مقالات

عصمة الأنبياء وتنزيههم في القرآن الكريم (18)  د.  أحمد الزبيدي        –         الإمارات

د. أحمد الزبيدي

قال العلامةُ محمود محمد شاكر -رحمه الله- :” إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -في ما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).

وقال د. عماد الدين خليل في كتابه: “المستشرقون والسيرة النبوية” (ص6): (إن هذا الموقف المتوحّد من السيرة الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين.. والذي يجد في السيرة تعبيرا متكاملا عن العقيدة التي ينتمي إليها، يجد في الدراسات الاستشراقية (الخارجية) عن السيرة تغرّبا عن مسلّماته وخروجا صريحا عن بداهاته، وما يمكن اعتباره محاولات متعدّدة لإصابة هذه المسلّمات والبداهات بالجروح والكسور.. وهي لن تفعل فعلها في يقينه، إلّا في حالات معينة بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمّها إلى الاشمئزاز والنّفور).

قصة سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم مع الأسرى

(ج:4)

مما استدل به الطاعنون الجاهلون في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم ما ورد فى القرآن الكريم من آيات ظاهرها عتاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، مثل قوله تعالى: {‌ما ‌كان ‌لنبى ‌أن ‌يكون ‌له ‌أسرى حتى يثخن فى الأرض. تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}.

فزعموا أن قوله تعالى:  {‌ما ‌كان ‌لنبى ‌أن ‌يكون ‌له ‌أسرى }. يلزم منه أن استبقاء الأسرى محرم. ثم قول الله تعالى {تريدون عرض الدنيا}. أنه مذموم  ومقبوح عنده سبحانه .

وقوله تعالى : {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}.

والجواب: أن هذه الآية الكريمة صُدرت بجملة “ما كان لنبى” وهو أسلوب عربي معروف؛ يتكون من “كان” المنفية و “ما” الآتى بعدها لام الجحود، تأكيداً لتقوية النفى فيها، وقد ورد مثله في القرآن الكريم، على وجهين:

 الوجه الأول: النفى كما في كقوله تعالى {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} وقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}  وهذا هو الأصل فى هذا الأسلوب، فإن توكيد فعل الكون بلام الجحود “أبلغ لفظ يستعمل فى النفى”  ومعناه انصباب النفى على ما قبل اللام وما بعدها نفياً مطلقاً يشمل جميع الحالات المعنوية التى يتضمنها الكلام.

بل قال أبو حيان الأندلسي؛ أن هذا التركيب يفيد معنى زائداً على نفي مجرد الفعل، وهو نفي التهيؤ للفعل المنفي عنه وإرادته والصلاحية له،ة ولا شك أن نفى التهيئة والإرادة للفعل أبلغ بكثير من نفى الفعل. وهي لفتة رائعة من أبي حيان.

الوجه الثانى: لاستعمال هذا الأسلوب فى القرآن الكريم، نهى ضمني عن أن يقع متعلق الخبر، كقوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله}.

وقد رجح بعض العلماء في آيتنا هذه معنى الآية على الوجه الأول، فإن الله عز وجل يبرئ نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون له تهيئة وقصد فى أخذ الأسرى، وإنهاء المعركة قبل الإثخان فى الأرض.

والمعنى على الوجه الثانى: نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون له أسرى قبل الإثخان فى الأرض، والمبالغة فى إضعاف قوة العدو، ولا يستلزم هذا النهي وقوع المنهي عنه من المخاطب، لجواز أن يكون وقوع المنهى عنه، كان ممن له صلة تبعية بالمخاطب، ويؤيد هذا أن “التنكير في كلمة نبى فى قوله {ما كان لنبي} إبهام فى كون النفي لم يتوجه لمعين؛ تلطفاً به صلى الله عليه وسلم، وإشارة إلى أن هذا سنة من سنن الله تعالى مع أنبيائه، وبياناً لأنه لم يكن صلى الله عليه وسلم متوجه القصد، إلى أن يكون له أسرى قبل الإثخان فى العدو، وإكثار القتل، وعلى ذلك يكون الخطاب – فى ظاهره – موجهًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا التلطف الذى يبرئ ساحته مما يوجب العتاب، ويكون الخطاب – فى حقيقته – موجهاً إلى الذين سارعوا إلى أخذ الغنائم والأسرى بمجرد ظهور بشائر النصر، ولم يصبروا حتى يمعنوا في قتل العدو، وقد نزه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن إرادة شئ من الدنيا فى قوله {ما كان لنبى}  الذى أخرج مخرج الغيبة، مع أن المقصود به هو النبي صلى الله عليه وسلم، إلى الجمع فى قوله: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} الذى قصد به بعض الصحابة، ممن كان همه عرض الدنيا وحده، والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبي صلى الله عليه وسلم ولا علية أصحابه رضى الله عنهم .

وهذا يدل دلالة واضحة وصريحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدر بخلده، ولم يهجس بخاطره، أن ينهى المعركة قبل الإثخان في العدو ليأخذ الأسرى، ويغنم أصحابه المغانم، ويؤكده ما رواه ابن إسحاق في سيرته(ابن هشام 2/290): “ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً السيف في نفر من الأنصار، يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ قال: أجل، والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال” وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على سعد بن معاذ ما رأى في وجهه من كراهية ما يصنع القوم، فاستفسره عن ذلك… وعلل سعد ذلك بأن هذه أول وقعة فى الإسلام نصر الله فيها المسلمين على أعدائهم من المشركين، فكان الإثخان في القتل أحب إليه من استبقاء الأسرى. وفيه دلالة على أن المعاتب عليه عدم الإثخان فى القتل، والإسراع إلى الغنيمة، لا أخذ الفداء، لأن سعداً أبان عن رأيه قبل الاستشارة في أخذ الفداء، وهذا كالصريح في أن أخذ الفداء من الأسرى لا عتاب عليه، وقد بين الله تعالى هذا بقوله {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}  فإنه تعالى لعظيم فضله، وبالغ رحمته، منع عذابه العظيم عن المؤمنين المجاهدين يوم بدر، الذى استحقوه بما مالت إليه أنفسهم من الإسراع في جميع الغنائم، قبل إكثار القتل في عدوهم.

 وهذه الآية الكريمة: {ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض} كما هو ظاهر منها لا تمنع الأسر، وأخذ الفداء مطلقا، ولكنها تقرر أنهما لا يكونان إلا بعد الإثخان فى الأرض وظهور المسلمين على أعدائهم، وهى لا تتنافى مع آية سورة “محمد” {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء}  فلا زيادة في حكم هذه الآية، على آية الأنفال، لأن كلتا الآيتين متوافقتان “فإن كلتيهما تدلان على أنه لابد من تقديم الإثخان ثم بعده أخذ الفداء”  فلا نسخ إذن كما يزعم البعض، لكن بعض الصحابة رضى الله عنهم حين اشتغلوا بجمع الغنائم قدموا عرض الدنيا على الآخرة فخالفوا ما أراده الله تعالى لهم من عظيم الظهور وقوة الشوكة.

وأخيرًا، بقي علينا تبيين معنى كلمة (الكتاب) المذكور في قوله تعالى: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} فقد أدى إبهامه إلى اختلاف العلماء فيه على أقوال كثيرة أوصلها الشوكانى  إلى ستة أقوال، لعل أرجحها وأقربها إلى المعقول، وأولاها بالقبول هو: ألا يعذب الله أحداً إلا بعد أن يقدم إليه أمراً أو نهياً فيخالف ما قدمه الله إليه.

والمعنى: لولا أنه سبق منى أن لا أعذب أحداً إلا بعد النهى؛ لعذبتكم على ما أخذتم من الفداء. إذ لو كان منهياً عنه محرماً لاستحقوا بمخالفته العذاب، فالمراد بالكتاب: حكم الله الذي كتبه وقدره، وهذا التفسير ينفى أن يكون أمر فداء الأسارى معصية لعدم النهى.

  • قال الإمام الرازي: (أن ذلك الحكم لو كان خطأ لأمر الله بنقضه، فكان يؤمر بقتل الأسرى ويرد ما أخذ منهم، ولما لم يكن ذلك قال لهم : {‌فكلوا ‌مما ‌غنمتم حلالا طيبا}.

  • كذلك فإنه عليه الصلاة والسلام لم يشتغل بالاستغفار، ولو أخطأ لتحتم استغفاره.

  • وكما يأتي العتاب على ترك الواجب فقد يأتي أيضا على ترك الأولى ، والأولى في ذلك الوقت هو الإثخان، وترك الفداء قطعًا للأطماع وحسما للنزاع، ولولا أن ذلك من باب الأولى لما فوض ذلك للأصحاب.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى