مقالات

بين العامية والفصحى (21)     د . أحمد الزبيدي         –         الإمارات 

موقف الحداثيين من الشافعي.. محمد شحرور مثلًا ( 4 )

د. أحمد الزبيدي

تحدثنا في المقال السابق عن ثلة من الحداثيين، أو “التنويريين”، أو دعاة “تجديد الخطاب الديني”؛ وموقفهم من التراث بشكل عام، وموقفهم الثابت من الإمام الشافعي وكتابه في أصول الفقه (الرسالة) ؛ الذي حاول أن يضع فيه منهجًا فكريًا، ونظرية معرفية ، ويؤسس لأصول الاستدلال، وقواعد الاحتجاج في الفقه وأصول الفقه على السواء، ومن جهة أخرى سعى لضبط العقل المسلم وجعله مرتبًا ومنظمًا ومنتجًا وفاعلًا .

ومحمد شحرور وإن كان ” لا بِهِشّْ ولا بِنِشّْ” كما يقول المثل العامي، أو “لا في العير ولا في النفير” كما في المثل الفصيح إلا أنه يظلُّ منهم ومحسوب عليهم.

و”شحرور” -كما يعرفهُ القارىء الكريم- رجلٌ مقلد في كل شيء حتى في عدائه للشافعي وتهجمه على التراث، وأنا أجزم مرة أخرى أنه من بين الحداثيين وبوجه خاص لم يقرأ (الرسالة) فضلا عن فهمها والتعبير عما فيها من كنوز معرفية ولآليء ودرر سَحرت اللغويين، والأدباء ، والمحدثين؛ القدماء والمحدَثين ممن قرئوها واستفادوا منها، فها هو الإمام الكبير عبد الرحمن بن مهدي  الذي كتب إلى الشافعي وهو شاب -بعدما رأى نبوغه وذكاءه- أن يضع له كتابًا يجمع معاني القران، وقبول الأخبار ، وحجة الاجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، وعندما وصله الكتاب عكف عليه يقرؤه مرات وكرات، رأيناه يقول :” (لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني، لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لأكثر الدعاء له”، ثم قال : ” ما أصلي صلاة إلا وأدعوا للشافعي رحمه الله فيها”. وقال أيضا: “أنا أنظر في كتاب “الرسالة” عن الشافعي منذ خمسين سنة، ما أعلم أني نظرت فيه من مرة إلا وأنا أستفيد شيئا لم أكن عرفته، وقد سميت ” الرسالة “، بسبب إرساله إياها لعبد الرحمن بن مهدي…الخ .

أنا بصراحة لا أستغرب ثناء علماء أهل السنة على الشافعي ومدحهم مؤلفاته؛ مثل الإمام أحمد، والإمام أبي عبيد بن سلام، وإسحاق بن راهوية، وغيرهم الكثير الكثير، قدر ما أستغرب ذلك من خصومه في المذهب ومناهج التفكير، فالإمام المعتزلي الكبير أبو عثمان الجاحظ يقول في لغة الشافعي؛ وفصاحته، وبيانه، وحسن تأليفه:” نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذي نبغوا، فلم أر أحسن تأليفًا من المطلبي، كأن فاه نظم درًا إلى درر”.

وقد عرض الإمام الحجة الزمخشري لرأي الشافعي في تفسير قوله تعالى أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا}

 ، وأن المراد “أن لا تكثر عيالكم”، وبعد أن وجه كلام الشافعي عقب عليه بقوله: ” والذي يحكى عن الشافعي رحمه اللَّه أنه فسر (أَلَّا تَعُولُوا) أن لا يكثر عيالكم، فوجهه: أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم، كقولهم: مانهم يمونهم، إذا أنفق عليهم؛ لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب.

وكلام مثله من أعلام العلم، وأئمة الشرع، ورؤوس المجتهدين، حقيق بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظنّ به تحريف تعيلوا إلى تعولوا، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: “لا تظنن بكلمة خرجت من فِيْ أخيك سوءًاً وأنت تجد لها في الخير محملًا، وكفى بكتابنا المترجم بكتاب «شافي العيّ، من كلام الشافعي» رضي الله عنه، شاهدًا بأنه كان أعلى كعبًا، وأطول باعًا في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرقًا وأساليب، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات”، ولو قصدنا إلى شرح مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه وبسط فضائله لأطلنا المقال، ولم نصل إلى كل ما يمكن أن يقال، فإنه كان عالمًا ورعًا، زاهدًا، عابدًا، تقيَا، نقيًا، إمامًا في علوم الشريعة مرضيًا.

وحسبك أن الشافعي ألَّف في مناقبه وفضائله أكثر من أربعين مؤلفا، وإلى يوم الناس هذا لم تتوقف حركة التأليف في ذكر مناقبه وفضائله.

 المستشرقون والشافعي

يُعدُّ كتاب الشافعي (الرسالة) أحد أهم المراجع الرائدة الذي ظفر بالحظ الأوفر من اهتمام المستشرقين؛ فوجَّهوا إليه سهام الطعن والنقد؛ وقد ذكر الأستاذ إبراهيم السكران -فك الله أسره- :”أن علم الأصول ربما يكون أكثر علوم الإسلام تعرضا للتشكيك والارتياب والقدح في الخطاب الحداثي المعني بإعادة تأويل التراث”، ويفسر الباحث ذلك بأن علم الأصول يقوم على محورين رئيسين: (مصادر التشريع)، و(قواعـــــد فهم النص)؛ ولذلك تجدهم تارة يعبرون بقولهم: (التلقي والاستدلال)، ويعنون بالتلقي: (مصادر التشريع) أو (الأدلة)، ويعنون بالاستدلال: (مبحث الدلالة). ولأنــــه المسؤول عن الدلالة فقد لاقى هذا العلم وابلا من سهام جنود الثقافة الغالبة، وحاولوا زحزحته عن طريقهم؛ لمسح الطريق، تمهيدًا لغرس بذور الفكر الغربي في الأراضي الإسلامية”.

ولقد صدق الشيخ “السكران” في قوله، فلقد أثمر الغرس في عدد من الحداثيين أمثال: محمد أركون، وحسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، وادونيس، والطيب تيزيني، وجورج طرابيشي، وعبد المجيد الشرفي، وهشام جعيط ، والصادق نيهوم، ومحمد سعيد العشماوي، ونصر أبو زيد ، وعبد الجواد يس ، وعلي مبروك، وزكريا أوزون، وأخيرا محمد شحرور  وضوع مقالاتنا .

من أجل ذلك اتسمت مواقفهم بالنقد الشديد، والهجوم الحاد، والمصحوب بكم من الاتهامات التي طالت جوانب شتى وامتدت لتصل إلى شخص الشافعي -رحمه الله-، بل إن بعضهم طعن في تدينه، وأمانته العلمية، وآراءه العقدية والفقهية والأصولية!

ونحن إذ نذكر ذلك لا نرى بأسًا أو ضيرًا في انتقاد الشافعي، ففي حديث الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون»، ولا عصمة إلا لنبي، ولكن المشكلة تكمن في أن اتهامات “التنويريين” بنيت على الهوى، وليس فيها رائحة العلم أو المنهج العلمي، أو جاءت على فهم مغلوط، أو تكون قد انطلقت من موقف فكري مخالف، فعلى سبيل المثال يتهم محمد أركون الشافعي بقوله :” إنه قد ساهم في سجن العقل الإسلامي داخل أسوار منهجية محددة”، كذلك نقد أسلوبه في التصنيف لا سيما في كتابه الرسالة.

ومن يقرا كتب الشافعي يجد أن كتبه جميعًا تنطق بعكس هذه التهم، فهو الذي نهى عن تقليده، وهو الذي طالما دعا إلى الاجتهاد، وهو صاحب القول المشهور:” قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول المخالف خطأ يحتمل الصواب “، وأما اعتراضه على أسلوب التصنيف فهو في غير محله، إذ ليس من العدل أن تلزم مؤلفا بنمط معين في تأليفه وتصنيفه، فالطرائق تختلف، والأساليب تتعدد.

اما شحرور ففي كتابه “نحو أصول جديدة في الفقه” (ص171) يرى أن آراء الشافعي هي السبب في أن “انبذرت بذور ذهنية التحريم في العقل العربي الإسلامي”، وعلل ذلك بأنه ذهب إلى أن عصر النبوة والخلفاء الراشدين الأربعة هو عصر الإسلام، وكل ما طبق فيه من قرارات، وتعليمات، وأوامر ونواهٍ، هو عين الإسلام”.

 نظرة واحدة إلى كلام “شحرور” تريك مبلغ الخلط والتقول والتجني؛ مثل الإقرار بأن الشافعي هو الذي يحلل ويحرم من عنده، وأي خطأ في أن يكون عصر النبوة والخلفاء المهديين من بعده هو عصر الإسلام في رأي الشافعي!

ولم يرض “شحرور ” حتى اتهم الشافعي -رحمه الله- بممالأة السلطة ولي اعناق النصوص إرضاء لمصالح الحكام الخاصة، فالشافعي في نظر ه ” فسر آيات المواريث تفسيرًا ذا غرض سياسي، حيث جعل الولد في آيات المواريث الذكر دون الأنثى، بدافع سياسي سلطوي، مما ساعد على ترسيخ حكم العباسي التي كان تحكم أكبر وأغنى دول العالم في ذلك الزمن ولانتقل حق الحكم مباشرة إلى المعارضة، أي إلى الطالبيين وإلى الشيعة”.

ومن اتهامات “شحرور” للإمام الشافعي أيضًا -نحو أصول جديدة للفقه- (ص171):” أنه تأثر بالأقوال السائدة في عصره بجواز الترادف بين الألفاظ، وأدى به ذلك إلى عدم التشدد في رواية الحديث النبوي باللفظ، وتجويز الرواية بالمعنى”. ولكي تعرف مقدار جهل “شحرور” فإن مسالة الترادف مسالة علمية مختلف فيها بين العلماء، وجمع غفير غير الشافعي يقولون بها، ولعلنا نتحدث عنها في مقال مستقل لأن شحرور يعتمد عليها في منهجه التجديدي كما يقول!!

وإنكار مُحَمَّد شحرور الترادف في القرآن هو اتجاه عام لدى أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن، فيقول مثلا عند التفريق بين الحرام والاجتناب: ” تبين لنا أن من قال: إن الاجتناب هو أقل من التحريم فقد صدق؛ لأن التحريم هو لحدود اللَّه، كقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ).

وقوله هذا يؤدي به إلى التحلل من بعض الأحكام الشرعية، فالقول بأن الاجتناب أقل درجة من التحريم يقود حتمًا إلى القول بعدم حرمة الخمر والزنى، وهو ما صرح به شحرور نفسه حين قال: ” وإني أقول لهَؤُلَاءِ الناس، أيهما أكبر، أمن يشرب كأسًا من الخمر أم من ينكح إحدى محارمه؟ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ).

ونقول لمحمد شحرور: أليس الشرك أكبر الكبائر، وأعظم المنهيات حرمة، فلماذا عبر عنه الحق -تبارك وتعالى- بالاجتناب ولم يعبر عنه بالحرمة؟ قال اللَّه تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، وقال سبحانه أيضًا: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).

فعلى مذهب “شحرور” يصبح الشرك باللَّه والكفر به من الأمور العادية التي تخضع لثقافة الناس وأعرافهم، مثل: الخمر التي يرى أنها ليست بحرام ولكن تعافها الفطرة، وهو مخالف لما درج عليه أهل الفسق من استطابتها واعتبارها من أفضل مشروباتهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى