قال العلامةُ محمود محمد شاكر -رحمه الله- :” إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -في ما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).
وقال د. عماد الدين خليل في كتابه: “المستشرقون والسيرة النبوية” (ص6): (إن هذا الموقف المتوحّد من السيرة الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين.. والذي يجد في السيرة تعبيرًا متكاملًا عن العقيدة التي ينتمي إليها، يجد في الدراسات الاستشراقية (الخارجية) عن السيرة تغرّبًا عن مسلّماته وخروجًا صريحًا عن بداهاته، وما يمكن اعتباره محاولات متعدّدة لإصابة هذه المسلّمات والبداهات بالجروح والكسور، وهي لن تفعل فعلها في يقينه، إلّا في حالات معينة بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمّها إلى الاشمئزاز والنّفور).
اختلف أهل العلم في ذلك اختلافًا كبيرًا، فمنهم من يرى أنه لا فرق بينهما، ومنهم من يرى فرقًا. وهذا هو الصواب إن شاء الله، لأن الأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد.
قال “الكفوي “في “الكليات” (ص:1065):”التأسيس أولى من التأكيد، لأن الإفادة خير من الإعادة “.
وتلخيص ذلك: أنهما يشتركان في الوحي، وكذلك يشتركان في أنهما مأموران بالبلاغ. ويفترقان؛ في كون الرسول مأمورًا بتبليغ رسالة ما إلى أمة من الأمم المكذبين، والنبي مأمور بالبلاغ والدعوة، دون أن يكون هناك رسالة مستقلة إلى أمة جديدة من الأمم المكذبة.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قال الْمُفَسِّرُونَ : ” لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه، شق عليه ذلك، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب به بينه وبين قومه. فأنزل الله: {والنجم إذا هوى …الآية}، فلما انتهى إلى قول الله: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19] ، ألقى الشيطان على لسانه : «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتضى» . فلما سمعت قريش ذلك فرحوا بذلك، والمؤمنون مصدقون نبيهم في ما جاءهم به عن ربهم ، فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة، سجد فيها. فسجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقًا لما جاء به واتباعًا لأمره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة، فإنه كان شيخًا كبيرًا فلم يستطع، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها. وخرجت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقد زعم في ما يتلو أنها الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتضى، وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: أسلمت قريش. فنهضت منهم رجال، وتخلف آخرون. وأتى جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم يقل لك فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وخاف من الله خوفًا كبيرًا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} [الحج: 52] .. فأذهب الله عن نبيه الحزن، وأمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم أنها الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتضى. يقول الله حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، إلى قوله: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} أي: فكيف تمنع شفاعة آلهتكم عنده، فلما جاءه من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه قالت قريش: ندم محمد على ما كان من منزلة آلهتكم عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره، وكان ذلك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسوله قد وقعا في فم كل مشرك، فازدادوا شرًا إلى ما كانوا عليه “. هذا ما ذكره عامة المفسرين الظاهريين.
أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول. أما القرآن فوجوه: أحدها: قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ}.
وثانيها: أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة.
وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة.
ورابعها: قوله تعالى : {فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته} وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلًا أولى
وخامسها: وهو أقوى الوجوه أنّا لو جوَّزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}. فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة.
ولنشرع الآن في التفصيل؛ فنقول: التمني جاء في اللغة لأمرين: أحدهما: تمني القلب، والثاني: القراءة، قال الله تعالى:{ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني] [البقرة: 78] أي إلا قراءة لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف وإنما يعلمه قراءة، وقال حسان:
تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخرها لاقى حمام المقادر
قيل إنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها، وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها. وقال رواة اللغة: “الأمنية القراءة”، واحتجوا ببيت حسان، وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكرناه، فإن التالي مقدر للحروف ويذكرها شيئًا فشيئًا، فالحاصل من هذا البحث أن الأمنية، إما القراءة، وإما الخاطر. أما إذا فسرناها بالقراءة ففيه قولان: الأول: أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، ويشتبه على القارئ دون ما نسبوه إليه من قوله “تلك الغرانيق العلى”.
وقال قوم: أنه عليه السلام تكلم بذلك قسرًا، وإن الشيطان أجبره على أن يتكلم بهذا، فهذا أيضًا فاسد لوجوه: أحدها: أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي عليه السلام، لكان اقتداره علينا أكثر فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين، ولجاز في أكثر ما يتكلم به الواحد منا أن يكون ذلك بإجبار الشياطين. وثانيها: أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال. وثالثها: أنه باطل بدلالة قوله تعالى حاكيا عن الشيطان (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) [إبراهيم: 22] وقال تعالى:[إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه] [النحل: 99، 100] وقال:[إلا عبادك منهم المخلصين] [الحجر: 40] ولا شك أنه عليه السلام كان سيد المخلصين.