مقالات

بين العامية والفصحى (20)   د. أحمد الزبيدي         –         الإمارات 

التأويل الحداثي للتراث.. شحرور ومنهجه الخاطيء " 3 "

د. أحمد الزبيدي

سلك الناس قبلنا في الرد على انحرافات وضلالات محمد شحرور مسالك شتى؛ منهم من رأى في منهجه وكلامه ضلالا وانحرافا عقديا، وحجته في ذلك تحريف النصوص، ورد المحكم، واتباع المتشابه، وتكذيب المعلوم من الدين بالضرورة، فانتهى من ذلك كله إلى تبديعه، وتضليله، وتكفيره، ومنهم من سلك معه مسلك النظر إلى المنهج والأصول، وهذا  -برأيي -أفضل الحلول ، والسبب في ذلك أننا لو تتبعنا أخطاء شحرور التي أُشبعتْ ضلالا وانحرافا فإننا سنحتاج في الرد عليه إلى تأليف عدد كبير من الكتب ، والأمر عندي وعند من يعرفونه حق المعرفة أسهل وأهون من ذلك بكثير، لذلك اخترت أن أسلك السبيل الثاني فإنه أخصر وأوعب؛ في تفنيد وتقويض منهجه الذي بَني عليه أهواءه وأباطيله التي لا تَعتمد على هدى ولا كتاب منير، وفوق ذلك هو مسبوق إلى ذلك من كلام المستشرقين وأشياعهم من المضبوعين بثقافتهم ممن ذكرنا بعضهم في المقال رقم السابق.

أولا وقبل كل شيء وقبل الحديث عن منهج شحرور الذي بنى عليه أفكاره وأحكامه نريد أن نلم ببعض أقواله التي تنم عن دينه ومنهجه،  تلك الأقوال التي تتكر في كتبه، فهو يدندن فيها وحولها، نفعل ذلك كي نتبين غايته ومقصده ومراده كله أو جله من بدعته التي خرج فيها على الناس، فأول ما سعى إليه شحرور وغاية ما سعى إليه هو العمل على تحرير النص من كل القيود، وتركه مرسلًا بلا عقال من القواعد والقوانين التي تضبطه وتحاكمه. وحينئذٍ فلا مرجعية ولا محكمة بل لا محاكمة أصلا لتفسيره، فقواعده وقوانينه في فهم النص “ذاتية” لا تسمح لأي كان أن يعكر صفوه  أو يشغب عليه، ولو مارس-شحرور- شيئًا من التفكر، وتأمل شيئًا من التأمل لوجد في هذه القاعدة بذرة فنائها، ووجد فيها معول هدم لما يقوله هو ويدعو إليه، فإذا كان من حقه أن يفسر النصوص كما يشاء، فالحق أيضا نفسه أو أكثر منه متاحٌ ومكفول لكل أحد يريد أن يقرأ النص ويفسره، مما يجعل مذهبه خال من أي مزية أو تفرد، وهذا وحده كافٍ للرد عليه وتدمير مذهبه! فأي معنى وقيمة لقول قاله جميع الناس!.

لذلك تراه يسعى جاهدًا لإلغاء طريقة فهم الصدر الأول للنص، بما فيه فهم من أنزل عليه النص وأمر بتبيينه للناس!

قال شحرور في -الكتاب والقرآن- (ص566) : “المغالطة الكبرى هي أننا نريد أن نفهم الإسلام فنرجع من القرن العشرين إلى القرن السابع في طريقة تفكيرنا”.

ومعلوم أن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أمر بتبليغه، وتبيينه وتوضيحه للناس بطريقة فهم خاصة؛ أساسها الوحي، وفهم اللغة، ومعرفة أسباب النزول، وإذا كان ذلك كذلك فأنى لشحرور أن يفهم ذلك النص المؤسس على الوحي واللغة بدونهما؟ فهو أشبه بمن يعيش في صحراء قاحلة لم يسمع عن يوما عن الطائرة، ولم يراها في حياته، ولما رآها ادعى أنه قادر على قيادتها دون الرجوع إلى نظم التشغيل فيها، وفهم المصطلحات وآليات الطيران، وفهم حركة الطيران، والطقس والمناخ، الى ما هنالك مما يتوجب تعلمه، ثم يأتي بصلف وتبجح ويقول بكل ثقة: “أنا أستطيع أن أحلق بها دونما حاجة إلى علومكم ونظرياتكم، لأن أفكاركم فيها مغالطات وتخلف” !!، فهذا الرجل هو شحرور، ادعى أنه قادر على فهم نصوص القرآن دون فهم لغة القرآن، ودون فهم لأساليب العرب، ودون علم بقواعد اللغة والأصول، ودون معرفة أسباب النزول !

ويرجع شحرور ويؤكد على قوله في كتابه-الدين والسلطة-(ص24) فيقول :”إمكانية الاجتهاد ضمن الأطر التي رسخت منذ القرنين الثاني والثالث الهجريين قد استنفدت، ولم يعد الاجتهاد ضمنها ممكنا، إلا إذا تجاوزها، والعودة إلى قراءة التنزيل على أساس معارف اليوم، واعتماد أصول جديدة للتشريع الإسلامي”، ثم لا يرى ذلك إلا بترك أقوال السلف يقول-أم الكتاب-(ص20) :”اتباع أقوال السلف خطأ فادح”، فهل يحتاج القارىء الفطن بعد هذا إلى معرفة نية  شحرور وعمله في هدم التراث وجعله قاعًا صفصفًا لا يرى فيه عوجًا ولا أمتًا…،؟!

لم يدعنا نشحرور نتكهن في نيته ومراده، فجاء ليحسم الخلاف بقوله:” وضعنا كل التراث جانبًا وباشرنا العمل من الصفر”. ولم نعرف ماذا يريده بقوله :”الصفر”!

وكان أحرى بشحرور لو كان يملك جرأة وشجاعة وشيئًا من الصراحة أن يقول ذلك من أول يوم دون مراوغة ومواربة، إذن لاحترمناه -أقلها- على صراحته!

أول ما حاول محمد شحرور هدمه من التراث هو علم (أصول الفقه) وهو العلم الذي يوزن به الاجتهاد، ويبين صدقه من كذبه، وجده من عبثه، وقد سبقه إلى هذا أمثال حسن الترابي من الذين طالبوا بتجديده، غير أن شحرور زاد في الطنبور نغما، ونادى بشطبه وحذفه من أساسه ليخلو له ولأمثاله الميدان دون حسيب أو رقيب!

يا لك من قنبَرَةٍ بمَعْمَرِ

خَلاَ لَكِ الجوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي

وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أن تُنَقِّرِي

قَدْ رَحَلَ الصيادُ عنك فابْشِرِي

وَرُفِعَ الفَخُّ فمَاذَا تَحْذَرِي

لا بُدَّ من صيدك يوماُ فاصْبِرِي

ولأن علم “أصول الفقه” لا يذكر إلا ويذكر معه الإمام الشافعي؛ أول من صنف في “أصول الفقه، صنف فيه كتاب الرسالة. قال الإمام الرازي في مناقب الشافعي (ص 57) : ” كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معرضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع”.

هكذا ثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسطا طاليس إلى علم العقل، ومع ما للشافعي من فضل على التراث والعاملين به إلى يومنا هذا، حتى إن إمامًا كبيرًا مثل الإمام أحمد يقول فيه:” ” لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث “. و يقول : “كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف، أو منهما عوض”؟!

مع كل هذا يأتي شحرور ويقول في كتابه السنة الرسولية (ص21):”هل استطعنا نحن أن نتجاوز الشافعي في أصول الفقه ونضع أصولًا جديدة؟”.

والجواب: بلى، فقد تجاوز شحرور الشافعي وكل علماء الأصول، ولكن دون أن يضع أصولًا جديدة .

ها هو -شحرور- يترك كلام السلف، ويتجاوز أصول الفقه، ويتجاوز مُؤسّسهُ، حتى إذا تم له الأمر بدأ من الصفر، وهو يلمح هنا إلى ما عرف في الغرب بنظرية “نسبية المعرفة أو الحقيقة”، أي أن كل قاريء له الحق أن يفهم كما يريد، دون قيد أو تحديد، فالمسألة نسبية تختلف من قاريء إلى آخر، ولك أن تتخيل أخي القاريء أننا لو وضعنا آية كريمة أمام الف رجل، وطلبنا منهم تفسيرها فإن كل واحد منهم له الحق في فهمها وتفسيرها حتى لو كان هذا الفهم لا يقره عليه الفهم ولا العقل ولا المنطق، فإن ذلك جائز في عرف شحرور، ولم لا وحق الفهم مكفول للجميع، ومن المعلوم بداهة أن الإنسان لو أراد أن يدرس أي علم فلا مندوحة لفهمه دون الرجوع إلى لغة ذلك العلم ومصطلحاته من مصادره الخاصة، فكل علم له لغة خاصة، ومصطلحات خاصة. فالإمام الغزالي -رحمه الله- عندما رغب في نقد الفلسفة اليونانية عكف على قراءتها عامين كاملين، ولخص ما فهمه في كتاب سماه “مقاصد الفلاسفة” ثم عرض الكتاب على المختصين حتى إذا أجمعوا على أن كاتبه فيلسوفا، بدأ في تأليف كتابه :”تهافت الفلاسفة”.

انظر معي إلى الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب)، والفيلسوف الأمريكي ديورانت في كتابه (قصة الحضارة)، وهونكة الفيلسوفة الألمانية في كتابها (شمس الله تسطع على الغرب)، وغيرهم الكثير الكثير، الذين قرؤوا التراث الإسلامي أعواما طويلة، فخرجوا من دراستهم بنتيجة واضحة لا تقبل الشك، وهي فضلُ العرب في تمدين أوربة وإخراجها من الظلمات إلى النور، فكان أحرى بشحرور وهو محسوب علينا أن يكون قد قرأ شيئا من العلوم التي يهاجمها ويريد إلغاءها، وهو إذ يقول كل ذلك يقوله وهو مقتنع أشد الاقتناع، كيف لا وهو يقول في الكتاب والقرآن (ص106) :” خير من أوّل آيات خلق البشر عندي هو العالم الكبير تشارلز داروين، فهل عرف داروين القرآن؟”

ويشير شحرور إلى خرافة داروين في أصل الأنواع فيوردها وهو مؤمن بها أشد الإيمان، ففي كتابه القصص القرآني (ج1 ص255) يقول :” مرّ البشر بصور مختلفة خلال سيرورة تطوره من شبيه بالقرد يمشي على أربع إلى صورة الإنسان الحالي”.

وكلام شحرور عن نظرية داروين والترويج لمصداقيتها في الأعوام المتأخرة، شيء يسري الهم عن النفس، ويستخرج الضحك من قلب المهموم والمحزون ،لا سيما حين تسمعه يقول ذلك بملء الفم، يقوله وهو يتقمص قميص العلم والبحث ، وبركب مركبا فخما من التيه والتعالم والتعالي، وذلكما  يؤكد مفهومي عن شحرور بأنه لا يقرأ، ولو قرأ لا يفكر، ولو فكر لا يستطيع أن يبين، لأسباب خَلقية وخُلقية، فمن جهة الخلق يشكو العِيّ والحصر، ومن جه الخُلق أكاد أجزم أنه لم يقرأ كتابا كاملا في حياته، وإذا كان ذلك كذلك فأنى له التعبير والإعراب؟!

المسكين لو قرأ قليلًا أو كلف نفسه بالسؤال لعلم  أن نظرية ” داروين ” أسدل عليها الستار، وفقدت مصداقيتها بعد كشف ظهور قانون ” مندل ” الوراثي ، واكتشاف وحدات الوراثة – الجينات – باعتباره الشفرة السرية للخلق ، واعتبار أن ” الكروموسومات ” تحمل صفات الإنسان الكاملة ، وتحفظ الشبه الكامل للنوع . ولذا رأى العلماء أن التشابه الموجود  بين الكائنات الحية ينقض النظرية من الأساس ؛ لأنه يشهد بوحدانية الخالق لا وحدة الأصل ، وقد قرر القرآن الكريم ذلك حينما قال : ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء ) النور/ 45 ، يعني أن مادة الخلق الأولى للمخلوقات هي الماء ،  وقد أثبت العلم القائم على التجربة : بطلان النظرية بأدلة قاطعة ، وأنها ليست نظرية علمية على الإطلاق .

إن كافة الأديان السماوية وعلى رأسها الإسلام تؤمن بالله ، الخالق ، البارىء، المدبِّر ، المصور ، الذي خلق الإنسان من سلالة من طين ، ثم خلقه من نطفة في قرار مكين ، والإنسان منذ خلقه الله باق على شكله ، وصفاته حتى قيام الساعة، وقد كُتبت مئات الأوراق العلمية والكتب الرصينة في نقد النظرية،؛ مثل الكتاب المشهور  “صندوق داروين الأسود” لمايكل بيهي، وكتاب “التطور نظرية علمية أم أيدولوجيا” ليلماز عرفان، وكتاب “التطور لا تزال نظرية في أزمة” لمايكل دانتون. ونظرة واحدة إلى موقع مؤسسة “ديسكفري” (Discovery) يريك أكثر من 100 ورقة علمية محكمة منشورة، كلها تتفق على ضعف النظرية الداروينية وعجزها عن تفسر الوظائف الحيوية للكائنات الحية، والتيقن من وجود “سبب ذكي” لظهور هذه الكائنات.

هلّا قرأ شحرور شيئًا من هذا قبل أن يقول كلمته الخبيثة تلك! ويلوح لي- والله أعلم- أن شحرور يريد أن يشكك في وجود الله عز وجل، ومما يرجح عندي هذا الظن قوله في كتابه دليل القراءة المعاصرة(ص60):”يجب على المسلم أن يكون عنده ذرة شك في وجود الله”.

وفي الكلام تقدير محذوف وهو كلمة “أقل تقدير” فيكون الكلام: ” يجب على المسلم-على أقل تقدير- أن يكون عنده ذرة شك في وجود الله”، فإذا كان الواجب على المسلم أن يكون عنده ذرة شك في وجود الله ، فمن المندوب أن يكون عنده ذرتا شك أو ثلاث أو أربع أو أكثر من ذلك ، وكلما كثر الشك في وجود الله كان ذلك أرضى وأسعد لشحرور، وبمعنى آخر كلما كان المسلم أقرب أكثر من الكفر والإلحاد فإنه على الجادة وأقرب من السداد! ألم يقل قبل قليل: أن خير من أوّل آيات خلق البشر عندي هو العالم الكبير تشارلز داروين، فهل عرف داروين القرآن؟.

الطامة الكبرى في شحرور أنه لم يقرأ الإسلام، ولم يدرس الفلسفة وعلم الكلام، فهو يخبط فيهما خبط عشواء، في ليل دامس وظلام.

ورحم الله القائل:

أوردها سعد وسعد مشتمل

يا سعد لا تروى على ذاك الإبل

وأقول لم لا  وإِن أَهْون السَّقْي التشريع؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى