مقالات

وقفات مع المتنبي (24) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

 

ج (1)

سرقاتٌ شعرية، أم توارد خواطر
ووقع حافر على حافر..!

معنى السرقات الشعرية:

قال ابن منظور: “السرقة: مصدر من ‌سَرَق ‌الشيء ‌يسْرِقه ‌سَرَقًا ‌وسَرِقًا، وهي أخذ المال على وجه التخفي” .
وفي الاصطلاح: “أخذ مكلف خفية، قدر عشرة دراهم مضروبة محرزة، بمكان أو حافظ، بلا شبهة”. أما السرقات الأدبية والشعرية فيعنون بها: أن يسبقَ بعضُ الشعراء إلى تقرير معنى أو استنباطه، ثم يأتي شاعر آخر يأخذ ذلك المعنى ويكسوه عبارة أخرى، أو يلبسه ثوبا آخر، ثم يختلف حال الأخذ؛ فتارة يكون جيدا مليحا، وتارة يكون رديئا قبيحا، على قدر جودة الذكاء والفطنة والفصاحة والدهاء؛ بين السارق والمسروق منه.
أقسام السّرقات:
قال الأستاذ عبد الرحمن حَبَنَّكَة (ت 1425هـ) “البلاغة العربية”(ج2 ص554) :” السّرقات الأدبيّة تنقسم إلى ثمانية أنواع، ثلاثة منها ظاهرة، وهي “النسخ أو الانتحال – المسخ أو الإِغارة – السَّلْخُ أو الإِلمام”. وخمسة منها غير ظاهرة، وهي “التشابه – النقل – التعميم – القلب – الالتقاط والإِضافة” .
من الحاكم ؟
على أن الحكم على المادة الأدبية بأنها سرقة ليس ‌بالأمر ‌الهيِّن كما يظن بعض النَّاس، إذ يتطلب الأمر مقاييس دقيقة، وأذواقا رقيقة ! فكيف إذا كانت الخصومة واقعة في شاعر بحجم المتنبي؛ فإن الخصومة فيه أمر له خطره في تاريخ النقد العربي، والفصل فيه لا يقدم عليه إلا الثقات الكبار من النقاد المحيطون بفنون الشعر وما يحسن وما يقبح في الأساليب، ولم أعلم أنها اجتمعت في ناقدٍ قط اجتماعها في القاضي الجرجانى وكتابه “الوساطة” أكبر شاهد على ذلك، فقد احتوى الكتابُ على نظريات وقواعد وآراء، ومثل لها بأمثلة كثيرة مما بوأ صاحبه أن يكون أديباً ذائع الصيت؛ وناقداً خرّيت، ويعد في طليعة النقاد الكبار المحققين. وحسبه هذا الإمام أنه كان شيخا ومعلما للإمام الفذ عبد القاهر الجرجاني، وحسب عبد القاهر أنه كان تلميذا له!
مؤهلات الحاكم
قال القاضي الجرجاني”الوساطة بين المتنبي وخصومه” (ص 183): ” وهذا باب(يقصد الحكم على السرقات الأدبية) لا ينهضُ به إلا الناقد البصير، والعالم المبرِّز. وليس كل من تعرّض له أدركه استوفاه واستكمله، ولستَ تعدُّ من جهابذة الكلام، ونُقّاد الشعر، حتى تميّز بين أصنافه وأقسامِه، وتحيط علماً برُتَبه ومنازله، فتفصل بين السَّرَق والغصْب، وبين الإغارة والاختلاس، وتعرف الإلمام من الملاحظة، وتفرِق بين المشترك الذي لا يجوز ادّعاء السّرَق فيه، والمبتذل الذي ليس أحدٌ أولى به، وبين المختصّ الذي حازه المبتدئ فملكه، وأحياه السابق فاقتطعه، فصار المعتدي مُختلساً سارقاً، والمشارِك له محتذياً تابعاً، وتعرف اللفظ الذي يجوز أن يقال فيه: أُخذ ونقل، والكلمة التي يصح أن يقال فيها: هي لفلان دون فلان.
معنى كلام الجرجاني
ومعنى قول الجرجاني؛ أن المعاني المطروحة على ثلاثة أضرب: فمنها العامة؛ الناس فيها شركاء. وحينئذٍ لا فضل فيها لأحد على الآخر. ولا يقبل ادعاء السَّرق فيها. مثل تشبيه الحُسن بالشمس والبدر، والجواد بالغيث والبحر، والبليد بالحمار.
وأما المعاني المبتذلة، فهي المعاني المطروحة والمعروفة على قارعة الطريق، يلتقطها كل أحد من الناس. وهي لكثرة استعمالها صارت خَلِقة ومبتذلة. مثل تشبيه الطلل البالي بالخط الدارس، والوشم في اليد، ومثال ذلك؛ تشبيه الحُسن بالشمس والبدر، والجواد بالغيث والبحر، والبليد البطيء بالحجر والحمار، والشجاع الماضي بالسيف والنار، والصبّ المستهام بالمخبول في حيرته، والسليم في سَهره، والسقيم في أنينه وتألّمه، فهي جميعها أمور متقررة في النفوس، متصورة في العقول، يشتركُ فيها الناطق والأبكم، والفصيح والأعجم… . اه
نزاهة الناقد وسلطانه:
إن النقد المجرَّد النَّزيه منَ الهوى، المبرأ من المصالح عزيز ونادر، وربما يكون أندر منَ الكبريت الأحمر، فالناقد حَكم، والحكم قاض، وقد شرطوا للقاضي شروطا معروفة تطلب في مظانها.
وإذا كان الشعر يحطّ من قدر الكامل كما يرفع من قدر الجاهل، ويضع من قدر الشريف كما يرفع من قدر السّخيف، فإن حكم الناقد على الشاعر قريب من ذلك !، فالناقد البصير؛ سلطانٌ خطير، وَحَكمٌ مُبير (قاتل) وصاحب نفوذ واسع، وسلاح رادع، كلمته ترفع الأديب، وإشارته تحطُّ الأريب ، وهو في الحالين مسموع الكلمة، مرهوب الجانب، مطاع لا يخالَف، يفيء القوم إلى رأيه، وينزلون على حكمه. قال الأصمعىّ: “كان النابغة يضرب له ‌قبّة ‌من ‌أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها”، فالسعيد منهم من استحسن شعره، والشقي منهم من استنقصه، فمَن أشاد به نَبُه ذكرُه، وعلا شأنه، ومَن تجاهله، سفُل شأنه، ونزل شأوه ؟! . قال الخليل بن أحمد يوما للشاعر ابن مناذر: “إنما أنتم – معاشر الشعراء – تبعٌ لي، .. إن قرظتكم ورضيتُ عنكم نفقتم، وإلا كسدتم”.
وقد كان أبو عمرو بن العلاء وأصحابه لا يجرون مع خلف الأحمر في حلبة هذه الصناعة؛ أعني النقد، ولا يشقون له غباراً، لنفاذه فيها؛ وحذقه بها، وإجادته لها، وقد يميز الشعر من لا يقوله، كالبزاز يميز من الثياب ما لم ينسجه، والصيرفي يخبر من الدنانير ما لم يسبكه ولا ضربه، حتى أنه ليعرف مقدار ما فيه من الغش وغيره فينقص قيمته.
وحكى أن رجلاً قال لخلف الأحمر: ما أبالي إذا سمعت شعراً استحسنته ما قلت أنت وأصحابك فيه!! فقال له: إذا أخذت درهماً تستحسنه وقال لك الصيرفي إنه رديء هل ‌ينفعك ‌استحسانك ‌إياه؟
وفي هذا من الدلالة الواضحة على سلطان الناقد الأدبي وهيمنته على الساحة الأدبية والأدباء !
وإذا كان شرط الآمدي في الناقد أن يكون عالما بصيرا، وأديبا نحريرا، فقد غفل-رحمه الله- أن يشترط أن يكون الناقد متجردا ونزيها.
نزاهة الناقد
قال الأستاذ إحسان عباس”تاريخ النقد”(ص33):”يتفاوت النقاد في تناولهم لهذه المشكلة بين التسامح الكثير، والتنقير والتعقب المضني، وتتفاوت كذلك درجاتها عندهم، فبينا نجدُ ناقدًا مثل الآمدي أو القاضي الجرجاني أو حازم يتناولها دون حدة، نجد البحث فيها        – مصحوباً بالنقمة والغيظ – هو الشغل الشاغل للحاتمي (في بعض حالاته) ولابن وكيع والعميدي”، وقد بين ابنُ رشيق صفات النُقّاد في التحقيق والتوثيق، ووصفهم بصيارفة الكلام، وأساة الكُلام، واشترط فيهم أن يكونوا ذوي خبرة ومراسة، واستشهد على هذا بكلامٍ للجاحظ “فقد طلب الشعر عند الأصمعي فوجده لا يحسن إلا غريبه، ورجع إلى الأخفش فوجده لا يحسن إلا إعرابه، فعطف على أبي عبيدة فوجده لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار وتعلّق بالأيام”، ومراد ابن رشيق بهذا النقل أن يؤكد على أن الشعر قد يميزه من لا يقوله لكنه يكون به أبصر من العلماء بآلته، غير أن الظالم قد ينصف، والمسيء قد يحسن، وليس ذلك على الله بعزيز.
والغريب أن الحاتمي عندما حاول أن يقيم صلة بين الشعر والفلسفة، أخذَ يتتبع التشابه بين معاني المتنبي ومعاني أرسطو. وقد تجلى إنصافه في مقدمة رسالته، قال: ” والذي بعثني على تصنيف هذه الألفاظ المنطقية والآراء الفلسفية التي أخذها أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي منافرة خصومي فيه، لما رأيت من نفور عقولهم عنه وتصغيرهم لقدره ؟. ووجدنا أبو الطيب؟ قد أتى في شعره بأغراض فلسفية ومعان منطقية، فإن كان ذلك منه عن فحص ونظر وبحث فقد أغرق في درس العلوم، وإن يك ذلك منه على سبيل الاتفاق فقد زاد على الفلاسفة بالإيجاز والبلاغة والألفاظ الغريبة، وهو في الحالتين على غاية من الفضل وسبيل نهاية من النبل، وقد أوردت من ذلك ما يستدل على فضله في نفسه وفضل علمه وأدبه وإغراقه في طلب الحكمة؟”.
وهذا القول المنصف من الحاتمي حمل أساتذة كبار مثل الأستاذ أحمد أمين على التشكيك بصحة نسبة “الرسالة الحاتمية” إليه !
ويذكر الآمدي؛ أن أبا ضياء النصيبي في كتابه “سرقات البحتري من أبى تمام ” أورد واحدا وأربعين مثلا من المعاني المستعملة الجارية مجرى الأمثال. وأن البحتري أخذها من أبي تمام، فناقش الأسدي هذه الأمثلة، وقال إن الأمر هو اتفاق بين الشاعرين في المعنى لا أمر أخذ الواحد من الآخر، فما هو بسرقة، وإنما اتفاق في الكلام ومعاني العرب.

اعتراف البحتري

ومما يؤكد ما ذهب إليه الأسدي ما ذكره البحتري نفسه، قال: (أنا والله تابع لأبي تمام، لائذ به، آخذ منه، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه). وقال أبو الطيب المتنبي-رحمه الله-:(حبيب أستاذ كل من قال الشعر بعده).
قال ابن الأثير-المثل السائر-(ج1 ص13): ” أما أبو تمام, فإنه رب معان، وصيقل ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، لم يمش فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب، الذي برز فيه على الأضراب”.
وإذا كان المتنبي قد عمم في الحكم، فهو بلا شك يقصد نفسه بشكل خاص وإن لم يصرح بذلك، فإن حبيب بن أوس قد انتهت إليه رياسة الشعر، وتحصلت لديه معاني المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، وفي عصره تمت حركة الترجمة الواسعة ؛من اليونان، والهند، والفرس، فتشبع منها حتى كبر عقله، واتسع خياله، وعذب لفظه، فاستقل بمذهب خاص في الشعر صار يعرف به، فاستكثر من الحِكم، وذهبت بعض أشعاره أمثالا سائرة، وإن أخذ عليه الإفراط في المحسنات اللفظية، لا سيما البديع، وقد ذكروا إجلال المتنبي له، وحفظه لأشعاره، وهو بذلك ممن مهد الطريق ووطأه للمتنبي ليكون ما هو عليه.
وسئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه، فقال: “أنا وأبو تمام حكيمان , والشاعر البحتري”.[المرجع السابق] ولعمري إنه أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاطه الغالية، ورقي في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.
وأبو الطيب أعلم الناس بما يقول، فهو بوجه من الوجوه تلميذه وخريجه، وإن لم يأخذ عليه، ومعاني أبي تمام في شعر المتنبي سافرات واضحات.
ولا يضيره بعد ذلك ما جاء في الموشح للمرزباني(ص425):أن (سرقات البحتري من أبي تمام نحو خمسمائة بيت).
فإن أبا عبادة(البحتري) أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاطه الغالية، ورقي في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.

أنواع السرقات وتاريخها

تلونت السرقات في عالم الأدب ألواناً شتى، فتارة تكون مادّية صرفة، وتارة تكون أدبية، وتارة تكون حِرفة.
على أن السرقات الشعرية أو الأدبية بالمعنى الذي ذكرناه موجود وقديم قدم الإنسان. ومن أوائل الذين نبهوا عليها، وذكروا صورا منها الفيلسوف اليوناني أرسطو، قال:” وإذا كانت السرقات المادية لا يفعلها- في الغالب- إلا سِفْلَةُ ‌النَّاسِ، فإن السرقات الأدبية لا يقدم عليها إلا عِلْيَةُ القوم وسراتهم؛ من شعراء، وأدباء، ومثقفين.”
شر الناس من سرق

وقد أكثر الشعراء الجاهليون من ذم السرقة والسُّراق، فأول من ذمّها-بحسب علمي- طرفة بن العبد فقال:
‌وَلا ‌أُغيرُ ‌عَلى الأشعار أسْرقُها
عَنْها غَنيتُ وَشَرُّ النّاس من سَرَقا
وإنَّ أحسنَ بَيْتٍ أنْتَ قائِلُهُ
بَيْتٌ يُقالُ، إذا إنْشَدتَهُ، صَدَقا
ولا يقول طرفة ما قال، – إلا وهو يُمثل منبرا من منابر الإعلام الجاهلي المهمة، وإلا أن تكون السرقات الشعرية قد بلغت أن تكون ظاهرة ‌من ‌الظواهر الاجتماعية.
وقوله :”وشر الناس من سرقا..، فيه دلالة واضحة على استقباحهم السرقات الأدبية أكثر من السرقات المادية.
فقد يلتمسون العذر للسارق؛ لا سيما إذا سرق ليأكل، أو سرق ليستر جسمه،، وحينئذ فإنهم يغفرون ذنبه، ويتجاوزون زلته.
وقد ضَج أبو تمام بالشكوى من سرقة محمد بن يزيد الأموي شعره فقال:
مَنْ بَنو نجدل من ابن الحُبَابِ
منْ بنو تغلب غَداةَ الكُلاب؟
وقال الأعشى:
فكيف أنا وانتحالي القوا
في بعد المشيب، كفى ذاك عارا
وهكذا يؤكد الأعشى على المعنى الذي ذكره طرفة، ويعد سرقة الشعر عار وأي عار!
ولا يجأر الأعشى بهذا الصوت إلا إذا صارت السرقات الشعرية ظاهرة للعيان، ومنتشرة في كل مكان !
وفي مقامات الحريري للشُّريشي (ت 619 هـ) (ج2 ص161) :”
ومن سرقة اللفظ والمعنى، ما يحكى عن أبي المعافى أنه لما مدح أبا العباس محمد بن إبراهيم الإمام بقوله:
إليك بمدحتي يا خير أبنا
رسول الله من تلد النّساء
ستأتيك المدائح من رجال
وما كفّ أصابعها سواء
فأخذه آخر وغيّره بأن وضع الرجال موضع النساء، وغيّر عجز البيت الآخر فقال:
* كما اختلفت إلى الغرض النّبال*
فاستعدي عليه أبا المعالي صالح بن إسماعيل، وهو على شرطة محمد بن إبراهيم بالمدينة، فقال:
ما سارق الشعر فيه وسم صاحبه
إلّا كسارق بيت دونه غلق
بل سارق البيت أخفى حين يسرقه
والبيت يستره من ظلمة غسق
من جيّد الشعر أن يخفى لسارقه
وجيّد الشعر قد سارت به الرفق
فقال صالح: فما تحب أن أفعل به؟ فقال: تحلّفه عند منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم ألّا ينشد هذا الشعر إلا لي.
• وكان محمد بن زهير يشرب، فإذا سكر لا يفيق إلا بإنشاد الشعر، فأمر يوما جبّار بن محمد الكاتب أن ينشده، فأنشده أبياتًا لأبي نواس ادعى أنه قائلها وهي:
صاح ما لي وللرسوم القفار
ولنعت المطيّ والأكوار
شغلتني المدام والقصف عنها
وسماع الغناء والمزمار
ومضى في الشعر، وأبو نواس قاعد، فوثب وتعلّق به قدّام محمد بن زهير، وأنشأ يقول:
أعدني يا محمد بن زهير
يا عذاب اللّصوص والذّعار
يسرق السارقون ليلا وهذا
يسرق الشعر جهرة بالنّهار
صار شعري قطيعة لجبار
أفهذا لقلة الأشعار!
قل له فليغر على شعر حمّا
د أخي الفتك أو على بشّار
• أما الشاعر أبو هفان فقد بلغ الأمر منه ما بلغ السيل من الزُّبى، ولولا ذلك لما صرح باسم السارق على أعين الملأ من الناس. قالَ أَبُو هِفَّان
هَجَوْتُ ابْنُ أَبي طاهرَ
وَهْوَ العَيْنُ والرَّاسُ
وَلَوْلا ‌سَرْقُهُ ‌الشِّعْرَ
لَما كانَ بِهِ باسُ
إِذا أَنْشَدَكُمْ شِعْراً
فَقولوا أحْسَنَ النَّاسُ
ويتطور الأمر عند حسان فيبلغ حدود العنان، حتى يضطره الأمر أن يدافع عن نفسه، وينزهها عن الإغارة على الشعراء، ويعلل ما رآه الناس سرقة.
‌لا ‌أسرِقُ ‌الشُّعَراءَ ‌ما ‌نَطَقُوا
بلْ لا يوافِقُ شعرُهُمْ شعْرِي
وكأنه يريد أن يقول: أنها توارد خواطر، وقد يقع ‌الحافر ‌على ‌الحافر، ويوافق قول الأول قول الآخر.
ولا غرو في ذلك، فإذا تقاربت الديار تقاربت الأفكار، ولهذا قالوا: الشعر محجة يقع فيها ‌الحافر ‌على ‌الحافر.

رأي أبي الطيب في السرقات

حدث رجلٌ ثقة؛ أنّ أبا الطيب لما أنشد هذا البيت قيل له: هذا من قول الأول:
إن تكن متَّ صغيرًا
فالأسى غير صغير
فإن تك في قبر فإنك في الحشى
وإن تك طفلًا فالأسى ليس بالطفل
فقال: الشعر طريق، وربما وقع الحافر على الحافر.
وقال: الشعر ميدان، والشعراء فرسان، فربما اتفق توارد الخواطر كما قد يقع ‌الحافر ‌على ‌الحافر.
ولقد صدق أبو الطيب وما كذب، فإن ميدان الشعر مداه أوسع أضعاف مضاعفة من مضمار سباق الخيل، فثم مجال لتوارد الخواطر – ومثل هذا يعلمه المتنبي –كذلك ثم غارات الشاعر للشعراء لا تنكر. . . !
ومما يؤكد قول أبي الطيب أن جملة من النقاد المتشددين مثل الحاتمي وكثير من معاصريه قد كفوا عن عد الانتحال والنحل والإغارة والمرافدة وتوارد الخواطر أنواعاً تندرج تحت باب الأخذ والسرقة.
وأذكر أنني عندما قرأت كتاب الحاتمي أول مرة لفتني أن نقد الحاتمي ليس نقدا علميا ولا نزيها ولا مجردا، وأن قدرا كبيرا منه تحكمت فيه المصالح الشخصية ، ومع أني كتبت عن نقد الحاتمي من قبلُ للمتنبي إلا انني لم أجرؤ على التصريح برأيي خشية أن أكون من الظالمين؛ إذ أن هذا الحكم مما يتعلق بالقلوب، غير أني رجعت إلى قولي واستكانت نفسي إليه بعدما قرأت اعتراف الحاتمي نفسه بذلك -الموضحة- (ص3) قال:” بأن الوزير المهلبي هو الذي حرضه على مهاجمة المتنبي ” سامي هتك حريمه وتمزيق أديمه ووكلني بتتبع عواره وتصفح أشعاره وإحواجه إلى مفارقة العراق”.
ولكن ما الذي حمل الوزير المهلبي على تجشم ذلك؟ أما الجواب فنتركه لصاحب اليتيمة حيث يقول : “ولما استقرَّ (المتنبي) بدار السلام وترفَّع عن مدح الوزير المهلبيِّ ذاهبًا بنفسه عن مدحِ غير الملوك، شقَّ ذلك على المهلبيِّ فأغرى به شعراءَ العراق حتى نالوا من عِرْضه، وتبارَوْا في هجائه، فلم يُجِبهم ولم يُفكر فيهم، فقيل له في ذلك فقال: إني فرَغتُ من إجابتهم بقولي لمن هو أرفعُ طبقةً في الشعر منهم:
أرى المتشاعرِينَ غَرُوا بذمِّي
ومن ذا يَحمدُ الداءَ العُضالا ؟!
ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ
يَجِدْ مُرًّا به الماءَ الزُّلالَا
وقولي:
أفي كلِّ يوم تحت ضِبْني شُويعِرٌ
ضعيفٌ يُقاويني قصيرٌ يُطاولُ؟
لساني بنُطقي صامتٌ عنه عادلٌ
وقلبي بصمتي ضاحكٌ منه هازلُ
وأتعَبُ مَن ناداك مَن لا تُجيبهُ
وأغيظُ مَن عاداك مَن لا تُشاكِلُ
وما التِّيه طَبْعي فيهِمُ غيرَ أنني
بغيضٌ إليَّ الجاهلُ المتعاقلُ
وقولي:
وإذا أتَتْك مَذمَّتي من ناقصٍ
فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ
وذكر المرزباني في “الموشح” (ص187) : (كان الأخطل يقول: نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة. . .)
ونسبها صاحب كتاب “المنصف للسارق والمسروق” (ص100) للفرزدق”.
وقد فسر العلماء هذا الأمر بالمواردة والاشتراك في اللفظ والمعنى أو كليهما. قال الأصمعي : “قلت لأبي عمرو بن العلاء: أرأيت الشاعرين يتفقان في المعنى، ويتواردان في اللفظ، لم يلق واحد منهما صاحبه، ولا سمع شعره؟ فقال: تلك عقولُ رجال توافت على ألسنتها، وقد اعتد قوم ذلك سرقًا، وليس بسرق وإنما هي ألفاظ مشتركة محصورة يضطر الشاعر إذا اعتمد النظم في معناها إلى المواردة فيها عن غير قصد، وذلك لاتساع الكلام، وتقارب طباع الشعراء بعضها من بعض” .

والمواردة كما عرفها البغدادي في “الخزانة” (ج:2 ص: 380): “هي أن يتوارد الشاعران على بيت، أو بعض بيت، بلفظه ومعناه: فإن كان أحدهما أقدم من الآخر وأعلى رتبة في النظم حكم له بالسبق، وإلا فلكل منهما ما نظمه كما جرى لامرئ القيس وطرفة بن العبد في معلقتيهما، وهو قول امرئ القيس:
وقوفًا بها صحبي عليَّ مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
قال طرفة: أسى وتجلد. فلما تنافسا في ذلك وأحضر طرفة بن العبد خطوط أهل بلده في أي يوم نظم هذا البيت، كان اليوم الذي نظما فيه واحدًا.
وقال الأصمعي:” تسعة أعشار شعر الفرزدق سرقة، وكان يكابر، وأما جرير فله ثلاثمائة قصيدة، وما علمت سرق شيئاً قط إلا نصف بيت، ولا أدري لعله وافق شيء شيئاً. وقال أحمد بن أبى طاهر: كان الفرزدق يصلت على الشعراء ينتحل أشعارهم، ثم يهجو من ذكر أنّ شيئا انتحله أو ادّعاه لغيره، وكان يقول: ضوالّ الشعر أحبّ إلى من ضوالّ الإبل، وخير السرقة ما لم تقطع فيه اليد.
قال المرزبانى في “الموشح” (ص141) : “وهذا تحامل شديد من الأصمعى، وتقوّل على الفرزدق لهجائه باهلة، ولسنا نشكّ أنّ الفرزدق قد أغار على بعض الشعراء في أبيات معروفة، فأما أن نطلق أنّ تسعة أعشار شعره سرقة فهذا محال، وعلى أنّ جريرا قد سرق كثيرا من معانى الفرزدق، وقد ذكرنا ذلك في أخبار الفرزدق”.
قلت: وهذا -أيضا- إشارة منهم إلى مقولة: “قد يقع الحافر على الحافر”. وقد تقدم.
قال صاحب “تاج العروس”:” ووُقُوعُ ‌الحافرِ ‌على ‌الحافِر فِي كَلامِهِم لَا يَكَادُ يُفَارِقُ أَكْثَرَ أَكابِرِهم وَلَا سِيَّما إِذا تَقَارَبَت القَرَائِحُ”.
فَمِنَ المُوَارَدَةِ وَالاشْتِرَاكِ في اللَّفِظْ، ووقُوع ‌الحافِرِ ‌على ‌الحافِرِ، مِمَّا لَيْسَ بِسَرَقٍ قول امرئ القيس:
وُقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهم
يَقولون ‌لا ‌تَهلكْ ‌أسىً وتَجَمَّلِ
أخذه طرفة فقال:
وُقوفاً بها صَحبي عليَّ مطيَّهم
يَقولون ‌لا ‌تهلكْ ‌أسىً وتَجَلَّدِ
وقَوْلُ عَنْتَرَةَ العَبْسِيِّ:
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ
عَلَيْهَا الأُسْدُ تَهْتَصرُ اهْتِصارَا
فَقَالَ عَمْرُو بن مَعدِ يكَرِبٍ:
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتَ لَهَا بِخَيْلٍ
تَحِيَّةُ بَيْنِهِم ضرْبٌ وَجِيْعُ
فَقَالَتْ الخَنْسَاءُ بِنْتُ عَمْرٍو :
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتَ لَهَا بِخَيْلٍ
فَدَارَتْ بَيْنَ كَبْشَيْهَا رَحَاهَا
وَقَالَ أعْرَابِيٌّ :
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ
تَرَى فُرَسَانهَا مِثْلَ الأُسوْدِ
قال الحاتمي “حلية المحاضرة”(ص101):” فَلَو اجْتَهَدَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ قَصْدِهِمْ الإِخْبَارَ بما أخبَرُوا بِهِ مِنْ هَذَا الوَصْفِ أَنْ يُوردُوهُ بِغَيْرِ هَذِهِ العِبَارَةِ فِي هَذَا العُرُوْضِ، لَمَا اسْتَطَاعُوا؛ لأنَّ اللَّفْظَ يَضْطَرُّهُمْ، وَاعْتِمَادَ العِبَارَةِ الشَّرِيْفَةِ يَقُوْدُ أعِنَّتَهُم إِلَى ذَلِكَ. فَرُبَّ مَعَانٍ تَخْتَصُّ بِألْفَاظٍ شَرِيْفَةٍ، لَا يُمْكِنُ تَعَدِّيْهَا إِلَى مَا هُوَ أشْرَفُ مِنْهَا”.
وقال محمد بن أيدمر المستعصمي (639 هـ – 710 هـ):”فَهَذَا مِنَ الاشْتِرَاكِ فِي اللَّفْظِ، لذلك قالوا : وإذا أخذت شعراً فزد على معناه، وانقص من لفظه، كما يطعن به عليه، فحينئذ تكون أحق به”.

دواعي الخصومة حول الشعراء

لم يكن المتنبي في هذا الموضوع بدعاً من الشعراء، فالشعراء من قبل ومن بعد قد خوصموا في شعرهم؛ وليس من شك في أن خصوماتهم غير مبرأة من الهوى، وغير منزهة من العناصرَ الشخصية، فأبو نُوَاس مثلا قد تحومل عليه لمجونه وشعوبيَّته ، وأبو تمام تحومل عليه حسدا لتفوقه ولحظوته عند الممدوحين ولنيله صلاتهم وجوائزهم. ذكر الصولي (المتوفى: 335هـ) -أخبار أبي تمام- (ص36): «عزَم أبو تمام على الانحدار إلى البصرة والأهواز لمدح مَن بهما، فبلغ ذلك ابن المُعذَّل، فكتب إليه:

أنتَ بين اثنتَين تغدو مع النا
سِ وكِلتاهما بوجهٍ مُذالِ
لستَ تنفكُّ طالبًا لِوصالٍ
من حبيبٍ أو طالبًا لِنوالِ
أيُّ ماءٍ لماءِ وجهِك يبقى
بعدَ ذلِّ الهوى وذلِّ السؤالِ
فلما قرأه الطائي قال: “قد شغَل هذا ما يليه، فلا أرَبَ لنا فيه، وأضربَ عن عزمه”.

الخصومة حول المتنبي

أما الخصومة حول المتنبي فأرى أنها تختلف عن سائر الخصومات في تاريخنا الأدبي، فهي لم تكن حول الشعر بقدر ما كانت حول الشاعر نفسه. قال صاحب- الوساطة- (ص١٣): “وما زلتُ أرى أهلَ الأدب … في أبي الطيب المتنبِّي — فئتَين: مِن مُطْنبٍ في تقريظِه، منقطعٍ إليه بجُملته، مُنحطٍّ في هواه بلسانه وقلبه، ويتلقَّى مَناقبه إذا ذُكِرَت بالتعظيم، ويُشبِع محاسنَه إذا حُكِيَت بالتفخيم، ويعجب ويُعيد ويُكرر، ويميل على مَن عابه بالزراية والتقصير، ويتناول مَن ينقصه بالاستحقار والتجهيل، فإذا عثر على بيتٍ مختلِّ النظام، أو نبَّه على لفظٍ ناقص عن التمام، التزَم من نُصرة خطئه وتحسين زَلَلِـه ما يُزيله عن موقف المعتذر، ويتجاوز به مقامَ المنتصر”. اه
قلت: ويمثل هذا الصنف ابن جني فما أن لقي المتنبي في حلب حتى أُعجب به ولازمه مدة طويلة؛ في الكوفة، ثم في بغداد، وعندما عاد المتنبي إلى الكوفة عاد معه. وصحبه في سفره إلى ابن العميد وعَضُد الدولة. وفي كل ذلك يقرأ عليه شِعرَه، ويسأله عن شرحه وغريبه ويكتبُ عنه، حتى جمع من ذلك شرحَين لديوانِه: أولهما “الفَسْر”، وثانيهما “كتاب معاني أبيات المتنبِّي”.
ومنذ ذلك الحينِ صارت شروحُ ابن جني المرجعَ الأساس لكل شرح وتفسير، وكان المتنبي إذا سُئل عن معنى بيتٍ قال: “اسألوا ابنَ جنِّي، ويقول :”ابن جني أعلم بشعري مني”.
ثم يضيف صاحب الوساطة: ” وعائبٍ يرومُ إزالتَه عن رُتبته فلم يُسلِّمْ له فضلَه، ويحاولُ أن يحطَّه عن منزلةٍ بوَّأه إيَّاها أدبُه، فهو يجتهد في إخفاء فضائله وإظهار مَعايبه، وتتبُّع سقطاته، وإذاعةِ غفلاته. وكِلا الفريقَين إما ظالمٌ له أو للأدب فيه”. اه
قلت: ويمثل هذا الصنف: ابن وكيع التنيسي (ت ٣٩٣ﻫ) صاحب كتاب “المنصِف للسارق والمسروق من المتنبي”. يقول صاحبُ اليتيمة في ترجمته: «شاعرٌ بارع، وعالمٌ جامع، قد برَع في إبَّانِه على أهلِ زمانه، فلم يتقدَّمْه أحدٌ في أوانه، وله كلُّ بديعةٍ تَسحَر الأوهام، وتستعيدُ الأفهام.”. ومن ثَم لا نستغرب أن يحسد المتنبيَ ويحمل عليه، مُحاولًا تنقصه بكل سبيل. قال ابنُ رشيق-العمدة-: (ج2 ص٢٢٥): «وأما ابنُ وكيع فقد قدَّم في صدر كتابه عن أبي الطيِّب مقدمةً لا يصحُّ لأحدٍ معها شعرٌ إلا الصدر الأول، إنْ سلَّم ذلك لهم! وسمَّاه كتاب المنصِف؛ مثل ما سُمِّيَ اللَّديغُ سليمًا، وما أبعدَ الإنصافَ منه!”.
وذكر صاحب الصبح المنبي قال: (ص158): “قال ابن القارح: كان محمدُ بن وكيع متأدبًا ظريفًا ويقول الشعر، وعمل كتابًا في سرقات المتنبِّي وحاف عليه كثيرًا”. وشاهدنا؛ وحاف عليه كثيرا.
وَيُمَثِّلُه أيضاً: ابن لَنْكَك، وقالوا فيه:” وكان حاسدًا له، طاعنًا عليه، هاجيًا إياه، زاعمًا أن أباه كان يَسقي الماءَ بالكوفة، فشَمِتَ به وقال:
قولوا لأهلِ زمانٍ لا خَلاق لهمْ
ضَلُّوا عن الرُّشد من جهلٍ بهِمْ وعَمُوا
أعطيتمُ المتنبِّي فوق مُنْيَتِهِ
فزوِّجوه برغْمٍ أمَّهاتِكُمُ
لكنَّ بغدادَ — جاد الغيثُ ساكِنَها — نِعالُهم في قَفا السَّقاءِ تَزدحمُ
ومن قوله:
ومثل هذا الهجاء يكشف عن عنف الخصومة وضَراوَتِها!
ويمثله أيضا: الحاتميُّ صاحب كتاب: “الموضحة في مَساوئ المتنبي”. وقد مر معنا عداوة الحاتمي لأبي الطيب بتحريض وإغراء من المهلبي.
ويمثله أيضا الصاحب بن عبَّاد، قال صاحب الصبح (ص82):” وأما الصاحب بن عبَّاد، فهم يُحدِّثوننا أنه طمع في زيارة المتنبي إيَّاه بأصفَهان، … فكتب يُلاطفه في استدعائه، ويضمن له مُشاطرةَ جميعِ ماله، فلم يُقِم له المتنبي وزنًا ولم يُجِبه عن كِتابه. وقيل إن المتنبيَ قال لأصحابه: إن غُلَيمًا مِعطاءً بالريِّ يريد أن أزورَه وأمدحَه ولا سبيلَ إلى ذلك. فصيَّره الصاحبُ غرَضًا يرشقه بسهام الوَقيعة، ويتتبَّع عليه سَقطاتِه في شِعره وهفَواته، ويَنْعَى عليه سيئاته..”. اه
فكتبَ رسالةً صغيرة في الكشف عن مساوئ شِعر المتنبي.
• قال المستشرق بلاشير:” «كثيرٌ من الأدباء والشعراء ودارسي الأدب ورجال البلاط لم يستطيعوا أن ينظروا في غيرِ حقدٍ إلى ما كان يتمتَّع به المتنبي من حَظْوةٍ عند سيف الدولة، ومن اعتزازٍ عند المعجَبين به، وكان في أخلاق أبي الطيب بنوع خاصٍّ ما لم يستطيعوا قَبولَه. وقد زاده كِبرًا ما لاقى من نجاح. ومنذ وصوله عند سيف الدولة، وحتى قبل أن يكون أتباعُه حلقةً أدبية، اجتمع خُصومه في عُصبة تكوَّنَت ممَّن كانت تصرفاتُ الشاعر تُثيرهم، وممَّن كانوا يخشَونه على ما لهم من امتيازات. وكان أبو فِراس ابنُ عمِّ سيف الدولة روحَ تلك العُصبة. وكُرهُ هذا الرجل للمتنبي يرجع إلى كراهيةٍ مفطورة؛ كراهيةِ الأرستقراطي الكبير لرجلٍ من الدَّهماء، كراهيةِ إنسانٍ حسَّاس لآخَر يتمنطقُ في بُرود. وحول أبي فِراس اجتمع أبو العشائر الذي لم يغتفر للمتنبي عدمَ اهتمامه به بعد أن أسدى إليه فضله، ومعهما رجالُ البلاط؛ مثل القاضي أبي حُصين، والأميرَين أبي محمدٍ وأبي أحمد بن ورقاء، وابن خالَوَيه النَّحْوي الذي لم ينسَ للمتنبي قطُّ احتقارَه لغير العرب، وانتصارَه عليه في المناقشات اللُّغوية. ولم تلبث أن اتَّحدَت كراهيةُ كلِّ هؤلاء الرجال ضد المتنبي…”.
قال الناقد محمد مندور “النقد المنهجي عند العرب” (ص256):” هذا مُلخصٌ للخصومة التي أثارها المتنبي حيثما سار، ولِمَا حرَّكَت تلك الخصومةُ من نقد، رأينا أن الأهواء قد لعبَت فيها دورًا كبيرًا، سواءٌ في حلب أو في بغداد، ومع ذلك فإن هذه الحركة القوية التي لا أظنُّ أنه قد قام مِثلَها حول شاعرٍ آخر من شعراءِ العرب، قد مدَّت من آفاق النقد، وبسَطَت من مواضعه، وأوضحَت الكثيرَ من مناهجه ومقاييسه، بحيث مهَّدَت السبيلَ إلى النقد المنهجي، الذي لا يقلُّ إنصافًًا ودقَّةً عن نقدنا نحن اليوم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. موضوع ماتع ومفيد. لوهلة رأيتني اقارن بين شعر المتنبي والصبغيات الوراثية. فقد قام الدكتور (أحمد) بكتابة تقرير (الدي إن أيه) عن شعر المتنبي وأظهر تفرده وأن الشعر ليس ملكة فكرية وجمالية فقط بل علم من العلوم. بارك الله في جهود الدكتور أحمد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى