مقالات

وقفات مع المتنبي  (26) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

 قال أبو الطيب المتنبي في “العُكْبَري”[2/339] من “الكامل”:

يَا ذَا الَّذِي يَهَبُ الجَزِيْلَ وَعِنْدَهُ

 أَنِّى عَلَيْهِ بِأَخْذِهِ أتَصَدَّقُ

يقول: يعطي العطاء الجزيل دون أن يتبع عطيته منا وأذى، بل يرى أن المنَّ للآخذِ.

وهذا عندي أمدح بيت قالته العرب، على الرغم مما شاع وذاع من قولهم ذلك في بيت زهير :

تَرَاهُ إِذا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً

كأنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أنْتَ سَائِلُهْ

حتى قال ابن طباطبا (ت 322هـ) : وَمن الأبْيَاتِ الَّتِي تَخلبُ مَعَانيها لطَافَة الكَلاَمِ فِيهَا قَوْلُ زُهَير.

وتَهلَّلَ السَّحَاب بالبرق: تلألأ. وتَهلّلَ وَجهه فَرحا: أشرق.

وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ: فَلَمَّا رَآهَا (سيدنا رسول الله) استبشَر وتَهَلَّلَ وجهُه. أَي اسْتَنَارَ وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ أَمارات السُّرُورِ.

وقال عبد الملك لقوم من الشعراء: أىّ بيت أمدح؟ فاتّفقوا على بيت زهير:

تراه إذا ما جئته متهلّلا

قال الثعالبي : وقد وقع الإجماع على أنه أمدح بيت للعرب.

وقيل لخلف الأحمر: زهير أشعر أم ابنه كعب؟ قال: لولا أبيات لزهير أكبرها الناس لقلت إنّ كعبًا أشعر منه، يريد بيته الفائت.

فهذه أقوال طائفة من العلماء والنقاد والأدباء، وحجتهم في ذلك أن زهيراً  جعل ممدوحه يُسَر بالبذل حتى كأنه أخذ، وهو أول من أتى بفرح المسؤول، وطلاقة وجهه.

وفي كتاب “المنصف للسارق والمسروق منه” (ص284) قال التنيسي:” نرى تحاملا ظاهرا عند مقارنته بين البيتين”، قال التنيسي بعدما ذكر بيت المتنبي:

يا ذَا الذي يهَبُ الكثير وعنده

 إني عليه بأَخْذِهِ أتَصدَّقُ

أخذه من زهير من أحسن لفظ) وهو:

تَراهُ إِذا ما جِئتهُ مُتهللاً

كأنّكَ تُعطيه الذي أنْتَ سَائله

فأتى بما لا زيادة عليه في الحسن، وأخذه أبو الطيّب أخذاً قبيحاً . ونظرة واحدة إلى البيتين نجد أن بيت المتنبي أبلغ مدحا، وأجمل وصفا، وأشرف معنى.

فقد جعل المتنبي الممدوح مطبوع على الكرم والجود والعطاء، إلى درجة أنه يرى الفضل والمنة للآخذ، وبسببه تحصل اللذة. أما زهير فقد نسب الفرح للآخذ ، وهذا ليس بشيء بجانب المعنى الذي ابتكره المتنبي، فأين الثرى من الثريا!

 ومن الجيد في ذلك قول أبي نواس:

(بشرهمُ قبلَ النوالِ اللاحقِ

كالبرقِ يبدو قبل جودٍ دافقِ)

(والغيثُ يخفي وقعهُ المرامق

 إن لم يجده بدليلِ البارق)

باب في الكرم

  • المدائنيّ قال: أضلّ فيروز بن حصين سوطه يوما، فأعطاه رجل سوطا فأمر له بألف درهم، ثم أتاه بعد حول فقال: من أنت؟ قال: صاحب السوط فأمر له بألف درهم، ثم أتاه بعد حول فقال: من أنت؟ قال: صاحب السوط، قال: أعطوه ألف درهم ومائة سوط فانقطع عنه.

من صور الإيثار

   في “المستجاد من فعلات الأجواد” (ص30):” قال الواقدي: كان لي صديقان أحدهما هاشمي ” والآخر نبطي ” وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضيقة شديدة وحضر العيد فقالت لي امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء قد قطعوا قلبي رحمة لهم، لأنهم يرون صبيان جيراننا وقد تزينوا في عيدهم وهم على الهيئة، فلو احتلت فيما نصرفه في كسوتهم، فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي مما حضر، فوجه إلي كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراره حتى كتب إلي الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوته صاحبي، فوجهت إليه بالكيس على حاله وخرجت إلى المسجد فأقمت ليلتي مستحيياً من امرأتي، فلما دخلت عليها استحسنت ذلك ولم تعنفني فيه، فبينا أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس على هيئته وقال: أصدقني عما فعلته فيما وجهت به إليك، فعرفته الخبر على جليته فقال: إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجه إلي بكيسي وخاتمي قال: فأخرجت للمرأة مائة درهم وتقاسمنا الباقي بيننا أثلاثاً. ونمي الخبر إلى المأمون فدعاني وسألني عنه فشرحته له، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار منها ألف للمرأة وألفان لكل واحد منا.

ومن صور الإيثار الرائعة في الإيثار ما حكى عن حذيفة العدوى أنه قال انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي في القتلى ومعي شيء من الماء وأنا أقول إن كان به رمق سقيته فإذا أنا به بين القتلى فقلت له أسقيك فأشار إلي أن نعم فإذا برجل يقول آه فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه وأسقيه فاذا هو هشام بن العاص فقلت أسقيك فأشار إلي أن نعم فسمع آخر يقول آه فأشار إلي أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.

حكاية أخرى

ومن عجائب ما ذكر في الايثار؛ قيل لقيس بن سعد هل رأيت قط أسخى منك؟ قال: نعم، نزلنا البادية على امرأة، فجاء زوجها، فقالت له: إنه نزل بنا ضيفان، فجاءنا بناقة فنحرها، وقال: شأنكم، فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها وقال شأنكم، فقلنا ما أكلنا من التى نحرت البارحة إلا القليل، فقال: إني لا أطعم ضيفاني البائت، فبقينا عنده أياما والسماء تمطر وهو يفعل كذلك، فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة اعتذري لنا إليه، ومضينا؛ فلما ارتفع النهار إذا برجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام؛ أعطيتمونا ثمن قرانا!

 ثم أنه لحقنا وقال خذوها وإلا طعنتكم برمحى هذا فأخذناها وانصرفنا.

  • قال الأصمعي: “قصدت في بعض الأيام رجلا كنت أغشاه لكرمه، فوجدت على بابه بوابا فمنعني من الدخول إليه، ثم قال والله يا أصمعي ما أوقفني على بابه لأمنع مثلك إلا لرقة حاله وقصور يده فكتبت رقعة فيها:

إذا كان الكريم له حجابٌ

فما فضل الكريم على اللئيم

ثم قلت له أوصل رقعتي إليه ففعل وعاد بالرقعة وقد وقع على ظهرها:

إذا كان الكريم قليل مالٍ

تحجّب بالحجاب عن الغريم

ومع الرقعة صرة فيها خمسمائة دينار فقلت والله لأتحفن المأمون بهذا الخبر، فلما رآني قال: من أين يا أصمعي؟ قلت: من عند رجل أكرم الأحياء حاشى أمير المؤمنين، قال: ومن هو ؟ فدفعت إليه الورقة والصرة،  وأعدت عليه الخبر، فلما رأى الصرة قال هذا من بيت مالي ولا بد لي من الرجل فقلت والله يا أمير المؤمنين إني أستحي أن أروعه برسلك فقال لبعض خاصته امض مع الأصمعي فإذا أراك الرجل قل له أجب أمير المؤمنين من غير ازعاج، قال: فلما حضر الرجل بين يدي المأمون قال له: أما أنت الذي وقعت بالأمس وشكوت رقة الحال وأن الزمان قد أناخ عليك بكلكله فدفعنا إليك هذه الصرة لتصلح بها حالك فقصدك الأصمعي ببيت واحد فدفعتها إليه؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، والله ما كذبت فيما شكوت لأمير المؤمنين من رقة الحال، لكن استحيت من الله تعالى أن أعيد قاصدي إلى كما أعادني أمير المؤمنين فقال له المأمون لله أنت فما ولدت العرب أكرم منك ثم بالغ في إكرامه وجعله من جملة ندمائه”.

أجود الناس

 وفي “الصحيح”، عن عبد الله بن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ).

وعن أنس أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى بلده وقال: أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخشى فاقة. وقد ذكرنا ما أعطاه صلّى الله عليه وسلّم من غنائم هوازن.

وأخباره صلّى الله عليه وسلّم فى ذلك كثيرة، وعطاياه فاشية، لو استقصيناها لطال بها التأليف، وكان لا يبيت فى بيته دينار ولا درهم.

قال مصطفى صادق الرافعي “وحي القلم” (ج3 ص43):” ولقد كان صلى الله عليه وسلم يملك المال ويجده، وكان أجود به من الريح المرسلة، ولكنه لا يدعه يتناسل عنده، ولا يتركه ينبت في عمله، وإنما كان عمله ترجمة لإحساسه الروحي، فهو رسول تعليمي، قلبه العظيم في القوانين الكثيرة من واجباته، وهو يريد إثبات وحدة الإنسانية، وأن هذا الإنسان مع المادة الصامتة العمياء مادة مفكرة مميزة، وإن الدين قوة روحية يلقى بها المؤمن أحوال الحياة فلا يثبت بإزائها شيء على شيئيته، إذ الروح خلود وبقاء، والمادة فناء وتحول، ومن ثم تخضع الحوادث للروح المؤمنة وتتغير معها، فإن لم تخضع لم تخضعها، وإن لم تتغير الروح بها؛ وأساس الإيمان أن ما ينتهي لا ينبغي أن يتصرف بما لا ينتهي.

ما قيمة العقيدة إلا بصدقها في الحياة، وأكثر ما يصنع هذا المال: إما الكذب الصراح في الحياة، وإما شبهة الكذب، ولهذا تنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن التعلق به، وزاده بعدا منه أنه نبي الإنسانية ومثلها الأعلى، فحياته الشريفة ليست كما نرى في الناس: إيجادًا لحل مسائل الفرد وتعقيدا لمسائل غيره، ولا توسعا من ناحية وتضييقا من الناحية الأخرى، ولا جمعا من هنا ومنعا من هناك؛ بل كانت حياته بعد الرسالة منصرفة إلى إقرار التوازن في الإنسانية، وتعليم الجميع على تفاوتهم واختلاف مراتبهم كيف يكون لهم عقل واحد من الكون؛ وبهذا العقل الكوني السليم ترى المؤمن إذا عرض له الشيء من الدنيا يفتنه أو يصرفه عن واجبه الإنساني أبت نفسه العظيمة إلا أن ترتفع بطبيعتها، فإذا هو في قانون السمو، وإذا المادة في قانون الثقل؛ فيرتفع وتتهاوى ويصبح الذهب -وإنه ذهب- وليس فيه عند المؤمن إلا روح التراب”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫7 تعليقات

  1. صباح الأيثار والكرم,
    للاسف ما عدنا نسمع ونرى هذا النوع من الأخلاق ومن ندرتها أختفت المعاني والدلالات ويا أسف نفسي على زمن نجتر له من الماضي.

  2. إلى صديقي العزيز، الأديب الفحل، وقلم البيان الساحر دكتورنا القدير أحمد الزبيدي

    تحية تليق بمقام فكرك الرفيع، وبعد…

    قرأت مقالك البديع في الموازنة بين بيت المتنبي وبيت زهير بن أبي سلمى، فإذا بي أمام روضة أدبية يانعة، أتنقل بين ظلالها وأتنسم عبيرها. حتى بدا لي أن الموازنة لم تكن بين البيتين فحسب، بل بين عبقريتين شعريتين، احتكمتا إلى عقل راجح وقلم سيّال لا يهاب الغوص في بحار المعاني العميقة.

    إن هذه المقارنة تشي بأننا أمام أديب متمكن، وناقد بصير، يحق له أن يقف في مصاف النقاد الكبار ممن سمح لهم الزمان أن يعقدوا المقارنات بين فحول الشعراء الأقدمين ، لا موازناً فقط، بل محللاً ومفسراً ومضيفاً إلى الأدب لمسات لا يملكها إلا من سما ذوقه و رُزق الحسّ النقدي الرفيع والبيان الجزل المتين.

    فشكرًا لك على هذا الإبداع، وشكرًا لقلمك الذي أنار لنا زاوية جديدة من زوايا الأدب.

    دمت مبدعًا متألقًا، وأدام الله قلمك مرشدًا لمحبي الأدب ومريديه

  3. إن كنت تبحث عن البلاغة العجيبة والتصوير الباذخ ، فبيت المتنبي .
    وإن كنت تميل إلى السبق و الصدق ، فبيت زهير أبلغ وأجمل .
    كل بيت يعكس روح قائله؛ فالمتنبي مجده في علوه واستعلائه، وزهير حكمته في واقعيته وسلاسة منطقه.

  4. رأيي في المقارنة: أن أي مقارنة للمتنبي مع أي شاعر.. لا تمكن أصلا.

    ولا تقل إني من متطرفي المتنبي ههه

  5. بيت زهير يتفوَّق في جمال التَّصوير وحلاوة اللَّفظ وإصابة المعنى.
    ١.فالصُّورة الشِّعريَّة في بيت زهير أظهر للقارىء. اقرأ البيت؛ سترى نفسك تمشي إلى الممدوح، تنظر إليه، ويتراءى لك وجهه يستقبلك متهلِّلاً. كأنّك داخل الصّورة لا خارجها.
    ٢.وازن كلام زهير بالقول: بأخذه أتصدَّق. ألفاظ زهير تتفوَّق حلاوة ورشاقة بلا شكّ.
    ٣.الصُّورة في بيت زهير صورة عطاء مطلق دون ذلَّة، بينما عند المتنبّي هي صورة تصدُّق؛ وبذا جعل الممدوح مسكيناً (أقلَّ شأناً) إذ يقبل الصَّدقة. (ولا أريد القول إنّه أساء إليه من حيث لا يدري).
    ٤.التَّشبيه عند زهير أبلغ وهو الأقرب إلى إصابة المعنى لأنَّ الرَّجل يفرح لو أعطيَ فضلاً لكنَّه لا يفرح بالصَّدقة.

    ومن نافلة القول أنّ الذّائقة الشّخصيّة تبقى هي الحكَم.

  6. دكتورنا الحبيب
    من الواضح انك من المعجبين جدا بالمتنبي ولا عجب في ذلك

    ولكن من غير الإنصاف برأيي
    ان تقارن بين بيت زهير الذي سارت به الركبان وبيت المتنبي الذي لم يروه الا القليل وشتان مابينهما في المعني والمبني واللطافة والعذوبة والسلاسة

    مواضيع كتاباتك جميلة وشيقة وبارك الله فيك 🙏🙏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى