مقالات

عصمة الأنبياء وتنزيههم في القرآن الكريم (21) د.  أحمد الزبيدي        –         الإمارات

د. أحمد الزبيدي

قال العلامةُ محمود محمد شاكر -رحمه الله- :” إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -فيما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).

وقال د. عماد الدين خليل في كتابه: -المستشرقون والسيرة النبوية- (ص6): (إن هذا الموقف المتوحّد من السيرة الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين.. والذي يجد في السيرة تعبيرا متكاملا عن العقيدة التي ينتمي إليها، يجد في الدراسات الاستشراقية (الخارجية) عن السيرة تغرّبا عن مسلّماته وخروجا صريحا عن بداهاته، وما يمكن اعتباره محاولات متعدّدة لإصابة هذه المسلّمات والبداهات بالجروح والكسور.. وهي لن تفعل فعلها في يقينه، إلّا في حالات معينة بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمّها إلى الاشمئزاز والنّفور).

(ج8)

قال تعالى : {‌لقد ‌تاب ‌الله ‌على ‌النبي والمهاجرين} [التوبة: 117]

تمسك الطاعنون -في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم- بظاهر هذه الآية : وقالوا : إن التوبة لا تكون إلا إذا سبقت بذنب أوجبها. قال الإمام الرازي: ” جوابه: التوبة محمولة على الصغيرة أو ترك الأولى.

روى الإمام أحمد في تفسير قول الله عز وجل “التاريخ” 5/ 9-: {‌لَقَدْ ‌تابَ ‌اللَّهُ ‌عَلَى ‌النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] ؛ قال: خرجوا في غزوة (تبوك) الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وخرجوا في حرّ شديد، وأصابهم عطش، حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها، ويشربوا ماءها، فكان ذلك عُسرة في الماء، وعسرة في النفقة، وعسرة في الظَّهر. أي : الركوبة.

وعن ابن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلًا وأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أنّ رقابنا ستنقطع، حتى إنّ الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله! إنّ الله عوّدك في الدعاء خيرًا فادع الله لنا! فقال: أو تحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع رسول الله يديه إلى السماء، فلم يرجعهما حتى قالت السماء- أي اذنت بمطر- فأطلت، ثم سكبت فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر.

كذلك طعنوا بقوله تعالى {‌واستغفر ‌لذنبك}، وحديث الترمذي الصحيح ( 3259)  :” إنِّي لأستغفرُ اللَّهَ في اليومِ سبعينَ مرَّةً”.

قال الرازي: وهذا صريح .

وجوابه: أنه محمول على الصغيرة أو ترك الأولى أو التواضع كما قررناه في قول آدم عليه السلام {ربنا ظلمنا أنفسنا} أو على التقدير ، والمعنى: إذا أذنبت فاستغفر، كقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا} وليس يريد أن جميعهم مذنبون، وإنما حثهم على التوبة إذا أذنبوا.

   أما حديث الترمذي الذي مر ذكره؛ فله تأويلات:

  • أنه عليه الصلاة والسلام كان في الترقي في درجات العبودية؛ فكان كلما ترقى من مقام إلى مقام أعلى.. رأى الأول حقيرا، فكان يستغفر الله منه، فحُمل طلب الغفران في القرآن في هذه الآية على هذا الوجه.

  • كذلك إن جميع الطاعات في مقابلة حقوق إلهيته جنايات، وكل أنواع المعارف الحاصلة عند الخلق في مقابلة أنوار كبريائه تقصير وقصور وجهل، ولذلك قال: {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91] وإذا كان كذلك فالعبد في أي مقام كان من مقام العبودية، وإن كان عالما جدا إذا قوبل ذلك بجلال كبرياء الله تعالى صار عين التقصير الذي يجب الاستغفار منه، وهذا هو السر في قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} [محمد: 19] .

كذلك طعنوا في قوله تعالى : {‌يا ‌أيها ‌النبي ‌لمَ ‌تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم}.

روى مسلم فى صحيحه (1474) بسنده عن عائشة رضى الله عنها قالت: إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً. قالت: فتواطئت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها النبى صلى الله عليه وسلم، فلتقل: إنى أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما، فقالت ذلك له. فقال: “بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود له” فنزل: {‌يا ‌أيها ‌النبى ‌لم ‌تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك} … إلى قوله: “إن تتوبا (لعائشة وحفصة) وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثاً، لقوله: بل شربت عسلاً”  .

وعند البخارى(4912) : “فلن أعود له، وقد حلفت، لا تخبرى بذلك أحداً”. وفي مسلم روايتان:

  • الأولى: زينب بنت جحش هي التى سقت الرسول صلى الله عليه وسلم العسل، والمتظاهرتان هما؛ عائشة وحفصة.

  • والثانية: أن حفصة هى التى سقته العسل ، وأن المتظاهرات عليه ؛سودة، وعائشة، وصفية رضي الله عنهن.

وقد رجح القاضي عياض، والنووي، وابن حجر الحديث الأول وأن المتظاهرتين هما عائشة وحفصة لأمرين:

  • لاتفاقه مع لفظ الآية: {وإن تظاهرا عليه} فإنه بالتثنية.

  • ولتصريح عمر رضي الله عنه- البخاري(4914) عن المرأتين اللتين نزلت فيهما الآية: {وإن تظاهرا عليه} بأنهما؛ عائشة وحفصة رضي الله عنهما.

قال الإمام الرازي : ” إن تحريم ما أحل الله ليس بذنب بدليل الطلاق والعتاق، واما العتاب فإن النهي عن فعل ذلك لابتغاء مرضاة النساء أو ليكون زجرا لهن عن مطالبته مثل ذلك كما يقول القائل لغيره: لم قبلت أمر فلان واقتديت به وهو دونك، وآثرت رضاه وهو عبدك ، فليس هذا عتاب ذنب وإنما هو عتاب تشريف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى