العامية أداة للتعبير الأدبي، اقتداء بالأمم الأخرى؛ مستشهدا بالأمة الإنجليزية. وقال إنها أفادت فائدة كبيرة منذ أن هجرت اللاتينية التي كانت لغة الكتابة والعلم يومًا ما. وقد أشاد بقدماء المصريين، وعظم من شأنهم، فآثارهم تدل على قوة الاختراع، والابتكار والإبداع لديهم، وفي الوقت نفسه حمل على خلفهم الذين أضاعوا أمجاد أسلافهم من الفراعنة القدماء، ففقدوا بسبب ذلك قوة الاختراع، وأضاعوا إرث الأوائل من أعمال نافعة ومجد أثيل، إلا أنه مازال متفائلًا بمستقبل المصريين؛ لثقته بقدرتهم على استرجاع قوة الاختراع؛ إذا اتبعوا مشورته، ولبوا دعوته؛ وهي الكتابة والتأليف بالعامية. تلك الدعوة التي يزعم أنه لم يهدف من ورائها إلا خدمة المعارف ونشرها.
قال: (وما أوقفني هذا الموقف إلا حبي لخدمة الإنسانية، ورغبتي في انتشار المعارف، وما أجده في نفسي من الميل إليكم الدال على ميلكم إلي.. ولعلي أجد أذنًا صاغية وقلبًا واعيًا وفاضلًا يلبي دعوتي، ويؤمِّن على مقالتي حتى لا يذهب تعبي هباء منثورًا).
وبنفس هذه الروح التي تكلم بها “ولكوكس” عن الفصحى، تكلم عن “العرب”، فهم في نظره؛ كسالى، قتلة، لصوص، قطاع طرق، جبناء…ولا يستند في مزاعمه على دليل وبرهان؛ سوى ما يدعيه من أنها تجارب شخصية.
هذه الدعوة التي تولى كبرها المستشرق “ولكوكس”، المحب للعرب، الحريص على مصلحتهم، الحاني على لغتهم؛ الذي بذل وقته وماله، وشبابه في سبيل تدميرها، أبطل الله عز وجل أعماله، ورد كيده إلى نحره، وما ذلك إلا أن العربية محفوظة بالقرآن، والقرآن محفوظ بالله، والله سبحانه ؛حي باقٍ لا يموت!
ولله در الشاعر:
كناطحٍ صَخْرةً يَوْماً لِيَفلِقَها
فلمْ يَضِرْها وأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ
زر الذهاب إلى الأعلى
السلام عليكم يا دكتور أحمد
ما زلت تدلو بدلوك وتبهرنا بما تقدمه لنا من مواضيع حساسه ولم تطرق من قبل حسب علمي
ولم اتوقع هذه الحرب على اللغة وقوة تأثيرها.
تحياتي واحترامي وان القوة والعقل هو ما يتعرض لاشد الهجمات حسدا وشرا بمصلحة وهي كذلك اللغة العربية والاسلام وازيد من الشعر بيت كذلك الحضارة الاسلامية العربية التي فتحت عقول الناس على البسيطة .مقال يبين مقدار اهمية تراثنا وشدة تاثيره وبلوغ الحسد ذروته علينا .كلامك مهم ويجب ان يدرس بعناية وانت دكتور احمد الزبيدي الباحث الذي تذود عن التراث العربي وانت القادر على ايضاح حجم المؤامرات والحروب التي خاضها هذا التراث ليبقى وبقي شامخا لان كما ذكرت الله خير حافظا .مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لشخصك الكريم ولهمتك العربية العالية .تحياتي
مهند الشريف