مقالات
عصمة الأنبياء وتنزبيههم في القرآن الكريم (22) والأخيرة د. أحمد الزبيدي – الإمارات
د. أحمد الزبيدي
قال العلامةُ محمود محمد شاكر -رحمه الله- :” إن إنسانية الأنبياء وحدها هي الإنسانية التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر في ما ينقل عنها أو يصف منها، لأن نسبة شيء من الأشياء إليها قد يكون مما يتوهم أحدٌ منه وهمًا يخرج -في ما يُقبل من أمر الدنيا- بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الَّذي عَمِلوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا، وتُزْهِر دائمًا، وتبقى على امتداد الزمن روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذه الدنيا”. جمهرة المقالات (1 / 4).
وقال د. عماد الدين خليل في كتابه: “المستشرقون والسيرة النبوية” (ص6): (إن هذا الموقف المتوحّد من السيرة الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين،والذي يجد في السيرة تعبيرًا متكاملًا عن العقيدة التي ينتمي إليها، يجد في الدراسات الاستشراقية (الخارجية) عن السيرة تغرّباً عن مسلّماته وخروجًا صريحًا عن بداهاته، وما يمكن اعتباره محاولات متعدّدة لإصابة هذه المسلّمات والبداهات بالجروح والكسور.. وهي لن تفعل فعلها في يقينه، إلّا في حالات معينة بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمّها إلى الاشمئزاز والنّفور).
(ج9)
قال تعالى : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} [الزُّمَرِ: 65]
تمسك الطاعنون – في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم- بظاهر هذه الآية: وقالوا : لو لم يصح ذلك منه لما خوطب به!
وجوابه: أن المراد بهذا الخطاب أمته. قال الشيخ الشعراوي رحمه الله: (وكل ما في القرآن من هذا القبيل لا يُقصد به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، إنما الحق سبحانه يريد أن يعطي للأمة نموذجاً يلفت أنظارهم، وكأنه تعالى يقول لنا: انتبهوا فإذا كان الخطاب لرسول الله بهذه الطريقة، فكيف يكون الخطاب لكم؟ على حَدِّ المثل القائل “إياك أعني واسمعي يا جارة”) .
لذلك يقول بعض العارفين:
مَا كان في القُرآن مِنْ نِذَارةٍ
إلى النبيِّ صَاحبِ البشَارةِ
فكُنْ لَبيباً وافْهَم الإشَارةَ
إيّاك أعني واسْمعِي يَا جَارة
يعني: اسمعوا يا أمة محمد، كيف أخاطبه، وأُوجِّه إليه النذارة، مع أنه البشير. ولهذا روى عن ابن عباس أنه قال: نزل القرآن بإياك أعنى واسمعى يا جارة. ويشهد بذلك قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ}. [الطلاق: 1]؛ فخاطب النبىّ عليه السلام، والمراد بذلك جميع الأمة.
ثم تمسكوا بقوله تعالى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ}. [الأعلى 6-7]. والاستثناء يدل على النسيان في الوحي !
وجوابه: قال مالك بن أنس رضي الله عنه: تأويل ذلك: {سَنُقْرِئُكَ} فتحفظ. وهذا أصح في المعنى، نفى أن ينسى، إذ كان قد وعده فقال سبحانه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] في صدرك، واللَّه أعلم بما أراد من ذلك.
وفي شرح كتاب سيبويه (ج1 ص200) للسيرافي (ت 368 هـ): (يجوز أن يكون خبرا كأنه قال: سنقرئك ونزيل عنك النسيان، فلست تنساه، وذلك أنه عليه السلام قد كان قبل نزول هذه الآية يتلقى الوحي بإعادة ما أوحي إليه قبل استتمامه مخافة النسيان، ويعجل في تلقّيه، فنهاه الله تعالى عن ذلك بقوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وبشره بأنّه لا ينساه).
وقال الإمام الرازي (النسيان يجيء بمعنى الترك، قال الله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا}.
وقال: {كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى}.
وقال : {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى. إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ}.
قال أبو عبيدة “مجاز القرآن” (ج1 ص215) : {فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ}. مجازه: نؤخرهم ونتركهم، {كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا}أي كما تركوا أمر ربهم وجحدوا يوم القيامة.
وتمسكوا بقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ}. قالوا: فيما أوحي إليه، وإلا فأي فائدة في أمره بالسؤال؟!
الجواب:
-
أسلوب الشرط أسلوب معروف في اللغة العربية، ومن أدواته (إن)؛ وهي حرف وجود لوجود، فمثلا لو قلنا: إن كنت في البيت اتصل بك، فهذا الأسلوب لا يقتضي أنك في البيت، فكذلك هنا، لا يستلزم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم شاكّ، كما فهم الطاعنون، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم “لا أشك ولا أسأل”.
-
وقيل: إن هذا الخطاب موجه للأمة، كما مر معنا في قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن … }.
-
وذهب ابن حزم في كتابه -الرد على ابن النغريلة اليهودي (ص60) . (إلى أن (إن) هنا بمعنى (ما) أي: فما كنت في شك مما أنزلنا إليك، كقوله تعالى: {إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} [الأعراف:188] وقوله: {إن نحن إلا بشر مثلكم} [إبراهيم:11] ، قال: (لأن من المحال العظيم الذي لا يتمثل في فهم من له مسكة، أن يكون إنسان يدعو إلى دين يقاتل عليه، وينازع فيه أهل الأرض ،ويدين به أهل البلاد العظيمة، ثم يقول لهم: إني في شك مما أقاتلكم عليه أيها المخالفون، ولست على يقين مما أدعوكم إليه وأحققه لكم أيها التابعون، إلى مثل هذا السخف الذي لا يتصور إلا في دماغ هذا المجنون الجاهل).
-
وتمسكوا بقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ}. قالوا : وكاد معناه قارب، فدل ذلك على أنه عليه السلام قارب الكذب ومال إليه.
كتاباتك د أحمد منوعه، تدل على ثقافتك الواسعة تبارك الله
عزيزي الدكتور أحمد
بداية لايسعني إلا أن أبارك جهودك المبذولة في هذه السلسلة العطرة سيما الدفاع عن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام. والشكر موصول للقائمين على هذا المنبر.
إذا تأملنا رواية الترمذي: (مَنْ ردَّ عن عِرْض أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة). فيا له من جزاء عظيم لمن يرد عن عرض أخيه فكيف لمن يذب عن سيد بني آدم وبدحض بهتانهم. زادك الله علما وجعله في ميزان حسناتكم.