د. داود سليمان
أدب الحوار، ومنهجية الإدارة القويمة – ٢
في الحلقة السابقة بعنوان: “أدب الحوار، ومنهجية الإدارة القويمة”، تناولت عرض ما استشرفته من توجيهات وإرشادات تضمنتها الآية الكريمة “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”. وتحدثت عن بعض مظاهر الأداء الخاصة بمنهجية ممارسة مهام عملي
بمعهد البحوث بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، أثناء فترة رئاستي لفريق دراسات الحفازات (العوامل المساعدة) والعمليات المحَفَّزَة في الصناعة البتروكيميائية وتكرير البترول؛ تلك المنهجية التي استلهمتها من توجيهات الآية القرآنية الكريمة: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل- عمران: ١٥٩)”.
لقد كانت تلك الفترة غنية بالإنجازات العلمية، والإرشادات العملية التطبيقية لتحسين الأداء في العديد من المنشآت الصناعية؛ وفي هذه الحلقة أتحدث عن بعض مظاهر المنهجية التي طبقتها أثناء فترة عملي كمستشار بمكتب مدير المعهد.
في تلك المرحلة لم أكن أنا الذي يقود دفة سفينة الأداء، بل كان دوري إبداء الرأي فيما يتعلق بمنهجية الأداء، وبهذا المفهوم، يصبح هدف الحوار بين الأطراف المشاركة فيه الوصول إلى الاقتناع بصواب رأيٍ معين يتفق عليه المتحاورون، وإلا سيتحول النقاش إلى مجرد سفسطة، قد تقود الأطراف المتحاورة إلى التخلي عن المنهجية القويمة لممارسة الحوار.
من ضمن الإنجازات التي أسهمت في تحقيقها بفاعلية أثناء فترة عملي تلك، كانت الإسهام في إعداد تصور لخطة تنفيذية ممكنة التنفيذ لتطوير مراحل التعليم قبل الجامعي (مراحل التعليم الإبتدائي، والإعدادي، والثانوي) بالمملكة العربية السعودية.
ولأجل تحقيق هذا الأمر ذي الأهمية رفيعة المستوى، بالنسبة لتطوير العملية التعليمية، فقد تم تأليف فريق عمل برئاسة مدير عام معهد البحوث بالجامعة؛ ومن موقع عملي كاستشاري بمكتب مدير المعهد، فقد كلفني مدير المشروع (رئيس فريق العمل) بالتنسيق بين فرق العمل المقترحة لإجراء الدراسة، إضافة إلى رئاسة إحدى تلك الفرق؛ وحيث إن جُلَّ النشاط الذي سيُبذل في إطار هذا المشروع، يتصف بكونه عملاً إدارياً، فقد عملت باجتهاد على مطالعة العديد من الدراسات ذات الصلة بموضوع الدراسة، وشاركت في عدد من الحوارات ذات العلاقة بموضوع منهجية تطوير أساليب التعليم في عدد من الأقطار المتقدمة في هذا المجال، كما شاركت في العديد من الزيارات الميدانية، والحوارات الفكرية والموضوعية التي عقدت في عدد من البلدان المتطورة (داخل الوطن العربي، وخارجه) في مجال تطوير عملية التعليم الأساسي، والجامعي؛ وأثناء قيامي بذلك النشاط كنتُ أحاول استشراف التوجيهات والإرشادات التي تقدمها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة في ما يتعلق بأسلوب (أو أساليب) التخطيط بنوعيه المرحلي والاستراتيجي، لتقديم المقترحات وعرض الآراء لمدير المشروع، بهدف توجيه فرق العمل (لقد تم آنذاك تشكيل ثمانية عشر فرقة عمل لإعداد الدراسات المطلوبة للمشروع) بما يؤدي لتحقيق النتائج الإجابية المرجوة للدراسة. وأثناء تلك الفترة، وأنا أقرأ القرآن الكريم، وقفت متأملاً في توجيهات الآية الكريمة: “أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ، أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (المُلك: ٢٢)، لاستشراف توجيهاتها وإرشاداتها ذات الصلة بعملية التخطيط عامة، وبصفة خاصة التخطيط لتطوير التعليم.
لقد استوقفتني هذه الآية، وأصدقكم القول أنها هزت مشاعري، بما ترشد به، وتوجه إليه من أهمية، بل من ضرورة التخطيط (تخطيط المرء) لشؤون أمور حياته الدنيوية حتى لا يتعرض للانتكاسة أثناء مسيرته الحياتية، نتيجة تعاملاته في كافة أمور حياته دون الالتزام بمنهجية التخطيط القويم. لقد شرحت وجهة نظري لمدير المشروع، الذي استوعب ذلك، وطلب مني زيادة التعرف إلى أساليب التخطيط المتبعة في مجال تطوير التعليم، سواءً ما قبل الجامعي أم التعليم الجامعي. وباختصار هناك ما يعرف بأسلوب:-
* التخطيط المرحلي، الذي يحاول المرء من خلاله تنظيم أمور مسيرة حياته لتحقيق هدف قريب المنال، بما لا تتجاوز مدة تحقيقه فترة زمنية قصيرة ( ربما تتراوح بين عامين أو ثلاثة، وبحد أقصى أربعة أو خمسة أعوام)؛ على أن تأتي نتائج تلك المرحلة لتكون مقدمة صالحة لمرحلة التخطيط التي تليها، وهي مرحلة التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى.
* التخطيط الاستراتيجي، هي مرحلة التخطيط التي ترتكز على ما استطاع المرء تحقيقه من نتائج/أهداف أثناء فترة التخطيط المرحلي، ويتوخى فيها المرء تحقيق أهداف ذات مردود إيجابي بمستوى أكبر أو أعلا من مستوى أهداف التخطيط المرحلي؛ (وهي ذات رؤية تتجاوز أهدافها العقد أو العقدين من الزمن).
وما أن انتهت دراسة المشروع بإصدار الاستنتاجات والتوصيات التي تمت صياغتها في مذكرة دراسة المشروع، فقد تم عرض ما أسفرت عنه الدراسة من نتائج وتوصيات على العديد من الجهات ذات العلاقة بموضوع التعليم دون الجامعي بالمملكة العربية السعودية. وفي أثناء تلك الفترة، جرى تنظيم مؤتمر للمهندسين بالمملكة بمدينة جده، وكان لي شرف المشاركة في ذلك اللقاء، وذلك بتقديم ورقة بحثية بعنوان: “التخطيط المرحلي والاستراتيجي من مفهوم توجيهات الآيات القرآنية وإرشاداتها”، تناولت أثناء عرضها الحديث عن أساليب التخطيط بنوعيه، وأشرت أثناء العرض إلى الآية القرآنية الكريمة من سورة (المُلك: ٢٢) باعتبارها المرتكز الذي يحث المرء/والمجتمعات الآدمية على الأخذ بأسلوب التخطيط بنوعيه المرحلي، والاستراتيجي، لكي تأتي نتائج عمله/أعمالهم بما يُمَكِّنه/يُمَكِّنهم من امتلاك الوسيلة التي تعينه/تعينهم على الولوج في مسار الارتقاء بمتطلبات التطور التقني المعاصر، وصولاً إلى الارتقاء بمستويات المعيشة الآدمية. وما أن انتهيت من تقديم تلك الورقة البحثية، وأثناء خروجي إلى صالة الغداء، جاءني أحد الأخوة ممن حضر العرض، وبعد أن سلَّمَ عليَّ، بادرني بالقول: أشكرك أخي على هذه الدراسة التي أوضحت من خلالها ضرورة الاستعانة بتوجيهات الآيات القرآنية وإرشاداتها ذات العلاقة بمنهجية التخطيط بنوعيه. وأصدقك القول بأني قد قرأت تلك الآية مراراً، ولكني لم أتبين تلك التوجيهات والإرشادات التي أشرت إليها في عرضك الذي قدمته، لأني قد التزمت، في فَهم توجيهات الآية الكريمة وإرشاداتها، فقط بما قرأته من التفاسير التي طالعتها لعلمائنا الأفاضل الأقدمين منهم والحديثين، حيث إن غالبيتها قد ركزت على أن الآية تعرض مثالاً ضربه الله لتصرفات بني البشر في ما يتعلق بقضية الكفر والإيمان العقائدي؛ مشيرة إلى أن المرء المؤمن الملتزم بمتطلبات الإيمان، بتصرفاته وأعماله، هو الذي يمشي سوياً على صراط مستقيم يوصله إلى الجنة برحمة الله عز وجل، أما المرء الكافر المنكر لمتطلبات الهداية الإيمانية فيمشي مكباً على وجهه، لا يعلم إلى أي جهة يسير، ويأتي بالأفعال التي تؤدي به إلى جهنم، أعاذنا الله منها؛ وأن مجمل التفاسير (لعلمائنا الأفاضل الأقدمين والحديثين) لم تتطرق إلى ذكر أن هذه الآية تتضمن توجيهات وإرشادات علمية موضوعية ذات صلة بمنهجية عملية التخطيط بنوعيه لحياة المرء، وحثه بصفه خاصة، وحث المجتمعات الآدمية عامة، على الأخذ بأساليب التخطيط المرحلي، والاستراتيجي لتنظيم كافة أمور الحياة الدنيوية، والأخروية، وذلك بهدف الارتقاء بمستوى متطلبات الحياة الآدمية الكريمة، والتَّزوُّد بالأمل لملاقاة الله بنفس مطمئة بواسع رحمته يوم يقوم الحساب. لقد أثرت في نفسي تلك الكلمات التي سمعتها من ذلك الأخ من الذين حضروا عرضي للدراسة التي قدمتها في المؤتمر، فأردت عرض هذه التجربة، لعل الأخوة القراء يجدون فيها بعض الفائدة المرجوة. والسؤال الآن: هل بإمكاننا إسقاط هذه المفاهيم على الأخذ بأساليب التخطيط المرحلي والاستراتيجي، لتنظيم أمور حياتنا؟ نأمل ذلك. يرجى من الأخوة القراء إبداء ما يرونه من توجيهات وإرشادات لتعم الفائدة.
زر الذهاب إلى الأعلى