مقالات
وقفات مع المتنبي (20) د . أحمد الزبيدي – الإمارات
(الكافوريّات)
تشكلُ قصائد (الكافوريات) مرحلةً فارقةً في سيرة أبي الطيب المتنبي وتطور شعره؛ فهي تمثل حقبة زمنية مستقلة؛ لها معالمها الخاصة، ولها خصائصها المختلفة عما قبلها، فقد تميزت بندوبها العميقة، وآثارها الأليمة في نفسية المتنبي وعقليته، وقد تجلت كوشوم ٍ تلوحُ على جودة صياغته، وتهذيب ألفاظه؛ إن بقصد أو بغير قصد، وأي الأمرين كان فإن المتذوق لشعره الواقف على لطائف معانيه، السابر لغور قوافيه، يستطيع أن يميز ذلك تمييزًا بينًا واضحًا، ففيها تظهر شخصية المتنبي الجديدة، وشخصية قصيدته العتيدة، وفيها يتعدد البناء الدلالي؛ وفيها الظاهر المكشوف، والواضح المعروف، والجلي المألوف، الذي يفهمه كل أحد، كما أن فيها الباطن المضمر الذي لا يفهمه إلا الخاصة؛ مما يحتمل المدح والذم، وهو بالذم أشبه!
قال ابن رشيق القيرواني في “العمدة” (ج1 ص122) : “ وسئل بعض أهل الأدب: من أشعر الناس؟ فقال: من أكرهك شعره على هجو ذويك ومدح أعاديك، يريد الذي تستحسنه فتحفظ منه ما فيه عليك وصمة، وخلاف للشهوة، وهذا ذوب قول أبي الطيب:
وأسمعُ من ألفاظِه اللغةَ التي
يلَذّ بها سمْعي وإن ضُمّنَتْ شتْمي
يريد أنه صحيح اللفظ مستحلي الكلام يلتذ سمعه بكلامه وإن شتمه لصحة لفظه وعذوبة كلماته.
-
قال ابن الأثير: “وقد مدح أبو الطيب كافورًا بقوله:
وما لَكَ تُعْنَى بالأَسِنَّةِ والقَنَا
وجَدُّكَ طَعَّانٌ بِغَيْرِ سِنَانِ
فَمَا لَكَ تَخْتَارُ القِسِيَّ وإنما
عَنِ السَّعْدِ يُرْمَى دُونَكَ الثقلانِ؟
وهذا يحتمل المدح والذم، بل هو بالذم أشبه؛ لأنه يقول إنك لم تبلغ ما بلغته بجدك واجتهادك، بل بحظ وسعادة، وهذا لا فضل فيه؛ لأن السعادة ينالها الخامل والجاهل ومن لا يستحقها.
قلت: وأول ما وصلنا من هذا النوع من الشعر؛ -حسب علمي- الذي يحتمل المعنى وضده، كالمدح والقدح، وإظهار المنقبة، وإضمار المثلبة، ما روي عن الحطيئة في قوله: دع المكارم …!
وهذا النوع من الهجاء كما وصفه ابن بسام-“نفح الطيب”(ج2 ص498): “من مليح التعريض، في إيجاز القريض، مما لا أدب على قائليه ولا وصمة على من قيل فيه”. ثم أضاف : “والهجاء ينقسم قسمين: فقسم يسمونه هجو الأشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سبابًا مقذعًا، ولا هجرًا مستبشعًا؛ وهو طأطأ قديمًا من الأوائل، وثل عرش القبائل. إنما هو توبيخ وتعيير، وتقديم وتأخير، كقول النجاشي في بني العجلان، وشهرة شعره منعتني عن ذكره. واستَعْدَوا عليه عمر وأنشدوه قول النجاشي فيهم فدرأ الحد بالشبهات، وفعل مثل ذلك بالزبرقان حين شكا الحطيئة وسأله أن ينشده ما قال فيه فأنشده قوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي”.
وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا الفن في القصائد (الكافوريات)، وعلق ابن أبي الحديد “الفلك الدائر” (ج4ص24) على هذا تعليقًا يدل على ذوقه الصائب، واطلاعه الواسع، وتحرره مما تناقله الناس، فقال: إن الناس واقع لهم واقع ظريف مع المتنبي في هذا الباب، وكان أصله الشيخ أبو الفتح عثمان بن جني رحمه الله.
قلت: وليس بغريب على ابن جني ذلك؛ فهو إمام في العربية، إمام في النحو، بصير بالمعاني، وهو فوق ذلك تلميذ المتنبي الأكبر! لذا فهو لا يخفى عليه ألفاظ أبي الطيب ومقصوده فيها.
وقد ذكرنا قبلُ أن قلة من العلماء – قديمًا وحديثًا- فطنوا لغرض ومقصد أبي الطيب من (كافورياته) ؛ وقد ذكرنا بعضهم، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم جميعًا الشيخ ابن حسام الدين ” زادة”، الذي كان محيطا بمادة التفسير واللغة العربية” كما قال مترجموه، وقال المحبي “خلاصة الأثر” (ج1 ص355): ( فهو ينثر الدر إذا أخذ القلم، ومن يشابه أبه فما ظلم).
ولا نزيد على أكثر من هذا، فإحاطته في اللغة هي التي مكنته من الهجوم على تأليف كتاب جَبُنَ عن التأليف فيه من سبقه من العلماء! فسر فيه نظرية أبي الطيب في قلب (كافورياته) سماه؛ (رسالة في قلب كافوريات المتنبي).
-
وإذا كان ابن جني هو أول من فطن إلى تلك النظرية، بعدما وجد من المتنبي ما يؤيد فكرته، ويوثق نظرته، بقوله:
وَشَعرٍ مَدَحتُ بِهِ الكَركَدَنَّ
بَينَ القَريضِ وَبَينَ الرُّقَى
فَمَا كَانَ ذلِكَ مَدحًَا لَهُ
وَلكِنَّهُ كان هَجوَ الوَرَى
وَمَنْ جَهِلَتْ نَفسُهُ قَدرَهُ
رَأى غَيرُهُ مِنهُ ما لا يَرَى
بل شجعه المتنبي نفسه على هذا بقوله:
وَما طَرَبِي لَمَّا رَأيْتُكَ بِدْعَةً
لَقَدْ كنْتُ أرْجُو أنْ أرَاك فأطَربُ
يقول: ليس سروري – الآن وقد رأيتك – ببدع، فإني كنت أرجو أن أراك فأطرب بمجرد الرجاء فكيف الآن؟! وقد رأيتك.
قال المعري (هذا وإن كان ظاهره مدحًا، فإن باطنه إلى الهزء أقرب ورفع فأطرب عطفًا على أرجو ولم يعطفه على أن أرى).
قال ابن جني لما قرأت على أبي الطيب هذا البيت قلت له: أجعلت الرجل أبا زنة فضحك لذلك.
قال ابن الأثير ” المثل السائر” (ج1 ص66): ( وهذا القسم من الكلام يسمَّى “الموجَّه” أي: له وجهان، وهو مما يدل على براعة الشاعر وحسن تَأَتِّيه.
-
وهكذا استطاع ابن جني بما لديه من رصيد كبير في علميْ اللغة والأدب أن يطبق تلك النظرية في أبيات معدودة، ليترك المجال رحبا لمن هو مثله أو أقدر منه، أن يزيد أبياتا أخرى، ثم جاء المعري وأضاف شيئًا قليلًا على ذلك، إلا أن الباب ظل مفتوحًا حتى جاء وأغلقه ابن حسام الدين الشيخ “زادة”، وأغلق رتاجه، فقد استطاع أن يجري خيله في رحابها لتصل بعدوها وضباحها إلى كل بيت من أبياتها.
-
وأغلب الظن أن الذي شجعه على ذلك، وجعله في ثقة ومأمن مما هو مقبل عليه من مشروع تأبى الخوض فيه عمالقة اللغة، ودهاقنة الأدب، ما نقله ابن جني عن شيخه المتنبي: (لو شئت لقلبت الكافوريات كلها إلى الهجو). قال ابن الحسام في”الرسالة” (ص4): “ومما شجعني في اقتحام هذا المدحض قوله -يقصد المتنبي-:
مدحتُ قوماً وإن عشنا نظمت لهمُ
قصائدا من جياد الخيل والحُصنِ
تَحتَ العَجَاجِ قَوافِيها مُضَمَّرةٌ
إذا تُنُوشِدنَ لم يدخُلْنَ في أذُنِ
قال المهلبي”المآخذ على شراح المتنبي” (ج1ص75): ” يقول: مدحت قومَا لا يستحقون المديح بقصائد من نظم، وإن عشت نظمت لهم قصائد من خيل، محاربًا لهم ومغيرًا عليهم، إما لأنهم لم يتجاوزوه (على قدر مدحه) وإما لأنهم لا يستحقون ما هم فيه، وأنه أولى به منهم.
وأقول: “إن قوله: وهذا كان مذهبه في أكثر شعره يطوي المديح على الهجاء،… و هذا لم يقع (منه) إلا في مدح كافور؛ لأنه كان عبدًا أسود خصيًا؛ ترك مثل “سيف الدولة” في الشرف والفضل والكرم، وقصده رجاء الزيادة عنده فوقع في النقص”.
-
قال المقريزي (ت ٨٤٥هـ)– “المواعظ والاعتبار” في ترجمة كافور (ح3 ص50): ” كان عبدًا أسود خصيًا، مثقوب الشفة السفلى، بطينًا قبيح القدمين، ثقيل البدن، جُلب إلى مصر وعمره عشر سنين فما فوقها، في سنة (310ه)، فلما دخل إلى مصر تمنى أن يكون أميرها، فباعه الذي جلبه لمحمد بن هاشم، .. فباعه لابن عباس الكاتب، فمرّ يومًا بمصر على منجّم فنظر له في نجومه وقال له: أنت تصير إلى رجل جليل القدر، وتبلغ معه مبلغًا عظيمًا، فدفع إليه درهمين لم يكن معه سواهما، فرمى بهما إليه وقال: أبشّرك بهذه البشارة وتعطيني درهمين؟ ثم قال له: وأزيدك، أنت تملك هذه البلد وأكثر منه، فاذكرني”.
-
وسنرى في ما يأتي أن ابن حسام قد نجح نجاحًا باهرًا في قلب (كافوريات) المتنبي؛ إن لم يكن كلها فجلها، وإن لم يسلم من بعض التمحل والتكلف في جملة من الأبيات.
-
قال د. محمد يوسف نجم :”وفي هذا الإطار أصبحت مهمة ابن الحسام تقوم على أساسين: الأول؛ إن شعر المتنبي في كافور صدر من منبع واحد، إلا أنه مر في طورين: طور الإغماض والإبهام والتعمية، وهذا يعني ان المتنبي كان “يظهر” شيئا و”يبطن” شيئًا آخر، وعن هذا المعنى يجب أن يبحث الناقد؛ و الثاني؛ طور إظهار المضمر أو طور التصريح. ومن وضع هذين الطورين موقع المقارنة والمعارضة وجد ابن الحسام “مفاتيح الحل” لدور التعريض والإضمار، فكل ما قاله المتنبي في الدور الأول كشف عنه في الدور الثاني إما بتبيان المقصود وإما بنقضه،
سلمت يمناك دكتور
مقال جميل كالعادة
دمت ودام قلمك 🙂بارك الله فيك
صباح الخير يا دكتور,
لو وجد المتنبي في عصرنا هذا لشكرك ومدحك على هذا الجهد والأسلوب المتميز في تناول شعره وغور معانيه.
نشكرك بالنيابه عنه.