مقالات

دراسات قرآنية (6) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

فلسفة الحكمة في القرآن الكريم

د. أحمد الزبيدي

 لم يُخل الله سبحانه وتعالى أمة من الأمم من الحكمة أو من آثارها، فحكماء اليونان؛ القدماء: الذين هم أساطين الحكمة، ومتأخرون: وهم المشاؤون، وأصحاب الرواق، وأصحاب أرسطوطاليس، ومنهم حكماء الهند من البراهمة..الخ

أما العرب في الجاهلية فقد اشتهر عدد منهم مثل؛ قس بن ساعدة، وهو الذي آمن في البعث وعلمه العرب، فهو أول من آمن به منهم. وأول من قال “أما بعد”، وأول من قال: “البينة على من ادعى واليمين على من أنكر”، فكل ما عرفه العرب من مثل هذه الأمور هو إمامهم فيه، وكان أحد حكماء العرب وخطيبهم ، كما ذكروا أن له فضيلة ليست لأحد من العرب؛ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- روى كلامه وموقفه على جمله الأورق بعكاظ، وموعظته، وعجب من حسن كلامه، وقال فيه: “يحشر أمة وحدة”، ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل، كان يمقت عبادة الأوثان، قد رحل إلى الشام باحثاً عن الدين الصحيح، ثم عاد إلى مكة ليعبد الله على دين إبراهيم عليه السلام، وكان عدوا ومعارضا لوأد البنات، وهو والد سعيد بن زيد الصحابي الجليل رضي الله عنه، وكان زيد بن عمرو بن نفيل يقول: اللهم! إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك، ولكني لا أعلم.

قال أحد حكماء العرب يخاطب زوجته حين بنى عليها:

خذي العفو منى تستديمى مودتي

ولا تنطقى في سورتي حين أغضب

فإني رأيت الحب في الصدر والأذى

إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب

ولا تضربينى مرة بعد مرة

 فإنك لا تدرين كيف المغيَّب

يضح لنا مما سبق أن هؤلاء الحكماء صاروا حكماء بعلمهم الحق وعملهم به.

تعريف الحكمة:

الحكمة-كما عرّفها الرازي- هي اسم جامع لكل علم حسن، وعمل صالح، ومنها يقال أحكم العمل إحكاما إذا أتقنه، واحكم بكذا حكمًا، والحكمة من الله تعالى خلق ما فيه منفعة العباد ومصلحتهم في الحال وفي المآل ومن العباد أيضا كذلك، ثم قد حدت الحكمة بألفاظ مختلفة؛ فقيل: هي معرفة الأشياء بحقائقها، وقيل: هي الإتيان بالفعل الذي عاقبته محمودة، وقيل: هي الاقتداء بالخالق سبحانه وتعالى في السياسة بقدر الطاقة البشرية، وذلك بأن يجتهد بأن ينزه علمه عن الجهل، وفعله عن الجور، وجوده عن البخل، وحلمه عن السفه.

على هذا فإن الحكمة لا تخرج عن هذين المعنيين؛ وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين: أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، فالمرجع بالأول: إلى العلم والإدراك المطابق.

 وبالثاني: إلى فعل العدل والصواب، فحكي عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قوله: {رب هب لي حكما}، وهو الحكمة النظرية، {وألحقني بالصالحين}، الحكمة العملية، ونادى موسى عليه السلام فقال: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا) وهو الحكمة النظرية، ثم قال: {فاعبدني وهو الحكمة العملية)، وقال عن عيسى عليه السلام أنه قال: {إني عبد الله}، الآية، وكل ذلك للحكمة النظرية، ثم قال: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا}. [مريم: 31] وهو الحكمة العملية، وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {فاعلم أنه لا إله إلا الله [محمد: 19] وهو الحكمة النظرية، ثم قال: {واستغفر لذنبك}. [غافر: 55] [محمد: 19] وهو الحكمة العملية، وقال في جميع الأنبياء: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا}. [النحل: 2] وهو الحكمة النظرية: ثم قال: (فاتقون)، وهو الحكمة العملية.  ونظرا لمكانة الحكمة واحترامها فقد سمى الباري سبحانه وتعالى كتابه بها. قال تعالى: {الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} لوُجُوهٌ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَكِيمَ هُوَ ذُو الْحِكْمَةِ بِمَعْنَى اشْتِمَالِ الْكِتَابِ

عَلَى الْحِكْمَةِ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَ الْكَلَامِ بِصِفَةِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ.

قَالَ الْأَعْشَى:

وَغَرِيبَةٌ تَأْتِي الْمُلُوكَ حَكِيمَةٌ

قَدْ قُلْتُهَا لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا

والإدراك المطابق، وبالثاني: إلى فعل العدل والصواب، فحكي عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قوله: {رب هب لي حكما}، وهو الحكمة النظرية،{وألحقني بالصالحين}، الحكمة العملية، ونادى موسى عليه السلام فقال: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا} وهو الحكمة النظرية، ثم قال: {فاعبدني وهو الحكمة العملية}، وقال عن عيسى عليه السلام أنه قال: {إني عبد الله)، الآية، وكل ذلك للحكمة النظرية، ثم قال: وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [مريم: 31] وهو الحكمة العملية، وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}. [محمد: 19] وهو الحكمة النظرية، ثم قال: {واستغفر لذنبك}. [غافر: 55] [محمد: 19] وهو الحكمة العملية، وقال في جميع الأنبياء: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا}. [النحل: 2] وهو الحكمة النظرية: ثم قال: {فاتقون}، وهو الحكمة العملية.  وقد ورد لفظ الحكمة في القرآن الكريم عشرين مرة بمعان مختلفة، أرجعها الإمام مقاتل -كما ذكر الرازي – إلى أربعة أوجه:

أحدها: مواعظ القرآن، قال -تعالى- في سورة البقرة، {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ}.

وثانيهما: الفهم والعلم، ومنه قوله – تعالى -: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}.

ثالثها: معنى النبوة، قال تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ}.

ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار، ففي النحل  {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}.

وقد زاد عليه الإمام الفيروزآبادي وجهين آخرين، قال : وردت -الحكمة- في القرآن على ستة أوجه:

الأول: بمعنى النبوة والرسالة، {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} ،{وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ}.

الثاني: بمعنى القرآن والتفسير والتأويل، وإصابة القول فيه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} .

الثالث: بمعنى فهم الدقائق والفقه في الدين {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} .

الرابع: بمعنى: الوعظ والتذكير {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (النساء: من الآية ٥٤) . أي: المواعظ الحسنة، {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}.

الخامس: آيات القرآن وأوامره ونواهيه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} .

السادس: بمعنى حجة العقل على وفق أحكام الشريعة، {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أي: قولًا يوافق العقل والشرع ، وقد قال أهل التحقيق: إن جميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم، ثم إن الله تعالى ما أعطى من العلم إلا القليل قال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}. [الإسراء: 85] وسمى الدنيا بأسرها قليلا : {قل متاع الدنيا قليل). [النساء: 77] فما سماه قليلا لا يمكننا أن ندرك كميته فما ظنك بما سماه كثيرا.

مصادر الحكمة

 على هذا فقد تتعدد مصادر الحكمة ومواردها، وأهمها: الكتاب، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقال: {تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم هو الحق ليس بالهزل، من طلب الهدى من غيره ضل ” وهذا لا يكون إلا عند الله الذي أحاط بكل شيء علماً.

والسنة: تفسر الكتاب وتبينه، وقد تزيد أحكاما عليه. وقد فسر الإمام الشافعي الحكمة في قوله تعالى : {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34].قال الإمام الشافعي في الأم(ج:7 ص288):” فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُتْلَى فِي بُيُوتِهِنَّ شَيْئَانِ قَبْلُ فَهَذَا الْقُرْآنُ يُتْلَى فَكَيْفَ تُتْلَى الْحِكْمَةُ ؟ .

قُلْت إنَّمَا مَعْنَى التِّلَاوَةِ أَنْ يَنْطِقَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَمَا يَنْطِقُ بِهَا قَالَ: فَهَذِهِ أَبْيَنُ فِي أَنَّ الْحِكْمَةَ غَيْرُ الْقُرْآنِ مِنْ الْأُولَى وَقُلْت: افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: وَأَيْنَ؟ .

قُلْت: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وَقَالَ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَوْلَى بِنَا أَنْ نَقُولَهُ فِي الْحِكْمَةِ مِنْ أَنَّهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ.

وقد احتج أصحاب الشافعي على صحة قوله، قالوا: ” وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تِلَاوَةَ الْكِتَابِ أَوَّلًا وَتَعْلِيمَهُ ثَانِيًا ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحِكْمَةِ شَيْئًا خَارِجًا عَنِ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا سُنَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى تَعْلِيمِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْعُقُولَ مُسْتَقْبِلَةٌ بِذَلِكَ فَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى مَا لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الشَّرْعِ أَوْلَى.

 ثانيا: الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل، وهو مصدر بمعنى الحكم، كالعقدة والجلسة. والمعنى: يعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل أقضيتك وأحكامك التي تعلمه إياها، ومثال هذا: الخبر والخبرة، والعذر والعذرة، والغل والغلة، والذل والذلة.

ثالثا: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ أَرَادَ بِهِ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةَ. وَالْحِكْمَةَ أَرَادَ بِهَا الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ”.

قال العلامة ابن رجب رحمه الله لطائف المعارف ” (ص/84) : “من قال الحكمة: السنة، فقوله الحق؛ لأن السنة تفسر القرآن وتبين معانيه ، وتحض على اتباعه”.

وقد يسأل سائل فيقول: لماذا استعمل الذكر الحكيم اسم ” الحكمة “، ولم يقل “السنة”؟

والجواب على هذا أنها أسماء مترادفة لشيء واحد ، فالسنة هي الحكمة، والطريقة، والبيان ، والهَدْي .. إلى آخر الأسماء والمسميات التي أطلقت عليها، فلا ضير في اختيار أحدها وإطلاقه عليها.

وفائدة هذا الإطلاق ( الحكمة ) -والله أعلم- هو مدح للسنة وحث على التمسك والعمل بها، فطوبى لمن علم وعمل والتزم بالعلم والعمل.

ومن مصادر الحكمة أيضا التجربة البشرية: وهي جزء لا يتجزأ من مشوار الحياة، ورافد مهم من روافد الحكمة الإنسانية فهي على هذا تشكل وسيلة أساسية لتطوير الفهم واكتساب الخبرة ومعرفة الذات.  ومثاله قول القائل :”من بلغ السبعين اشتكى من غير علّة”. وقد صدق القرآن الكريم مثل هذا بقوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}.  مَرَاتِبِ عُمُرِ الْإِنْسَانِ، وَالْعُقَلَاءُ ضَبَطُوهَا فِي أَرْبَعِ مَرَاتِبَ: أَوَّلُهَا: سِنُّ النَّشْوِء وَالنَّمَاءِ.

وَثَانِيهَا: سِنُّ الشَّبَابِ.

وَثَالِثُهَا: سِنُّ الِانْحِطَاطِ الْقَلِيلِ وَهُوَ سِنُّ الْكُهُولَةِ. وَرَابِعُهَا: سِنُّ الِانْحِطَاطِ الْكَبِيرِ وَهُوَ سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ، وهذا وأمثاله قد علمه الناس بالتجربة، وهو علم ليس مقصورا على أحد من الناس، وإنما هي التجربة والمشاهدة والحس، وهي مما يشترك فيها الناس جميعاً، فهي موجودة في اليونان، والرومان، والفرس، والهند، وسائر الأمم الأخرى، وقد دونوا شيئًا منها في كتبهم، وقد ترجم العرب المسلمون كثيرًا من ذلك، مثل: “كليلة ودمنة”، و”الأدب الكبير “، و”الأدب الصغير”، وقد تأتي الحكمة في قالب من كلام النبوة، قال النبي صلى الله عليه وسلم :”إِنَّ ‌مِمَّا ‌أَدْرَكَ ‌النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ “، وقول لُقْمَانُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ ‌الْحِكْمَةَ أَجْلَسَتِ الْمَسَاكِينَ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ”.

 وقال ابن عباس :” لا تحقرنّ كلمة ‌الحكمة أن تسمعها من الفاجر؛ فإنما مثله كما قال الأوّل: ربّ رمية من غير رامٍ”.

  يؤخذ مما تقدم أن الحكمة كل ما زجرك عَن قَبِيح، ودعاك إِلَى مليح، ومنه حديث البخاري:” إن من الشعر حكمة”. ويصدق هذا على كثير من شعر المتنبي، وزهير وعنترة، والمعري وغيرهم.

وقديما نصَّب العربُ عليهم حكماء امتازوا بمكارم الأخلاق وبعدهم عن سفسافها.

قال المؤرخ جواد علي “المفصل”( 15 /339)” أما معناها-الحكمة- عند الجاهليين، فكان بمعنى الخبرة المكتسبة من الملاحظات العميقة إلى الأشياء، أو المستخلصة من التجارب، وبمعنى العلم والرأي الصائب. وبهذا المعنى جاءت الحكمة عند الساميين. فقد كان الحكيم عندهم العالم ‌الذكي الفطن الذي ينظر بعين البصيرة إلى أعماق الأمور بتؤدة وتبصر وأناة، فيبدي رأيه في كل شيء في هذه الحياة، من سياسة واقتصاد، ومن أمور تخص السلم أو الحرب، أو الخدع، والحكم بين الناس. ولهذا كان الحكماء في أعلى الدرجات في مجتمعهم من ناحية الثقافة والرأي”. واشتهر في العرب حكماء عدة؛ مثل أكثم بن صيفي، وقُسّ بن ساعدة الإيادي، وعمرو بن مَعد يكَرِب وغيرهم، فكانت أقوالهم تمثل دستور الأخلاق في مجتمعاتهم وعصرهم. وقد جاء في سيرة ابن هشام أن لقمان الحكيم كانت له حكم معروفة عند الجاهليين جُمعتْ في صحيفة تدعى “مجلة لقمان”؛ ففي أخبار سُوَيد بن الصامت أنه “قدم مكة حاجًّا أو معتمرًا، فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام، فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي؛ فقال له رسول الله: “وما الذي معك”؟ قال: مجلة لقمان- يعني حكمة لقمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اعرضها علي”، فعرضها عليه. فقال: “إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل منه- قرآن أنزله الله علي، وهو هدى ونور”. فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعُد، وقال إن هذا القول حسَن، ثم انصرف.

 وكل ما ورد في أشعار الجاهليين وخطبهم ورسائلهم من الحكم يحمل على ما ذكرنا من معنى أو معاني، الحكمة والتمدح بها والثناء عليها ومن هذا الباب حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الْكَلِمَةُ ‌الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا”.

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “دَعَا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْتِيَنِي اللَّهُ ‌الحِكْمَةَ مَرَّتَيْنِ”.

وقد استشكل بعضُ الناس على الآية الكريمة : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}. [النِّسَاءِ: 54]، وَقَالَ: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ، فَلِمَ قَدَّمَ الْمُلْكَ عليها ؟ مَعَ أَنَّ الْمُلْكَ أَدْوَم حَالًا مِنَ النُّبُوَّةِ.

وقد أجاب الإمام الرازي بقوله : “قُلْنَا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ تَرَقِّي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُتَكَلِّمُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّرَقِّي، فَكُلُّ مَا كَانَ أَكْثَرَ تَأَخُّرًا فِي الذِّكْرِ كَانَ أَعْلَى حَالًا وَأَعْظَمَ رُتْبَةً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقالكم حول فلسفة الحكمة في القرآن الكريم فتح أمامنا آفاقًا جديدة لفهم أعمق لهذا الموضوع العظيم. من الواضح أن وراء كل كلمة في هذا المقال عمقًا فكريًا ونظرة محورية تلهم القارئ للتأمل والتدبر.
    عملٌ يستحق التقدير بلا شك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى