يقول: بادر إلى طلب المعالي؛ واثقاً بالله تعالى، وِثبة رجل ماجدٍ؛ يرى للموت في الحرب حلاوة كالعسل في الفم.
وكثيرا ما يَدّعي أبو الطيب ذلك لنفسه، وهي دعوى كبيرة عزيزةٌ في الناس، تكذبها الوقائع والمشاهد، غير أن أبا الطيب -رحمه الله-صدقها بقوله وفعله، وحسبك من ذلك بسالته في الحروب التي خاضها مع سيف الدولة الحمداني ضد الروم، وقصة مقتله.
وقد ذكرنا في مقال سابق إعجاب النقاد بامرئ القيس لما قرن في شعره بين معاطاة الكؤوس ومشهد الحرب الضروس؛ وقالوا: هذا غاية في البراعة والشجاعة. وقلنا: أين هذا من أبي الطيب المتنبي حينما حصر وقصر لذته على سل السيوف، وشق الصفوف، وخوض الحتوف.
طلب إليه بعض أصحابه أن يشرب معه فقال:
ألذّ من المُدامِ الخندريسِ (الخمر المعتقة)
وأحلى مَنْ مُعطاةِ الكُئُوسِ
مُعطاة الصَّفائحِ والعَوَال
وإقحامي خميساً في خَميسِ
فموتي في الوغى عيشي لأني
رأيت العيش في أرب النفوس
وقد بين علة تفضيله الحرب على الشرب، فقال: موتي في الحرب هو في الحقيقة عيشي؛ وما ذلك إلا لبقاء الذكر الجميل.
وقد روي عن سيدنا علي أمير المؤمنين-رضي الله تعالى عنه- وهو فارس الإسلام، والبطل المقدام؛ أنه كان يَطوف بين الصَّفّين فِي غِلَالَة فقال له ابنه الحسن رضي الله عنه ما هذا بِزِيّ المُحاربينَ! فقال: يا بني، لا يبالي أَبوكَ أَعلى الموت سقط أم عليه يسقط الموت.
وَقَالَ عَمَّارٌ رضي الله عنه بِصِفِّينَ:
الْآن أُلاقي الْأَحِبَّهْ
مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ
وَكان عبد اللَه بن رواحة يُنْشِدُ، وهو يقاتل الرّوم:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا
طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُهَا
وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا.
حَرامٌ على أرْمَاحِنا طَعْنُ مُدْبِرٍ …
وتَنْدَقُّ مِنْها في الصُّدورِ صُدُورُها
وكانوا يفتخرون بالموت ويستعذبونه على غير الفراش، ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتلُ أخيه مُصْعَب؛ قال: “إنْ يُقْتَلْ؛ فقد قُتِلَ أخوه وأبوه وعمُّه، إنا والله لا نموت حتف أنفنا، ولكن حَتْفُنا بالرّماح وتحت ظلال السيوف”. ثم تمثَّل بقول القائل:
وإنَّا لتَسْتَحْلي المَنايا نُفُوسُنا …
وتُتْركُ أُخْرَى مُرَّةً ما تذوقُها
وفي مثل هذا يقول السّمَوْأل وهو في “الحماسة”:
ومَا مَاتَ منَّا سيِّدٌ في فِراشِه
ولَا طُلَّ مِنَّا حَيْثُ كانَ قَتِيْلُ
تسِيْلُ على حدِّ الظُّبَاتِ نُفوسُنا
ولَيْسَتْ على غَيْرِ الظُّبَاتِ تسيْلُ
وهذا شبيه بالمعنى بالذي يُحدثُ به عن سيدنا خالد بن الوليد-رضي الله تعالى عنه- فإنه قال عند موته: ” لقد لقيت كذا وكذا زحفاً وما في جسدي موضع شبر إلاّ وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، ثم ها أنذا أموت حتف أنفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء “.
فحكى من غسَّله أنَّه ما كان في جسمهِ موضعٌ صحيح ما بين ضربة بسيف، أو طعنة برُمحٍ، أو رمية بسهم.
ولما توفي لم تبْق امْرأَة من بنى الْمغيرة إِلَّا وضعت لمتها على قَبره، وَلما ارْتَفَعت أصواتُ النِّسَاء عليهِ أنكرها بعض النَّاس فقال عمر رضى الله عنه دع نساء بنى الْمغيرة يبْكين أَبَا سُليمان ويرقن من دموعهنّ سجلا أَو سَجْلَين مَا لم يكن نقع أَو لقلقَة. (النَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ ، وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ )
وسأل عمر بن عبد العزيز ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير فقال: ما رأيت نفسا أثبت من نفسه، مر حجر من المنجنيق وهو قائم يصلّي بين جنبه وصدره فما خشع له بصره ولا قطع قراءته ولا ركع دون الركوع.
وعن قتادة قال: كان حجر المنجنيق يجيء عبد الله بن الزبير فيقال له تنحّ فيقول:
سهّل عليك فإنّ الأمور
بكفّ الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيّها
ولا قاصر عنك مأمورها
وما زالت العرب يتمادحون بالموت قعصاً،(أي: بالرمح) ويتسابّون بالموت على الفراش، ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه، وأوّل من قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في كتاب “الأغاني” (ج16 ص361-362): لما أسر عبدُ بنُ يغوث ، وشدوا لسانَهُ مخافة أن يهجوَهُم.. التمس منهم أن يطلقوه؛ لينوح على نفسه، وعاهدهم أن لا يهجوَهُم، فأطلقوا لسانه، فقال:
ألا لا تَلُومَانِيْ كَفَى اللَّومَ ما بيا
فما لكُما في اللَّومِ نفعٌ ولا لِيَا
ألم تعلما أنّ الملامةَ نَفعُها
قليلٌ وما لَومي أخي من شِمالِيَا
فيا رَاكِباً إما عرضتَ فبَلِّغَنْ
نَدَامايَ من نَجرَانَ ألاّ تَلاقيا
أبا كُرَبٍ والأَيْهَمِيْن كِلاهُمَا
وَقَيْساً بأعلَى حَضْرموتَ اليَمانِيا
وتضحكُ مني شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ
كأنْ لم ترى قبلي أسيراً يمانيا
جَزَى اللهُ قَومِي بالكُلابِ ملامَةً
صريحَهُمُ والآخَرِين المَواليا
أقول وقد شلوا لساني بِنِسعَةٍ
أمعشَرَ تيمٍ أطلِقُوا مِن لسانِيا
وظلَّ نِساءُ التَّيمِ حوليَ رُكَّدا
يُرَاوِدنَ مني ما تُريدُ نِسائِيا
قال ابو عثمان: وليس في الأرض أعجب من طرَفة بن العبد وعبد يغوث، وذلك أنا إذا قسنا جودة أشعارهما في وقت احاطة الموت بهما لم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية.
أما طرفة بن العبد فلم يتلجلج عند القتل إذ أنشد حينئذ:
أبا مُنْذِرٍ! كانتْ غُرُوراً صَحِيفَتِيْ
ولم أُعطِكُمْ في الطوْعِ مالي ولا عِرْضي
أبا منذرٍ أفنَيْتَ فاستبْقِ بعضَنا
حنانَيْكَ! بعضُ الشرّ أهوَنُ منْ بَعضِ
وقوله: بعضُ الشرّ أهوَنُ منْ بَعضِ، صار مثلا مشهورا، يوافق من أمثال العامة قولهم: نصف الخسارة ولا الخسارة كلها.
قال أبو عبيد (ص341): يقال: إنَّ هذا المثل لعبيد بن الأبرص قاله للمنذر أو النعمان بن المنذر حين قتله، وعندها قال حين استنشده: ” حال الجريض دون القريض “
أما عبيد بن الأبرص فقد لقيه النعمان بن المنذر، كان يقتل أول من يلقاه من الناس في يوم من أيامه. فكلم فيه، فقال: لا أدع سنتي. ولكن أستمتع به بقية نهاري، ثم أقتله. فقال: اقرض في شعرا… قال عبيد: “حال الجَريضُ دون القريضِ”. فذهب قوله مثلا، يضْربُ للمعضلة تعرض فتشغل عَن غَيرهَا.
قال: فأنشدني قولك: أقفَرَ، مِن أهلِهِ مَلحُوبُ..
فقال عبيد:
أقفَرَ، مِن أهلِه، عَبِيدُ
فاليَومَ لا يُبدِي، ولا يُعِيدُ
والجَريضُ: الغصة والقريض: قول الشعر.
تميم بن جميل بين يدي المعتصم
جاء في “العقد الفريد” (ج2 ص32): قال أحمد بن أبي دواد: ما رأينا رجلًا نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يحب أن يفعله، إلا تميم بن جميل؛ فإنه كان تغلّب على شاطيء الفرات؛ وأوفى به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة، ودخل عليه، فلما مثل بين يديه، دعا بالنّطع والسيف، فأحضرا، فجعل تميم بن جميل ينظر إليها ولا يقول شيئا، وجعل المعتصم يصعّد النظر فيه ويصوّبه، وكان جسيمًا وسيمًا، ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره. فقال: يا تميم، إن كان لك عذر فأت به، أو حجة فأدل بها. فقال: أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كلّ شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الالسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب، وساء الظنّ، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بامتنانك، وأشبههما بخلائقك. ثم أنشأ يقول:
أرى الموتَ بين السّيفِ والنِّطْعِ كامِنا
يلاحظُني منْ حيثُ ما أتلفّتُ
ومن ذا الذي يدلي بعذر وحُجة
وسَيْفُ المنايا بين عينيه مُصْلَتُ
يَعِزُّ على الأوسِ بنِ تَغْلبَ موقفٌ
يُسَلُّ عليّ السيفُ فيه فَأسكُتُ
وما جزعي من أن أموتَ وإنّني
لأعلَمُ أنّ الموت شيءٌ مُوَقَّتُ
ولكنَّ خلفِي صبيةً قد تركتُهُمْ
وأكبادُهُم من حسرةٍ تتفتّتُ
فإن عشتُ عاشوا خافضينَ بغبطةٍ
أذودُ الرّدى عنهم وإن متُّ مُوِّتُوا
وكم قائلٍ: لا يُبعِدُ اللُه روحهُ
وآخَرَ جذلانٌ يُسَرُّ ويَشْمَتُ
قال: فتبسم المعتصم وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل، اذهب، فقد غفرت لك الصبوة ،وتركتك للصبّية.
رسالة في ليلة التنفيذ
وقد شاع خطئا أن الشاعر الكبير هاشم الرفاعي(1935-1959م) حُكم عليه بالإعدام، فقال قصيدته المشهورة (رسالة في ليلة التنفيذ) وهو يعاني مرارة السجن منتظرا تنفيذ الحكم، والحقيقة أنه قالها رَدَّاً على رِسَالَةٍ تَلَقَّاهَا مِنْ مُعْتَقَل سِيَاسِيٍ حَكَمَ الطُّغَاةُ عَلَيْه بِالإِعْدَام؛ ناشده فيهَا أَنْ يُوَاسيَ أَبَاه؛ فَكتبها على لسَانِ ابْنه قَائلا: