د. أحمد الزبيدي
قال العلامةُ محمود محمد شاكر -رحمه الله- :” إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -في ما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).
وقال د. عماد الدين خليل في كتابه: -المستشرقون والسيرة النبوية- (ص6): (إن هذا الموقف المتوحّد من السيرة الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين.. والذي يجد في السيرة تعبيرا متكاملا عن العقيدة التي ينتمي إليها، يجد في الدراسات الاستشراقية (الخارجية) عن السيرة تغرّبا عن مسلّماته وخروجا صريحا عن بداهاته، وما يمكن اعتباره محاولات متعدّدة لإصابة هذه المسلّمات والبداهات بالجروح والكسور.. وهي لن تفعل فعلها في يقينه، إلّا في حالات معينة بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمّها إلى الاشمئزاز والنّفور).
قصة سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم وزواجه من السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها.
(ج:3)
تمسك الطاعنون والمستشرقون بما ذكره بعض المفسرين في سبب نزول قوله تعالى {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيت زيد في غيبته، فرأى زينب في زينتها، فوقع حبها في قلبه، فرجع وهو يقول: سبحان الله العظيم، سبحان مقلب القلوب، فلما حضر زيد أخبرته بكلام رسول الله، فذهب زيد، وقال: بلغني أنك أتيتَ منزلي، فهلاّ دخلت يا رسول الله، لعل زينب أعجبتك، فَأُفارقها، فقال له رسول الله: أمسك عليك زوجك، واتق الله، فنزلت الآية.
قال الحافظ ابن حجر-فتح الباري- (8/524):” بعد ذكر الرواية: “ثم آثار أخرى، أخرجها ابن أبي حاتم، والطبري، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، وما أوردته هو المعتمد”. يشيرُ إلى ما أخرجه ابن أبي حاتم، ولفظه: هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب: عمة رسول الله، وكان رسول الله أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه، فكرهت ذلك، ثم رضيت بما صنع رسول الله، فزوجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه بعد، أنها من أزواجه، فكان يستحيي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال بين زيد وزينب ما يكون بين الناس، فأمره رسول الله أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشى أن يعيب عليه الناس، ويقولوا: تزوج امرأة ابنه، وكان قد تبنى زيدا.
قال الإمام الرازي:
-
الذي يدل عليه -القرآن- أنه لم يصدر من الرسول في هذه الواقعة مذمة، ولا عاتبه الله على شيء منه؛ ولا أنه اعترف على نفسه مخطئا، ولو فعل لوُجد من ذلك شيء .
-
وقد ذكر في القصة أنه ليس على النبي من حرج فيما فرض الله له، وهذا تصريح بانه لم يصدر منه ذنب البتة.
-
وأنه تعالى إنما زوجه زينب كيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج ادعيائهم إذا قضوا منهن وطرا، ولم يقل: إني فعلت ذلك لأجل عشقك.
-
وقوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا}، و لو حصل في ذلك سوء لكان قدحا في الله تعالى. فثبت بهذه الوجوه انه لم يصدر منه ذنب البتة في الواقعة. أما قوله: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} فنقول: ذكر المحققون فيه وجوها أربعة:
الأول: أن الله تعالى لما أراد نسخ ما كان في الجاهلية من تحريم أزواج الأدعياء، أوحى الله أن زيدا -وهو دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم- يطلق زوجته؛ فتزوج انت بها. فلما حضر زيد ليطلقها أشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه لو طلقها للزمه ذلك بها فيصير بذلك سببًا لسوء كلام المنافقين فيه، فقال له ذلك { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} فثبت أن العلة في أمره بنكاحها ما ذكرناه من نسخ السنة المتقدمة.
وأن زيدا لما خاصم زوجته زينب، وهي بنت عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشرف على طلاقها أضمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إن طلقها زيد تزوج بها ،وكان يحب ضمها إلى نفسه، كما يحب احدنا ضم قراباته إليه حتى لا ينالهم ضرر، إلا أنه لم يظهر ذلك خوفا من ألسنة المنافقين فالله تعالى عاتبه في التفات قلبه إلى الناس، فقال {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}.
أن زيدا لما نكح زينب وجدها ذات جمال وعفة وقوة وعقل وحسن وخدمة، فبدا له أن ينزل عنها لينكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قربة إلى الله تعالى بإيثار رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه في حظ مباح. فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الأمر ولم يكن ذلك منكرا عنده صلى الله عليه وسلم، غير أن زيدا تبناه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان التزوج بامرأته محرما في الجاهلية، فعلم أنه لو نكحها أطالوا أسنتهم فيه؛ وكانوا على قرب عهد من الإسلام يحترزون عن مثل هذه الأمور، فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاحها وقال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وأخفى في نفسه عزمه ما في قلبه من الرضا حذرا عما ذكرناه، فنزلت هذه الآية {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ}يعني من إضمار الرضا { وَتَخْشَى الناس} يعني تستحي منهم ان يقولوا نكح زوجة ابنه {والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} في إظهار أمر غير ما تضمره، كذلك، إن زينب طمعت في أول أمرها أن يتزوج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خطبها لزيد شق عليها وعلى أخيها وأمها، حتى نزل قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} فانقادوا له، فلما بنى بها زيد نشزت عنه لاستحكام طمعها في رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحقارها زيدا، فشكاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، وأخفى في نفسه استحكام طمعها فيه، لأنه عليه الصلاة والسلام لو ذكر ذلك لزيد لتنغصت عليه تلك النعمة ، ولقال المنافقون: إنما قال ذلك طمعا في تلك المرأة.
فإن قلت: هب أن الأمر كذلك، فما بال قوله تعالى: { وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} يدل على ان ذلك الإخفاء ما كان جائزا له. قلت: أكثر ما فيه أنه أخفى ذلك اتقاء لسوء كلام المنافقين، ولو أنه أظهره وتحمل سوء مقالتهم لكان أكثر ثوابا فيه، فيرجع حاصله إلى ترك الأولى والأفضل، فأما الذين يذكرون من أنه عشقها فهو من باب الآحاد والأولى تنزيه الأنبياء عن مثله لاسيما والقرآن لا يدل عليه.
قال الإمام أبو بكر بن العربي “أحكام القرآن” (ج3: ص: 576) ) قد بينا في كتابنا هذا وفي غير موضع عصمة الأنبياء – صلوات الله عليهم – من الذنوب، وحققنا القول فيما نسب إليهم من ذلك، … أن أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيا إلا بما ذكره الله، لا يزيد عليه، فإن أخبارهم مروية، وأحاديثهم منقولة بزيادات تولاها أحد رجلين: إما غبي عن مقدارهم، وإما بدعي لا رأي له في برهم ووقارهم، فيدس تحت المقال المطلق الدواهي، ولا يراعي الأدلة ولا النواهي -إلى أن قال: وهذه الروايات كلها ساقطة الأسانيد؛ إنما الصحيح منها ما روي عن عائشة أنها قالت: لو كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كاتما من الوحي شيئا لكتم هذه الآية: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه} [الأحزاب: 37] يعني بالإسلام، {وأنعمت عليه} [الأحزاب: 37] يعني بالعتق، فأعتقته: {أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37] إلى قوله: {وكان أمر الله مفعولا} [الأحزاب: 37] وإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} [الأحزاب: 40].
وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا، يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} [الأحزاب: 5]. فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان، هو أقسط عند الله يعني أنه أعدل عند الله.
قال الإمام: وما وراء هذه الرواية غير معتبر.
زر الذهاب إلى الأعلى