فإن قيل : إن كلمة (ذلك) اسْمٌ مُبْهَمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْبَعِيدِ. والمشار إليه هنا في هذه الآية الكريمة هو الكتاب (القرآن الكريم)؛ وهو حاضر قريب ، فكيف يشير إلى القريب بما يُشارُ به إلى البعيد !؟
قال الإمام الطبري-رحمه الله- :”وقد يحتمل قوله جل ذكره {ذلك الكتاب} أن يكون معنيًّا به السُّوَرُ التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة.
ومع وضوح كلام الإمام أبي جعفر إلا أننا نزيده وضوحا فنقول : إنَّ اللَّهَ سبحانه وتَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ منجماً، فَنَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ سُوَرٌ كَثِيرَةٌ، فَقَوْلُهُ: (ذلِكَ) ربما يكون إِشَارَةٌ إِلَى تِلْكَ السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ من قَبْلُ ، ولا غرو في ذلك فبَعْضُ الْقُرْآنِ قُرْآنًا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الْأَعْرَافِ: 204]
وَقَالَ في آية أخرى حَاكِيًا عَنِ الْجِنِّ حينما سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر قولهم: {إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً}. [الْجِنِّ: 1].
وما سمع الجن إلا بعض القرآن !
وقد يشير بذلك إلى قوله تعالى : {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 5]. والقول الثقيل المبارك هو القرآن، فهو ثقيل في الدنيا وفي موازين يوم القيامة، وكل ما وعد الله به سبحانه متحقق لا محالة.
ولا نستبعد أيضاً أن يكون أشار إلى أصل مكان الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فقد قال: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا } [الزُّخْرُفِ: 4]، أي أن هذا الكتاب أصل الكتاب الذي منه نسخ هذا الكتاب.
فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى: {ذلِكَ الْكِتابُ} لِيُعْلِمَ أَنَّ هَذَا الْمُنَزَّلَ هُوَ ذَلِكَ الْكِتَابُ الْمُثْبَتُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وثم وجه ثالث ذكره الإمام الفخر الرازي -رحمه الله- ، قال : “ولَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَةَ «ذَلِكَ» لَا يُشَارُ بِهَا إِلَّا إِلَى الْبَعِيدِ، وبَيَانُهُ أَنَّ (ذَلِكَ) ، وَهَذَا حَرْفَا إِشَارَةٍ، وَأَصْلُهُمَا “ذَا” ، لِأَنَّهُ حَرْفٌ لِلْإِشَارَةِ، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الْبَقَرَةِ: 245]، وَمَعْنَى “هَا” تَنْبِيهٌ، فَإِذَا قَرُبَ الشَّيْءُ أُشِيرَ إِلَيْهِ بهَذَا، أَيْ تَنَبَّهْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ لِمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ حَاضِرٌ لَكَ بِحَيْثُ تَرَاهُ، وَقَدْ تَدْخُلُ الْكَافُ عَلَى “ذَا” لِلْمُخَاطَبَةِ وَاللَّامُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ فَقِيلَ: “ذَلِكَ” فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بَالِغٌ فِي التَّنْبِيهِ لِتَأَخُّرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنْهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ ذَلِكَ لَا تُفِيدُ الْبُعْدَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، بَلِ اخْتُصَّ فِي الْعُرْفِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعِيدِ لِلْقَرِينَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَصَارَتْ كَالدَّابَّةِ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ فِي الْعُرْفِ بِالْفَرَسِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ مُتَنَاوِلَةً لِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فنقول: إنا نحمله هاهنا عَلَى مُقْتَضَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، لَا عَلَى مُقْتَضَى الْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ، وَحِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ الْبُعْدَ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمُقَارَبَةِ يُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ، وله شواهد كثيرة في التنزيل العزيز، ومنها ؛قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ}، ثم قال: (هذا ذِكْرُ} [الأنبياء: 24] و: قوله: {وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ}. وقوله : {وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] وَقَالَ: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى} [النَّازِعَاتِ: 25، 26].
وَقَالَ: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 105].
وقال في سورة السجدة : {الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } [1- 3] .
قال صاحب “الأنموذج”: فإن قيل: كيف قال: {لَا رَيْبَ فِيهِ} على سبيل الاستغراق وكم ضالّ قد ارتاب فيه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} ؟
قلنا: معناه لا ريب فيه عند الله ورسوله والمؤمنين، أو هو نفى معناه نهى؛ أي: لا ترتابوا فيه، إنه من عند الله، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} .