د. أحمد الزبيدي
(5)
(لويس عوض)
(1915 – 1990)
(ح2)
صوّر لويس عوض شخصيته في عيون أدباء عصره بقوله: (وصورتي في يقين فئة ثالثة أني آخر قنصل للعالم المسيحي …، كما كتب عني الأستاذ محمود شاكر). وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ!
بدأت قصة لويس عوض مع شيخ المحققين (محمود شاكر) في أواخر عام 1964م ، بعد أن مهدت له قوى اجنبية الطريق، وأسبغت عليه لمعانا وبريقا، وأحاطته برعاية شديدة، وأعانته بإمكانيات عديدة، حتى صار فجأة؛ ما بين عشية أو ضحاها، وعلى حين غفلة من الناس، في أوسع الصحف انتشارا، وأعظمها أثرًا؛ مستشارًا ثقافيًا، ومرجعًا فكريًا يُرجع إليه في كل صغيرة وكبيرة من شئون الفكر والثقافة، وغدا مشرفًا على الصفحة الأدبية فيها، ليمارس-بعد ذلك- دوره الذي رُسم له بعناية، فيشرع في نشر سلسلة من المقالات بعنوان “على هامش الغفران: شيء من التاريخ”، يبث فيها أفكارًا كثيرة تحت ستار العلم والمنهج! وملخص تلك المقالات- إنباه الرواة- (ج1 ص84) : أن أبا العلاء المعري في رحلته العلمية إلى طرابلس الشام، اجتاز باللاذقية، ونزل “دير الفاروس”، وكان به راهب يشدو شيئًا من علوم الأوائل، فسمع منه أبو العلاء كلامًا من أوائل أقوال الفلاسفة، حصل له به شكوك لم يكن عنده ما يدفعها، فعلق بخاطره ما حصل به بعض الانحلال، وضاق صدره عن كتمان ذلك الحال، حتى فاه به في أول عمره وقال؛ ما أودعه أشعارًا له، ثم ارعوى ورجع ،واستغفر واعتذر، ووجه الأقوال وجوها احتملها التأويل”.
وقد استدل لويس عوض على مذهبه هذا ببيت شعر للمعري يقول فيه:
صليت جمرة الهجير نهاراً
ثم باتت تغص بالصلبان
هكذا أثبت لويس عوض قافية البيت “الصلبان” بباء منقوطة، على أنها جمع “صليب”، وكتب تحت البيت “سقط الزند في وصف حلب”، وساق الكلام كله في بيان غلبة نصارى الروم على أهل الإسلام. رواية أما رواية البيت الصحيحة كما جاء في سقط الزند(ج1 ص451) وبها تمام وزنه – “الصَّلِّيان” بالصاد المكسورة بعدها لام مشددة، مكسورة أيضاً، ثم ياء مثناة من تحت، أي بنقطتين اثنتين. وأبو العلاء يذكر في هذا البيت الإِبل، ويصف ما لاقته نهاراً في البيداء من هجير وظمأ، وما رعت ليلاً من صلِّيان، وهو نبت له جذور ضخمة في الأرض، تجتثها الإِبل بأفواهها فتأكلها من شدة حبها لها، فإذا كانت رطبة أساغتها، وإذا كانت يابسة غصَّت بها، أي شرقت. وقد فجرت هذه القضية بركان غضب شيخ العربية أبي فهر محمود محمد شاكر، وأدار عليها كتابه الفذ الدامغ (أباطيل وأسمار)، يُفَنِّد فيه مزاعمه ويكشف عن الدوافع الحقيقية من وراء هذه المقالات. وقد تخلل ذلك كشف عن جهل عوض بالعربية التي يكتب بها مقالاته، وكرهه إياها، ومحاربته لها، وتطاوله عليها، واستهزاؤه بها، وفي المقابل إشادته بلغة المحتل ودعوته لاستعمالها والاستغراق فيها، واستبدالها بالعربية. ورجلٌ يكره لغة، ويحرص على حربها خليق أن يكون فاقدًا للحس الأدبي، والأدب النفسي وفاقدا للطبع. وقد يطيب لبعض المفكرين والمثقفين أن يسمي هذه المساجلات التي حصلت بين شاكر وعوض معركة فكرية، ولكن الحقيقة تقول: أن ما وقع بينهما هو صراع موار بين حضارتين؛ حضارة عظيمة لها أصول ضاربة، وحضارة ولدت في الأمس القريب، ليس لها أصول ولا جذور!
وقد تبين لمحمود شاكر أن لويس عوض لم يقرأ حرفًا واحدًا من شعر أبي العلاء المعري. وإن كان قد قرأ منه شيئًا، أو قرئ عليه، فإنه لم يفهم منه حرفًا واحدًا على الوجه الذي يفهم به الشعر.
وقد اعترف بهذا لويس عوض نفسه عندما اعترف بأنه لم يقرأ كتابا بالعربية منذ سنوات عدة، وهذا في رأي شاكر سبب عدم فهمه اللسان العربي، والثقافتين العربية والإسلامية، وفي مقاربة ومحاولة فهم شعر المعري في دواوينه؛ سقط الزند واللزوميات وغيرها، وفي مقارباته النقدية لرسالة الغفران لعجزه عن النفاذ إلى أسرار البيان والتعبير العربي ودلالة هذه الألفاظ، مترادفها ومتضادها وما تجانس لفظه واختلف معناه وما اختلفت حركاته فاختلفت معانيه إلى غير ذلك من أسرار اللسان العربي.
قال شاكر: “وليت الأمر في دراسة الآداب يقف بنا عند هذا الحد! فإنه لأهولُ من ذلك في كل زمان ومكان، وفي كل لغة ذات بيان، إنه لأمر مفروغ منه، أمر ارتباط الآداب بتاريخ الأمة وعاداتها وأخلاقها ودياناتها، وما شئت من شيء تُعدُّ به الأمة ذات كيان قائم متميز. فدارس الآداب إذا لم يكن مطيقا لذلك كله، بصيرا به، حسن التصرف في جليله ودقيقه ، جيد الفهم لغوامضه ومبهماته، فهو حري أن يشوه الصورة عند تركيبها تشويها فيه من الشناعة، ما يجعل دراسته مثلة بمن يدرسه…” اه
والطريف، المؤسف معًا أن لويس عوض -كما يقول القاعود- لم يحاول الرد على الآراء بآراء مختلفة وصحيحة، لكن شن حملة لتصفية مجلات وزارة الثقافة التي تبنى بعضها مقالات التصدي لأخطائه العلمية. وقد أغلقت المجلات بالفعل فيما عدا واحدة، وسمى لويس إنجازه بمعجزة صيف 1965، وواصل الرجل حملته -من بعد- فدعا إلى طرد جيوش الدخلاء، وتطهير الثقافة منهم، ورفع أسعار المطبوعات الدورية وغير الدورية التي تصدرها وزارة الثقافة، واستطاع أن يفرض هيمنته على الساحة الثقافية، وحقق من ذلك استفادة شخصية، تمثلت في نشر كتبه بهيئة الكتاب، وحصوله -مقابلا لذلك- على أعلى المكافآت.
كذلك مما لفت نظر شاكر أيضًا ، أن كتاب “بلوتوند، وقصائد أخرى” قد أهداه عوض: إلى “كريستوفر سكيف” الأستاذ في كلية الآداب في جامعة القاهرة، وسكيف هذا كان مبشرا ثقافيا، وجاسوسا ماكرا في وزارة الاستعمار البريطانية، وأنه كان خبيثًا خسيس الطباع سيء الأدب، وقد شُهدَ عليه بأنه كان يميز من طلابه المقربين الذين يحتطبون بحبله، ويمشون في هواه، وينقم على الذين يتعصبون لدينهم ووطنهم! وقد شهد شاكر عليه بأنه عريض الدعوى، لا يستحق أن يكون أستاذا في جامعة لولا سيادة بريطانيا الغالبة، وكلمتها النافذة.
قرأ شاكر “بلوتوند، وقصائد أخرى” فهاله هذا العنوان: “حطموا عمود الشعر”، “لقد مات الشعر العربي” مات بموت أحمد شوقي مات ميتة الأبد، فوجد فيه بغضًا شديدًا للعربية، وحقدًا على دينهم وتراثهم.
وأصل هذا الكلام تنادوا به المبشرون والمستشرقون وعملاءهم، مما أكد لشاكر ان لويس عوض ليس اكثر من دمية ليس لها في ذاتها قيمة تذكر، وما دميةٌ يحركها محرك؟ والدمى كاسمها دمى ثم لا تزيد! والشأن كل الشأن لمن في يده خيوطها التي تحركها.
وقد فصلنا هذا في سلسلة مقالاتنا “بين العامية والفصحى” فليرجع إليه هناك.
وأخيرا؛ ولو لم يكن للويس عوض من فضل إلا أن مقالاته استفزت قلم الأستاذ شاكر ، فكتب عن الموضوع في مقالات متعددة صارت فيما بعد كتابا في جزئين بعنوان “أباطيل وأسمار” وهو من أهم الكتب التي صدرت في تاريخنا الحديث تحقيقًا وتأصيلاً للمنهج العلمي في الدراسة الأدبية إلى جانب ما فيه من متعة فنية وجمال في العرض ودفاع عن تاريخنا ومقومات حضارتنا، وسيظل هذا الكتاب الفذ دليلاً ساطعا على جهل لويس عوض الفاضح بالتراث بعامة والشعر بخاصة، وحقيقة مكانته العلمية وقيمته الأدبية.
– ونختم مقالنا بشهادة أستاذين كبيرين في لويس عوض؛ عبد العزيز الدسوقي وشاكر مصطفى.
قال الدسوقي: “إن أي كلام يكتبه الدكتور عوض لا تأثير له، وليست له أية قيمة، وأنه قد سقط من غرابيل المعري منذ ارتكب تأليف كتابه “على هامش الغفران”.
ويقول المفكر شاكر مصطفى:
“ترى ما الرأي لو جاء باحث بعد قرن من الزمان فنظر في التقارير الأمنية عن الدكتور لويس عوض فوجد أنها خليط شيوعي أمريكي فاتهمه بالذبذبة، والتلون، ونظر في تراثه الفكري فوجد فيه ريح الطائفية فرماه بالباطنية والنفاق وفي تراثه السياسي فوجده متصلاً بأمريكا وإنجلترا فدمغه بالعمالة وكتب عنه فتحدث عن أسطورة لويس عوض وأن له دورا كان يؤديه لحساب مجهول، وإن له ماضيًا مريبًا وتعاونًا كاملاً مع جهة ما وأنه مزدوج الشخصية أو مثلثها أو مربعها حسب الظروف وأن مواقفه وتحركاته جملة من المتناقضات كل ذلك بوثائق أمريكية وإنجليزية وفرنسية”
تحياتي واحترامي وان هذه المقالات تحمل حملا ثقيلا على مسامعنا وفيها اسرار من ملفات الماضي نرى تبعاتها الى يومنا هذا وتحمل حرصا من الدكتور احمد الزبيدي على اللغة العربية وامتها وعلى توثيق اشياء طمرت عن قصد اوغير قصد وفضحها للتخلص من تبعاتها وتاكيد من الباحث على الهوية العربية وتاكيد منه ان الحضارة العربية الاسلامية حضارة انسانية صالحة لكل زمان ومكان وما اخلاق العربي مهما كانت شخصيته فهو لا يظهر الا اصيلا للملا الا دليل على صدق تلك المقولات فكيف بشخصية عربي متزن ذكي اصيل ملتزم منتمي الى عروبته واخلاقه الرفيعة التي يدل عليها في سلوكه .لقد اوضحت وافهمت وكشفت وان في البيان لسحر الله يعطيك العافية دكتور احمد الزبيدي مع كل المحبة والاحترام والتقدير لك ولشخصيتك العربية الاصيلة المتجسدة في كتاباتك .تحياتي .مهند الشريف
روعة جزاكم الله خيراً
💎🌿💎🌿💎
مقالاتك رائعة يا دكتور أحمد
اود اضافة التعليق التالي
أهم النقد الذي يوجه إلى لويس عوض باختصار:
1. الانبهار المفرط بالغرب – تأثره الشديد بالثقافة الأوروبية جعله يقلل من قيمة التراث العربي والإسلامي.
2. الهجوم على الفصحى والتراث اللغوي – دعوته لاستخدام العامية وهدم القافية في الشعر قوبلت برفض واسع، لكونها تهدد الهوية الثقافية.
3. التشكيك في التراث الإسلامي – انتقاداته الحادة للتاريخ الإسلامي والمؤسسات الدينية جعلته متهمًا بعداء الإسلام.
4. الميل إلى العلمانية الراديكالية المتطرفة – ودعوته لفصل الدين عن الدولة بشكل جذري وضعته في مواجهة مع التيارات الإسلامية والمفكرين المسلمين مثل المفكر محمود شاكر.
5. عدم الدقة في بعض تحليلاته التاريخية – بعض آرائه حول التاريخ العربي والإسلامي تعرضت للنقد لافتقارها إلى الموضوعية والتوثيق الدقيق. ووضعه في دائرة الشبهات
رغم هذه الانتقادات، يبقى شخصية فكرية مهمة أثرت في الجدل الثقافي العربي،حتى وان كانت لها اهدافها المشبوهة
السيد أبو خالد أوجز في شخصية لويس عوض واتفق معه بالرأي. وجزا الله الدكتور أحمد كل خير على تذكير القراء بأن ما من انسان طعن أو حارب هذه اللغة الكريمة الا وكانت عاقبته الخذلان والهوان.
وَما مِـنْ كاتِـبٍ إلَّا سَيـفنى وَيُبقي الدَّهرُ ما كَتبَتْ يداهُ
فَلا تكتُبْ بِكفِكَ غَيرَ شيءٍ يَسُـرَّكُ فِي القيامَـةِ أنْ تَـراهُ #الشافعي رَحِمَهُ اللّٰه