مقالات

بين العامية والفصحى (6) د. أحمد الزبيدي         –         الإمارات

د. أحمد الزبيدي

(رفاعة الطهطاوي رائد البعثات العلمية)

يُعَدُّ الشيخ “رفاعة الطهطاوي”، (1801 – 1873 م)، من أبرز الداعين إلى ضبط العامية والتصنيف فيها؛ وكثير من الناس لا يعرفون عنه غير اسمه؛ الذي سمعوه يذكر على ألسنة بعض الممثلين في مسرحية “مدرسة المشاغبين”.

حقيقة البعثات العلمية:

ولدت فكرة البعثات العلمية في دوائر استشراقية مغلقة، وتعهدتها؛ برعاية خاصة عقول كبيرة؛ لم تفتأ تخطط، وتدبر، وتقدر، لتحقيق أهداف كبيرة بعيدة المدى. نظرت هذه العقول، فلما رأت من محمد علي-حاكم مصر– رغبات جامحة، ومطامح سانحة، كانت تراوده ليل نهار في السيطرة على وادي النيل والاستقلال به عن جسم الخلافة العثمانية، أحاطته من كل جانب؛ تراقب أهواءه، ومطامعه، فجعلت تغذيها وتزيدها ألقًا وتوهجًا، لتجعله قوة في قلب الخلافة، وشوكة في خاصرتها، تنازعها سلطانها، وتمعن في هدمها ، فيسرع  إليها الخراب ، فترتخي قبضتها، ويتقلص سلطانها ، فإذا ما تم لها ذلك، خلا الجو للصليبية للانقضاض على الأقاليم الإسلامية ، وحينئذ يسهل افتراسها.

 ومن أمثالنا : ” إِنَّمَا ‌أُكِلْتُ ‌يَوْمَ ‌أُكِلَ الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ”، وهكذا حصل.

ولقد اغتر أناس في البعثات التي انطلقت سنة (1813م)، وكان هدفها بناء الجيش المصري وتسليحه، من أجل مساعدة محمد علي في حروبه التي يخوضها في جزيرة العرب سنة (1811-1819م)، وفي الاستيلاء على أجزاء أخرى من جسم الخلافة؛ مما سيزيد في إضعافها، ويعجل في تفكيكها. هذه كانت غاية العقول الكبيرة الماكرة التي كانت ترسم وتخطط لمحمد علي، حتى صار بحقٍ العين التي يبصرون بها، واليد التي يبطشون بها! وأغلب الظن أن محمد علي عندما كان سائرًا في طريق إرساء ملكه ، كان يرسيه ويؤسسه على أنقاض يقظة عربية بدأت في تلمس النور.

في هذه الأثناء كان في فرنسا رجل من دهاة المستشرقين، يراقب كل ما يحدث في أرض الكنانة، وكانت له منزلة وحظوة عند القائد الفرنسي نابليون، وكان نابليون يستشيره في كل صغيرة وكبيرة من شئون مصر، وكان إلى ذلك عضوًا في المجمع العلمي الفرنسي، فعمل دائبًا لإغراء وإقناع محمد علي لإرسال بعثات علمية مصرية إلى فرنسا تكون في رعايته وتحت إشرافه،وكان يتم اختيار الوفود من الشباب الغر يمكثون في فرنسا سنوات عدة، يُضْبعون عند مشاهدة الحضارة والمدنية الفرنسية، ويقبلون على تعلم لغتها، ويعتادون على تقاليدها، ويستمرئون تغذية عقولهم بثقافتها؛ وإن كانت مناقضة للثقافة الإسلامية، فإذا عاد فريق منهم إلى مصر وتقلد شيئًا من مناصبها، كان حزبًا للفرنسيين، وإلبًاً على المصريين!

في سنة 1826م وصلت أول بعثة مصرية إلى فرنسا، وتتابعت البعثات إلى سنة 1847م ، ولأمر ما كانت كلها من الشباب، وكانت كلها تحت إشراف ذلك الداهية الخبيث “جومار” تُصنع على عينه. وكانوا صغارا  ‌لا ‌يملكون ‌ثقافة إسلامية يعتد بها، وما لبثوا أن وضعوا في عهدة المستشرقين؛ يعلمونهم، ويثقفونهم، ويوجهونهم نحو طريق لا يعرفون آخره، حتى إذا بلغوا أشدهم واستووا ، على ما يهوون ويتمنون أعادوهم إلى بلادهم ليبدأ عملهم المرتقب الذي ابتعثوا لأجله. وقد اختير رفاعة الطهطاوي للبعثة الأولى، يكون إمامًا لها، يصلي بأعضائها، ويعظهم، ويأمرهم، وينهاهم، وهو -كما قال مترجموه – ” ولد في “طهطا” بمديرية ،جرجا، سنة 1801م ، فحفظ القرآن، وقرأ شيئًا من المتون، وانتظم في سلك الأزهر عام 1817م، وهو في السادسة عشرة من عمره، ليتلقى العلم فيه ثماني سنوات.

حمل الطهطاوي على متن سفينة جميلة، سريعة، تشق البحر شقًا؛ بثقة واطمئنان، لتلقيه وأصدقاءه في فرنسا؛ فتبهره النظافة في شوارعها، ورحابة ميادينها، وتلؤلؤ أنوارها، وتناسق حدائقها، ويسكره عبق عطورها، فيظن نفسه في حلم جميل، لا يحب أن يصحو منه، فما فتح عينيه واستفاق إلا ليجد نفسه بين مخالب المستشرق الماكر “جومار”، فرأى فيه الآخر فريسة سمينة ! فما لبث أن أسلمه إلى فريق من المستشرقين يرأسهم العالم المشهور “سلفستر دي ساسي”، فاستغلوه أبرع استغلال، وصبوا في عقله، وسكبوا في قلبه، أفكارا ومفاهيم ترجمها في كتابه (أنوار الجليل في اخبار مصر وتوفيق بن إسماعيل) -كما يقول أبو فهر- من الدعوة إلى استعمال العامية ،التي يقع بها التفاهم في المعاملات السائرة، ولا مانع أن تكون لها قواعد قريبة المأخذ تضبطها، وأصول على حسب الإمكان تربطها، ليتعارفوا أهل الإقليم، حيث نفعها بالنسبة لهم عميم، وتصنف فيه كتب المنافع العمومية، والمصالح البلدية (أباطيل وأسمار ) –          ص159- 160-.

ست سنوات طوال قضاها الطهطاوي في باريس يتعلم الفرنسية، والتاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، والآداب الفرنسية، وفنون التعليم والتدريس، وقرأ فولتير، ومنتسكيو، وروسو، وغيرهم من المفكرين والأدباء…الخ. ثم -بعد لأي- وفي سنة 1836م يُناط به إنشاء “مدرسة الألسن”، -بعد عودته بخمس سنوات- وهي ثمرة خبيثة من ثمار الاستشراق ، وهي كما يصفها المؤرخ عبدالرحمن الرافعي (المدجّن) كما يصفه شاكر: “عبارةً عن كليِّةٍ تدرس فيها آداب اللغة العربية واللغات الأجنبية، وخاصّةً الفرنسية والتركية والفارسية، ثم الإيطالية، والإنجليزية، وعلوم التاريخ، والجغرافيا، والشريعة الإسلامية، والشرائع الأجنبية، فهي أشبه ما تكون بكلية الآداب والحقوق، فلا غرو أن كانت أكبر معهد لنشر الثقافة في مصر”.

قال محمود شاكر في كتابه النفيس (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) -ص: 145-:”وبأقل التأمل في مناهج (مدرسة الألسن) تعلمُ يقينًا لا شك فيه أن الطهطاوي لم يكن مؤهلًا لتدريس أكثر هذه العلوم، ولا كان في مصر يومئذ من المصريين من هو مؤهل لتدريسها، فلا مناص من استقدام من يظن فيه أنه مؤهل لتدريسها من الأجانب ومن المستشرقين خاصة، وكذلك كان، فكان هؤلاء الدهاة من صنائع “الاستشراق” هم الذين تولوا تثقيف 150 تلميذًا؛ كان رفاعة الطهطاوي يختارهم صغارًا من مدارس الأرياف والأقاليم، ومن طلبة الأزهر.

 وبذلك وضع الطهطاوي أساسًا لمدرسة ملفقة ، مبتورة الصلة كل البتر، من مركز “الثقافة المتكاملة” التي كان الأزهر مَهدها على مدى قرون متطاولة ، وكان هو وحده على طول هذه القرون، مركز ثقافة دار الإسلام في مصر. وكذلك أحدث الطهطاوي صدعًا مبينًا في ثقافة الأمة، وقسمها إلى شطرين متباينين: “الأزهر” في ناحية، و”مدرسة الألسن” في ناحية، وكذلك حقق رفاعة لدهاة “الاستشراق” أهم ما يتوقون إليه من وأد “اليقظة” الواحدة المتماسكة التي كان الأزهر مركزها منذ عهد “البغدادي”، و”الزبيدي”، و”الجبرتي الكبير” في وقت كان فيه محمد علي الجاهل يحطم فيه أجنحة الأزهر ، ويضعه في قفص لا يستطيع الإفلات منه، ويدبر كل مكيدة لإسقاط هيبته وهيبة مشايخه، ويعزلهم عن جمهور الأمة عزلًا بين قضبان من الحديد، وجدران من الصخور ، ومرت الأيام والسنون، وهذا الصدع يتفاقم حتى انتهينا إلى ما نحن عليه اليوم من الانقسام والتفريق، وذهبت “الثقافة المتكاملة” في دار الإسلام مصر في أدراج الرياح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. في مصر وفي سائر بلاد المسلمين.
    تغيّر الزّمان وما اختلف المكان ولا الهدف، وما زالت القصَّة تعيد نفسها دونما حاجة لتغيير الحبكة ما دام القوم يتهافتون على أن يكونوا جزءاً منها.

  2. جزاك الله كل خير جمعت بين روائع اللغه الفصحى واشبعتنا من مفاتنها بأسوب راقي ووضحت ما هي العاميه وما وراء من نادى بها مضيفا لنا البراهين من التاريخ.
    شكرا لك.

  3. عزيزي الدكتور أحمد
    بارك الله فيك وفي علمك على هذا المجهود الطيب، وأود أن أسألك سؤالا
    هل كان للكاتبين سلامة موسى ولويس عوض دور في التغريب والدعوة إلى العامية وهجر الفصحى؟
    فإذا كان لهما دور في ذلك فأرجو أن تكون الحلقة القادمة عنهما أو عن أحدهما ولك جزيل الشكر والامتنان.

    1. وفيك بارك، لا شك أن للكاتبين اللذين ذكرتهما مشاركات فاعلة في نظرية” الإقصاء والإدناء”، ومن المؤكد أن نكتب عنهما في الحلقات القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى