العَذْلُ: الَّلوْم، والفئة: الجماعة من الناس. ويريدُ العشاق؛ يقول: دع من لومك قوما أضلّهم الله في الهوى حتى تهالكوا فيه، فاستولى عليهم، وغلب عقولهم، فإنك لا ترشدهم وقد اضلّهم الله، فهم لا يصغون إلى عذلك لما وصفت لك من حالهم. وهذا المعنى كثير في ديوان سلطان العاشقين (ابن الفارض)، فقد نفنن فيه ما شاء.
فمنه قوله:
وفي حُبِّها بعتُ السعادةَ بالشقا
ضَلالاً وعقلي عن هدايَ به عقلُ
وقوله:
يا عاذلَ المشتاقِ جهلاً بالَّذِيْ
يلْقَى مَلِياًّ لا بلغت نجاحاً
أقصر عدمتك واطَّرِحْ من أثخنت
أحشاءه النجل العيون جراحا
ماذا يريد العاذلون بعذل من
لبس الخلاعة واستراح وراحا
ومما يحكى عن سبب تزهد ابن الفارض وتنسكه؛ ما رواه ابن فضل الله العمري، قال: (حُكي أن ابن الفارض كان قاضيا؛ فأتى يومًا المسجد الجامع، والخطيب يخطب يوم الجمعة، وشخص يغني، فنوى إقامته وتأديبه، فلما انقضت الصلاة، وانتشر الناس وأراد ابن الفارض الخروج، ناداه ذلك الرجل: أن أقبل! فلما وقف عليه أنشده:
قسم الإله الأمر بين عباده
فالصّبّ ينشد والخليُّ يسبّح
ولعمري التسبيح خير عبادة
للناسكين وذا لقوم يصلح
قال الإمام التنوخي: أنشدني أبو محمد عبد الله ابن محمد، لنفسه:
ثلاثة ما اجتمعن في رجل
إلّا وأسلمنه إلى الأجل
ذل اغتراب، وفاقة، وهوى
وكلّها سائق على عجل
يا عاذل العاشقين إنّك لو
أنصفت رفّهتهم عن العذل
فإنهم- لو عرفت صورتهم-
عن عذل العاذلين في شغل
وقد فهم أناس عن المتنبي أن العشق كله ضلال، وهو فهم خاطيء، لأن المتنبي نفسه -رحمه الله- كان يعشق خولة أخت سيف الدولة الحمداني عشقا عفيفا. وهذا يسوقنا سوقًا، ويجرنا جرًا للكلام عن الحديث المشهور : ” من عشق فعف فكتم فمات، مات شهيداً “، ويروى: ” من عشق فعف ثم مات مات شهيداً “، ويروى ” فهو شهيد”. وقد روي من طريق سويد بن سعيد مرفوعاً وأنكره ابن معين. والحديث فيه كلام كثير ولو أسهبنا فيه لخرجنا عن موضوعنا. وللإمام أحمد بن الصديق الغماري الحسني رسالة باسم:” درء الضعف عن حديث من عشق فعف”.
قال الإمام الغزالي في شرحه لهذا الحديث: “اعلم أن هذه الشهوة هي أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل…فإن من ترك الزنا اندفع عنه إثمه بأي سبب كان تركه، وإنما الفضل والثواب الجزيل في تركه خوفاً من الله تعالى مع القدرة وارتفاع الموانع وتيسر الأسباب؛ لا سيما عند صدق الشهوة، وهذه درجة الصديقين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم “من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد”.
وفي صحيح البخاري برقم: (629):سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؛ وعد منهم رجل دعته امرأة ذات جمال وحسب إلى نفسها، فقال إني أخاف الله رب العالمين، وقصة يوسف عليه السلام وامتناعه من زليخا مع القدرة ومع رغبتها معروفة.
قال الإمام محمد بن داود إمام المذهب الظاهري (ت ٢٩٧هـ) في حديث:” مَن عشق فعفَّ فكتمه فمات فهو شهيد” :” ولو لم تكن عفَّة المتحابَّين عن الأدناس وتحاميهما ما ينكر في عرف كافة النَّاس محرَّماً في الشرائع ولا مستقبحاً في الطَّبائع لكان الواجب على كلِّ واحد منهما تركه إبقاء ودّه عند صاحبه وإبقاء على ودِّ صاحبه عنده”.
وقال الإمام ابن حزم الظاهري-الرسائل- (1/257):”… ربما تزايد الأمر، ورق الطبع، وعظم الإشفاق، فكان سبباً للموت ومفارقة الدنيا، وقد جاء في الآثار: ” من عشق فعف فمات فهو شهيد “. وفي ذلك أقول قطعة منها: (من الوافر)
فَإِنْ أَهْلِكْ هَوَى أَهْلِكْ شَهِيدًا …
وَإِنْ تَمْنُنْ بَقِيتُ قَرِيرَ عَيْنِ
رَوَى هَذَا لَنَا قَوْمٌ ثِقَاتٌ
نَأَوْا بِالصِّدْقِ عَنْ كَذِبٍ وَمَيْنِ
وَقَالَ ابْنُ الدَيْبَعْ:
تَعَفَّفَ إِذَا مَا تَخْلُ بِالْخِلِّ عَالِمًا
بِكَوْنِ إِلَهِي نَاظِرًا وَشَهِيدًا
فَفِي خَبَرِ الْمُخْتَارِ مَنْ عَفَّ كَاتِمًا
هَوَاهُ إِذا مَا مَاتَ مَاتَ شَهِيدًا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “الفتاوى” (ج:10 ، ص: 133):” وقد روي في الحديث: (أن من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات كان شهيدا) وهو معروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا وفيه نظر ولا يحتج بهذا. لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظرًا وقولًا وعملًا وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلام محرم إما شكوى إلى المخلوق، وإما إظهار فاحشة وإما نوع طلب للمعشوق وصبر على طاعة الله وعن معصيته وعلى ما في قلبه من ألم العشق كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة؛ فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.
وكان أبو الأسود الدؤلي ممن صحب علياً-رضي الله عنه- وكان من المتحققين بمحبته ومحبة ولده، وفي ذلك يقولُ:
يقولُ الأَرْذَلونَ بَنُو قُشَيْرٍ
طَوالَ الدَّهرِ ما تَنْسَى عَلِيَّا
بَنُو عَمِّ النَّبِيّ وأَقْرَبُوهُ
أَحَبُّ النَّاسِ كُلِّهمُ إِليَّا
فإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْداً أُصِبْهُ
ولَيْسَ بمُخْطِئٍ إِنْ كانَ غَيَّا
فقال له بنو قشير: “شككت يَا أَبا الأسود في صاحبك حيث تقول: فإن يك حبهم رشدا أصبه “..، فقال:” أما سمعتم قول الله عز وجل: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، أفترى الله عز وجل شك في نبيه؟ !”.
قال الماوردي : ” ولا شَكَّ ، أن أبا الأسود الدؤلي ، لم يكن شاكّاً في حبِّهم ، ولكن أَبْهَمَ على مَنْ خاطبه. والثاني: أن {أَوْ} ها هنا بمعنى الواو، وتقديره فهو كالحجارة وأشد قسوة ، ومثله قول جرير:
جاءَ الخلافة أو كانت له قدرا
كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
و في الصّبرُ على أذى المحبوب:
بئس الليالي سهدت من طربي
شوقاً إلى من يبيت يرقدها”
قال الشيخ أبو فهر:” وجاءت الرواية بلفظ: «سهدت» بدلًا من «سهرت»، وبئس للذّم. سهدت: سهرت. أي: أنا أسهر الليالي أرقاً متشوقا إلى الحبيب الذي ينام ملء عينيه وهو غير مشوق لي. فهو يذم الليالي التي سهر فيها ولم ينم لما أخذه من القلق وخفة الشّوق إلى من يحب.
وهنا لفتة بلاغية جميلة؛ وهي حذف المخصوص بالذم، فإن أصل البيت: “بئس الليالي ليال سهدت فيها”، وهو جائز عند أهل العلم، وقد جاء منه في القرآن قوله تعالى: (ومنْ آياتهِ يريكمْ البرقَ)، التقدير: آية يريكم فيها البرق.
وعيب على المتنبي من جهة المعنى؛ أنه لم يكن صادق الهوى، ولو كان كذلك لاستعذب مرارته، واستلان قساوته، واستساغ علقمه، بله أن يتبرم منه! ولا معابة على الناظم، فهو لم يتبرم من الهوى، ولم يتضجر من الحب، ولكن تبرمه وتضجره كان من سهره الليالي أرقاً متشوقا إلى الحبيب الذي ينام ملء عينيه وهو لا يشعر به . وقديما شكى الناظم من ذلك فقال:
أَنْتَ الحَبِيْبُ وَلكِنَّي أَعُوذُ بِهِ
مِنْ أَنْ أَكُونَ مُحِبَّاً غَيْرَ مَحْبُوبِ
يقول أنت المحبوب أحبك وأعوذ بك من أن لا تحبني لأن أشقى الشقاوة أن تحب من لا يحبك.
وقال الأخر:
ومِنَ الشَّقاوَةِ أَن تُحِبَّ
وَلَا يُحِبُّكَ مَنْ تَحِبُّه
وفي “تزيين الأسواق” (ص112): (عن إبراهيم بن ميمون، قال: حججت؛ فإذا أنا بسوداء قائمة ساهية، فأنكرت حالها فمكثت ساعة ثم أنشدت:
أعمرو علام تجنبتني
أخذت فؤادي وعذبتكم
فلو كنت يا عمرو أخبرتني
أخذت حذاري فما نلتني
فقلت لها ومن عمرو؟ قالت زوجي، أوهمني أنه يحبني حتى تزوجته، وعندي من الحب له ما عنده لي، فتركني ومضى إلى جدة. فقلت لها: لك أن أجمع بينكما؟ قالت ومن لي بذاك، فمضيت حتى وقفت بالساحل فصرت أنادي من يخرج من المركب يا عمرو؛ وكانت قد وصفته لي بأنه أحسن ما أرى، فإذا أنا بفتى على ما وصفت فأنشدته الشعر فقال قد رأيتها. قلت فما يمنعك منها؟ قال والله عندي أضعاف ما عندها وإنما منعني الاكتساب. قلت فكم يكفيك في كل سنة؟ قال ثلاثمائة درهم فأعطيته ثلاثة آلاف درهم، وقلت هذه بعشر سنين، فإذا فَنيت أو قاربت فاتني أوجه إليك بمثلها، ثم جمعت بينهما فكان أعظم عندي من الحج).
و إذا كان أبو الطيب قد تعوذ من أن يكون مُحبًا غير محبوب، فإن سلطان العاشقين، كاد في الهوى أن يذوب، وكان يستدفيء بلظى القلوب، ويستعذب هوى الرعبوب!
قال:
أمسيتُ فيكَ كما أصبحتُ مكتئباً
ولم أقلْ جَزعاً يا أزمةُ انفرجي
ومن الموشحات التي أحكمت فيها المناسبة والصنعة، ما قيل فيها :