د. أحمد الزبيدي
الشَّفَاعَةُ: هي السَّعْيُ وَالْوَسَاطَةُ فِي حُصُولِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ؛ سَوَاءٌ كَانَتِ الْوَسَاطَةُ بِطَلَبٍ مِنَ الْمُنْتَفِعِ بِهَا أَمْ كَانَتْ بِمُجَرَّدِ سَعْيِ الْمُتَوَسِّطِ، وَيُقَالُ لِطَالِبِ الشَّفَاعَةِ: مُسْتَشْفِعٌ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشَّفْعِ لِأَنَّ الطَّالِبَ(المستشفع) يَأْتِي وَحْدَهُ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ قَبُولًا ذَهَبَ فَأَتَى بِمَنْ يَتَوَسَّلُ بِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ الثَّانِي شَافِعًا لِلْأَوَّلِ.
قال ابن الأثير في “النهاية في غريب الحديث والأثر” (ج2 ص485): “قد تكرر ذكر الشّفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة، وهي: السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم بينهم، يقال: شفع يشفع شفاعةً فهو شافع وشفيع، والمشفّع: الّذي يقبل الشّفاعة، والمشفّع: الّذي تقبل شفاعته. “
وقال حاتم يخاطب النعمان: “فككت عديًّا كلّها من إسارها … فأفضلْ وشفّعني بقيس بن جحْدر”، وفي حديث الحدود الموقوف على الزبير بن العوام رضى الله عنه.: (إذا بلغ الحدّ السلطان فلعن الله الشافع والمشفّع)، وفي حديث ابن مسعود: (القرآن شافع مشفّع)، فالشفاعة ثابتة بالكتاب والسنة، وأحاديثها متواترة؛ قال عياض جاءت الأحاديث التي بلغ مجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وفي فتح الباري جاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة، وفي “فتح المغيث” للسخاوي أن عدد رواة حديث الشفاعة والحوض من الصحابة زاد على أربعين، وقال ابن عبد البر في “الاستذكار”: “إثبات الشفاعة ركن من أركان اعتقاد أهل السنة، وهم مجمعون على أن تأويل قول الله تعالى {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}: المقام المحمود هو شفاعته صلى الله عليه وسلم في المذنبين من أمته.
شروطها
لا خلاف بأن الشفاعة لها شروط ولها موانع، فالشفاعة لإنقاذ الكفار من النار والاستغفار لهم مع موتهم وهم فجار ؛ لا تنفعهم ولو كان الشفيع خليل الرحمن أو سيد الأنبياء محمد عليهما الصلاة والسلام، فالخليل دعا لأبيه واستغفر له بقوله: { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}. [إبراهيم:41]، ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ}. [التوبة:114 – 115، وسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبي طالب اقتداءً بإبراهيم، وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. [التوبة:113] ، وتحصّل مما سبق أن الشفاعة لها شرطان:
-
الإذن من الله، لقوله: {أَن يَأْذَنَ اللَّهُ}.
-
2 – رضاه عن الشافع والمشفوع له، لقوله: وَيَرْضَى، وكما قال تعالى:{ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}[الأنبياء: 28].
نفيها عن الكفار
قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} قال الإمام السيوطي -رحمه الله-: “لا تجزي نفس عن نفس شيئاً وهو يوم القيامة، ولا تقبل منها شفاعة أي: ليس لها شفاعة فتقبل، فالمعنى: ليس لها شفاعة أصلاً حتى تقبل، فهو لا ينفي قبول الشفاعة إن وجدت بل ينفي وجود الشفاعة ، ونظيره في القرآن قوله تعالى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:44]، أي أن الأحلام الباطلة ليس لها تأويل فنكون بها عالمين، وليس إثبات أنها لها تأويل ونحن على تأويلها من الجاهلين. والشاهد أن قوله تعالى: {لا تقبل منها شفاعة} يعني: ليس لها شفاعة فتقبل، كما حكى عن الكفار قولهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100]، وهذه نكرة في النفي فتفيد العموم {فما لنا من شافعين}.
اختلاف الناس فيها
افترق الناس فيه ثلاث فرق: طرفان، ووسط. فالمشركون وأهل الكتاب، كالنصارى: أثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن. والخوارج والمعتزلة: أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، أما سلف الأمة فأطبقوا على ما جاء به القرآن والسنة؛ من شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وغير ذلك من أنواع شفاعاته، وشفاعة غيره من النبيين والملائكة والقرآن والأولاد والصالحين . وقالوا: إنه لا يخلد في النار مُوحّد، لقوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}. [البقرة:255] {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}. [النجم:26]. وفي صحيح البخاري (7510):” أن سيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم إذا طلبت الشفاعة منه بعد أن تطلب من الأنبياء فيردونها إلى محمد صلى الله عليه وسلم، العبد الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- قال: (فأذهب إلى ربي، فإذا رأيته خررت له ساجدا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي، لا أحسنها الآن فيقول لي: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع وسل تعطه، واشفع تشفع، قال: فأقول: رب أمتي أمتي، فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة).وقال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}. [الإسراء:56 – 57].
قال المفسرون :”كان أقوام يدعون العزير والمسيح والملائكة فأنزل الله هذه الآية، وقد أخبر فيها أن هؤلاء المسؤولين يتقربون إلى الله ويريدون رحمته، ويخافون عذابه. وفي صحيح البخاري (99):” أن أبا هريرة قال: “يا رسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: …أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله)، فكلما كان المؤمن أشد إخلاصًا؛ كان أحق بها.
شفاعة الملائكة
ثبتت شفاعة الملائكة في الكتاب والسنة. قال الحق مبينًا درجتهم في الشفاعة: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}. [الأنبياء: 28]، وفي هذتا دليل على أن الملائكة يشفعون في المذنبين، وأن شفاعتهم تقبل بعد إذنه ورضاه في يوم القيامة، وقد ذهب “الكعبي” من المعتزلة إلى عدم ثبوت شفاعة الملائكة في أهل الكبائر. وقد رد عليه الإمام الرازي بردود قاطعة فلتنظر في محلها.
عند الأنبياء
من إكرام الله تعالى لأنبيائه وأصفيائه قبول شفاعتهم فيمن يشفعون له، وقد ثبت هذا النوع من الشفاعة بما جاء في الصحيحين؛ البخاري (7439)، ومسلم (183) من حديث الخدري رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة, وشفع النبيون, وشفع المؤمنون. ولم يبق إلا أرحم الراحمين. فيقبض قبضة من النار فيُخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً)، والمعنى أنهم شهدوا الشهادتين ولولاه ما خرجوا، وحديث أبي بكرة، وهو عند أحمد (5/ 43)، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل الناس على الصراط يوم القيامة فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار. قال: فينجي الله تعالى برحمته من يشاء, قال: ثم يؤذن للملائكة, والنبيين, والشهداء أن يشفعوا فيشفعون ويخرجون, فيشفعون ويخرجون, فيشفعون ويخرجون) وفي رواية عفان: (ويشفعون ويخرجون من كان في قلبه ما يزن ذرة من إيمان)، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (ما يزال الله يرحم المؤمنين، ويخرجهم من النار)، وقد ذكر المفسرون عند تفسير هذه الآية: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ}. [الحجر: 2] كثيراً من النصوص التي تدل على أن الله يخرج من النار أقواماً بفضل رحمته وشفاعة الشافعين لهم من الأنبياء وغيرهم”.
عند الولْدان
من الشفاعات الثابتة أيضًا شفاعة الوِلْدان في آبائهم وأمهاتهم إذا احتسبوهم عند الله تعالى وصبروا على فقدهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يموت لمسلم ثلاث من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم)، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل لنا يوماً، فوعظهن، وقال: أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا له حجابًاً من النار. قالت امرأة: واثنان؟ قال: واثنان وفي رواية: لم يبلغوا الحنث)، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم).
عند الشهداء
ثبتت شفاعة الشهداء في عدد من الأحاديث الصحيحة منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ثمَّ يُقالُ: ادعُوا الشُّهداءَ، فيَشفَعونَ لمَن أرادُوا، قال: فإذا فعَلَتِ الشهداءُ ذلك، قال: يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: أنا أرحَمُ الراحمينَ)، وجاء في حديث خصال الشهيد أيضاً أنّه يشفع في سبعين من أقاربه وفي رواية من أهل بيته، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (الشهيدُ يشفَعُ في سبعينَ مِنَ أهلِ بيتِهِ”.
في القرآن الكريم
ثبتت شفاعة القرآن لقارئه ولمن عمل به في الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (تعلَّموا القرآنَ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شافعًا لأصحابِه وعليكم بالزَّهْراوَيْنِ: البقرةِ وآلِ عِمرانَ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غمامتانِ أو كأنَّهما غَيَايَتانِ أو فِرْقانِ مِن طيرٍ تُحاجَّانِ عن أصحابِهما).
في الختام: لعل الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله أحسنَ من لخص فلسفة الشفاعة وأحاط بأسرارها، قال : “بيَّن لنا الحق عناصر الشفاعة: الشافع، والمشفوع له، والمشفوع عنده وهو الله سبحانه، والمشفوع فيه هو الذنوب. ولسائل أن يقول: ما دام الحق سبحانه قد رضي عن عبد، فلماذا يحتاج العبد الشفاعة؟ وأقول: الإنسانُ يتعرض لأعمال كثيرة، وله نقاط ضعف في حياته؛ قد تكون كثيرة، وقد تكون قليلة، فإذا جاء في نقطة الضعف وأذنب ذنباً، فعليه أن يزيد من فعل النقاط القوية التي تُكتب له بها الحسنات؛ لأن المعيار هو: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114]، فالعبد حين يزيد من الحسنات فالحق سبحانه قد يمحو السيئات، وليعلم كل إنسان أنه إن اختلس من الله حكماً فهو لن يستطيع أن يهرب من العقاب، وعليه أن يزيد من الحسنات، ويرجو المغفرة من الله؛ وقبول التكفير بالحسنات عن السيئات، ولن يُفلت أحد من ملكوت الله، وهَبْ أن إنساناً فيه نقطة ضعف، وأذنب ذنباً، وعنده نقطة قوة يطيع فيها الله بسهولة ويُسْر، هذا الإنسان له أن يعلم أن الله يحبه لأجل نقطة قوته هذه، وقد يرحمه سبحانه فيما أذنب من الذنوب، ويجعل المأذون له في الشفاعة يشفع له عنده سبحانه. فلماذا أراد الحق ذلك؟
شاء الحق ذلك حتى لا يُحرَمُ العالَمُ من الحسنات التي يجيدها ذلك الإنسان. وحديث الرجل الذي سقى كلباً يلهث من العطش، ولم يجد الرجل إناء يملأه ماء من البئر ليسقي الكلب، فنزل البئر وملأ خفه ليسقيه، وبطبيعة الحال لم يكن هذا الرجل لينافق الكلب، بل رحمة بهذا الحيوان؛ لذلك غفر الحق سبحانه لهذا الرجل. وقد جعل الحق سبحانه الشفاعة لرسول الله تكريماً له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َولغيره ، حتى يعلم المسلم أن الرسول قد يشفع له، وأن المؤمن قد يشفع لأخيه، وأن الأب قد يشفع لابنه، وحين يعلم المسلم ذلك، فهو يحسن إلى كل هؤلاء؛ لعله يحصل على الشفاعة منهم، ويحسن اتباع سنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويحسن معاملة المؤمنين، ويحسن الابن معاملة والديه، وهكذا يعيش المجتمع في كرامة الشفاعة بعمل الخير وإخلاص النية”.
زر الذهاب إلى الأعلى
بارك الله في أنفاس الكاتب، فقد سرى بنا في رحاب موضوع الشفاعة بأسلوب يلامس الأرواح قبل العقول، وجعلنا نستشعر عظمة هذا الباب الرباني المفعم بالرجاء والتعلق برحمة الله. كم كان السرد شفيفًا، يغذّي الإيمان ويحيي في القلب الأمل بلقاء كريم وعفو عظيم. مقال تفيض منه السكينة، وتنكشف به زوايا العقيدة برفق ووضوح. جزاكم الله عنا خير الجزاء، وزادكم علمًا ونورًا.