مقالات

عصمة الأنبياء وتنزيههم في القرآن الكريم  (20) د.  أحمد الزبيدي        –         الإمارات

د. أحمد الزبيدي

قال العلامةُ محمود محمد شاكر -رحمه الله- :” إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -في ما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. “جمهرة المقالات” (1 / 4).

وقال د. عماد الدين خليل في كتابه: “المستشرقون والسيرة النبوية” (ص6): (إن هذا الموقف المتوحّد من السيرة الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين.. والذي يجد في السيرة تعبيرًا متكاملًا عن العقيدة التي ينتمي إليها، يجد في الدراسات الاستشراقية (الخارجية) عن السيرة تغرّبا عن مسلّماته وخروجًا صريحًا عن بداهاته، وما يمكن اعتباره محاولات متعدّدة لإصابة هذه المسلّمات والبداهات بالجروح والكسور.. وهي لن تفعل فعلها في يقينه، إلّا في حالات معينة بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمّها إلى الاشمئزاز والنّفور).

(ج7)

شبهة: إعراض النبي – صلى الله عليه وسلم- عن ضعفاء المسلمين، وإقباله على أصحاب الجاه.

قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)} (عبس 10: 1).

وقد تمسك الطاعنون والمستشرقون بظاهر الآية الكريمة، وقالوا مستنكرين:” كيف يراعي محمد أصحابَ الجاه مع كفرهم، ويرفض الفقراء والمساكين ويعبس في وجوهم ؟

والجواب على هذه الشبهة من وجوه:

‌‌الوجه الأول: سبب نزول الآيات.

أجمع المفسرون على أن هذه الآيات نزلت في عبد الله ابن أم مكتوم – رضي الله عنه -، وقالوا: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما كان يخاطبُ بعض صناديد قريش؛ طمعا في إسلامهم، أقبل ابنُ أم مكتوم -من المسلمين الأوائل- فجعل يسأل رسول – صلى الله عليه وسلم – عن شيء ويلح عليه، وودَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعًا ورغبةً في هدايته، وعَبَس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى } . وأخرج الترمذي (3331) عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: أُنْزِلَ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى. أَتَى رَسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فَجَعَلَ يَقُولُ يَا رَسُولَ الله أَرْشِدْنِي وَعِنْدَ رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ المُشْرِكِينَ فَجَعَلَ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ وَيَقُولُ: أَتَرَي بِمَا أَقُولُ بَأْسًا؟ فَيَقُولُ لَا، فَفِي هَذَا أنزِلَت {عَبَسَ وَتَوَلَّى} .

‌‌الوجه الثاني: ليس في القصة ما يفيد احتقاره – صلى الله عليه وسلم – لابن أم مكتوم، فإنه لم يُعرض عنه استصغارا لشأنه، وإنما فعل ذلك حرصًا منه على دعوة الكبراء طمعا في إيمانهم، ورجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم .

وكان – صلى الله عليه وسلم – يبتغي بعمله التقرب إلى ربه عزَّ وجلَّ؛ جادًا في نشر دعوته، مستغرقًا في ذلك، وأمر طبعي وفطري في الإنسان أن ينزعج إذا صرفه عما هو بصدده صارف، ولكن ذلك كان على خلاف مراده تعالى فعاتبه عليه ونبهه إليه، وبين له أن الأولى ألا يعرض عن راغبٍ في المعرفة مهما قَلَّ شأنه، وألا يتصدى لمعرض مهما عظم شأنه، لأن مهمته التبليغ فقط. وليس عليه من شيء في كفر الناس أو إيمانهم. قال الحافظ في الفتح (2/ 119) :” وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك يُكرمُ عبد الله بن أم مكتوم “.

‌‌الوجه الثالث: حرصه صلى الله عليه وسلم – على دعوة الكبراء.

كان حرصه – صلى الله عليه وسلم – دائما على دعوة الكبراء والزعماء إلى دين الله عزَّ وجلَّ؛ لما ذكرنا من طمعه في إيمان اتباعهم، ولمّا لم يستجيبوا حزن حزنا شديدا على ذلك، حتى عاتبه الله سبحانه على ذلك، فقال : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا }.  وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. وقال: {فَلَا تَذْهَبْ  نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}. وقال: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} .

قال ابن كثير: يقول تعالى ذلك مسليا رسوله – صلى الله عليه وسلم – في حزنه على المشركين، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه. وثبت في صحيح (البخاري (3884):” أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث دحية الكلبي بكتاب إلى هرقل يدعوه فيه للإسلام، فكتب فيه “بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.

‌‌الوجه الرابع: أن الله عزَّ وجلَّ أمر نبيه – صلى الله عليه وسلم – ألا يطرد الضعفاء والمساكين، وأن يصبر نفسه معهم.

قال الله تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا – صلى الله عليه وسلم -:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ }.

‌‌ ‌‌الوجه الخامس: أخلاق النبي

أرسل الله نبيه-صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، وأدبه ربه بأخلاق الدين، قال تعالى في وصف أخلاقه – صلى الله عليه وسلم-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . وفي البخاري (4838) عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ – رضي الله عنه – أَنَّ هَذه الآيَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا }. قَالَ فِي التَّوْرَاةِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئةَ بِالسَّيئةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ الله حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الملَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا الله فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا). ‌‌ ومن كان هذا شأنه وهذه مكانته وهذه أخلاقه، كيف يوصف بالقسوة والإعراض عن الضعفاء والفقراء والمساكين؟ !

وفي  “صحيح مسلم” (2328) عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: مَا ضرَبَ رَسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم – شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ ولا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يجاهِدَ فِي سَبِيلِ الله وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ الله فيَنْتَقِمَ للهَّ عزَّ وجلَّ .

‌‌الوجه السادس: نزول الآيات لا يثبتُ ذنبا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

لا نسلم أن في الآيات، إثبات ذنب لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، بل كل ما فيها إعلام من الله تعالى لرسوله بأن ذلك المتصدي له ممن لا يتزكى، وأن الأولى به الإقبال على الأعمى، لأنه {جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى} والإعراض عن الكافر لأنه استغنى عن الإسلام بكفره {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}، أي: ليس عليك بأس في ألا يتزكى بالإسلام، والمراد: لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم أن تعرض عمن أسلم بالاشتغال بدعوتهم، فما عليك إلا البلاغ!

أما الإمام الرازي-رحمه الله- فلم يُسلِّم أن هذا الخطاب كان للنبي صلى الله عليه وسلم، لعدة أمور، قال:

  • فلا يقال إن أهل التفسير أجمعوا على أن المخاطب بالآيات هو الرسول-صلى الله عليه وسلم- لأنها رواية آحاد فلا تقبل في هذه المسألة، ثم إنها معارضة بأمور:

  • انه وصفه بالعبوس، وليس هذا من صفات النبي صلى الله عليه وسلم- في قرآن ولا خبر مع الأعداء والمعاندين فضلا عن المؤمنين والمسترشدين.

  • وصفه بأنه تصدى للأغنياء وتلهى عن الفقراء وذلك غير لائق بأخلاقه، كذلك لا يجوز أن يقال للنبي {وما عليك ألا يزكى} فإن هذا الإغراء يترك الحرص على إيمان قومه ، فلا يليق بمن بعث بالدعاء والتنبيه. ولو سلمنا أن الخطاب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا نسلم أنه ذنبا، لأنه سبحانه وصف نبيه بحسن الخلق {وإنك لعلى خلق عظيم}، وقال {ولو كنت فظا}، فلما ظهر منه في بعض الأوقات النادرة خلافه عاتبه عليه وعرفه أن ذلك غير مرضي منه فيكون من باب ترك الأولى .

وثمَّ توجيه يُعدُّ من ألطف ما استنبطه الرازي من لطائف قرآنية، قال -المفاتيح- (ج31 ص53) :”

  • – إن ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر، فكيف عاتب الله رسوله على ذلك ؟ وإنما قلنا: إنه كان يستحق التأديب لوجوه: أحدها: أنه وإن كان لفقد بصره لا يرى القوم، لكنه لصحة سمعه كان يسمع مخاطبة الرسول أولئك الكفار، وكان يسمع أصواتهم أيضا، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلام النبي وإلقاء غرض نفسه في البين قبل تمام غرض النبي إيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام، وذلك معصية عظيمة.

  • وثانيها: أن الأهم مقدمٌ على المهم، وهو كان قد أسلم وتعلم، ما كان يحتاج إليه من أمر الدين، أما أولئك الكبراء فما كانوا قد أسلموا، وهو إسلامهم سببا لإسلام جمع عظيم، فإلقاء ابن أم مكتوم، ذلك الكلام في البين كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم، لغرض قليل وذلك محرم.

  • وثالثها: أنه تعالى قال: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} [الحجرات: 4] فنهاهم عن مجرد النداء إلا في الوقت، فههنا هذا النداء الذي صار كالصارف للكفار عن قبول الإيمان وكالقاطع على الرسول أعظم مهماته، أولى أن يكون ذنبا ومعصية، فثبت بهذا أن الذي فعله ابن أم مكتوم كان ذنبا ومعصية، وأن الذي فعله الرسول كان هو الواجب، وعند هذا يتوجه السؤال في أنه كيف عاتبه الله تعالى على ذلك الفعل؟

أنه تعالى لما عاتبه على مجرد أنه عبس في وجهه، كان تعظيما عظيما من الله سبحانه لابن أم مكتوم، وإذا كان كذلك فكيف يليق بمثل هذا التعظيم أن يذكره باسم الأعمى مع أن ذكر الإنسان بهذا الوصف يقتضي تحقير شأنه جدا ؟.

الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام كان مأذونا له في أن يعامل أصحابه على حسب ما يراه مصلحة، وأنه عليه الصلاة والسلام كثيرا ما كان يؤدب أصحابه ويزجرهم عن أشياء، وكيف لا يكون كذلك وهو عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليؤدبهم وليعلمهم محاسن الآداب، وإذا كان كذلك كان ذلك التعبيس داخلا في إذن الله تعالى إياه في تأديب أصحابه، وإذا كان ذلك مأذونا فيه، فكيف وقعت المعاتبة عليه؟

من اللطائف:

 قال الرازي: لعل هذا العتاب لم يقع على ما صدر من الرسول عليه الصلاة والسلام من الفعل الظاهر، بل على ما كان منه في قلبه، وهو أن قلبه عليه الصلاة والسلام كان قد مال إليهم بسبب قرابتهم وشرفهم وعلو منصبهم، وكان ينفر طبعه عن الأعمى بسبب عماه وعدم قرابته وقلة شرفه، فلما وقع التعبيس والتولي لهذه الداعية وقعت المعاتبة، لا على التأديب بل على التأديب لأجل هذه الداعية والجواب عن السؤال الثاني أن ذكره بلفظ الأعمى ليس لتحقير شأنه، بل كأنه قيل: إنه بسبب عماه استحق مزيد الرفق والرأفة، فكيف يليق بك يا محمد أن تخصه بالغلظة.

 والجواب عن السؤال الثالث أنه كان مأذونا في تأديب أصحابه لكن هاهنا لما أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء، وكان ذلك مما يوهم ترجيح الدنيا على الدين، فلهذا السبب جاءت هذه المعاتبة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى