مقالات

بين العامية والفصحى (22)       د. أحمد الزبيدي         –         الإمارات

موقف (القرآنيين) من السنّة (5)

د. أحمد الزبيدي

 

إنكار السنّة:

بدأ تاريخ إنكار السنّة مع بداية تاريخ جحود الرسالة وإنكارها. فالكفر بالسنّة هو صنو الكفر بالرسالة – فهما أمران توأمان؛ متقاربان زماناً، ومتساوقان منزلة ومتماثلان حكمًا، فأول ما رُوي لنا من ذلك ما رواه المفسرون وأصحاب السنن في أسباب نزول الآية الكريمة: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65) ، ذلك أن الزبير بن العوام – رضي الله عنه – اختصم مع صحابي آخر فحكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للزبير أن يسقي زرعه أولاً، ثم يُرسل الماء إلى صاحبه، فغضب الرجل وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟. أي حكمت له بسبب أنه ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنزل الله – تعالى – الآية في ذلك.

على أن هذه الحادثة شاذة وفريدة وقعت في الصدر الأول من الإسلام.

الذي يعنينا في الأساس هو الحديث عن إنكار السنّة على أيدي جماعات وطوائف تبنت تلك الفكرة وعملت على تحقيقها. ولعل الخوارج والشيعة، وما انضم إليهم من بعض طوائف المتكلمين والمعتزلة هم أول من شَغَّبوا على السنة النبوية وأظهروا معارضتها وإنكارها، فالشيعة لم يقبلوا من السنّة إلا ما نُقل إليهم عن طريق شيعتهم من آل البيت، وأما الخوارج فقد أنكروا السنة بشكل عام، وأنكروا أحكام رجم الزاني المحصن بشكل خاص؛ بدعوى انها لم تردْ في القرآن.

يقول صاحب “كتاب الفرق بين الفرق” عنهم : “أنكروا حجية الإجماع والسنن الشرعية، وأنه لا حجة في شيء من أحكام الشريعة إلا من القرآن، ولذلك أنكروا الرجم والمسح على الخفين لأنهما ليسا في القرآن، وقطعوا يد السارق في القليل والكثير لأن الأمر بالقطع في القرآن مطلق، ولم يقبلوا الرواية في نصاب القطع ولا الرواية في اعتبار الحرز فيه”،فالخوارج والشيعة وقوم من المعتزلة – رفضوا السنّة لجرحهم الصحابة – ومن المعلوم أن القرآن الكريم قبل السنة إنما وصل إلينا من طريقهم؛ فهم أصحابه المطلعين على أحواله، المُتَأسّين بأفعاله، الحريصين على تقييد حركاته وسكناته وأقواله، ثم جاء المعتزلة -على الرغم مما لهم من فضل في المناظرة والحجاج عن الإسلام – بالغوا في تمجيد العقل وتعظيمه، حتى أنزلوه منزلة فوق منزلة الكتاب والسنة؛ ممَّا كان سبباً في ردِّهم كثيرا من نصوص الوحيين، وعدم الاعتماد على حجيتها، وتقديم العقل عليها، وكان لسان حالهم يقول:

كَذَبَ الظَّنُّ لا إِمام سوى العَق                                      لِ مُشيرًا في صبحِهِ والمساءِ

وها هو كبيرهم القاضي الفاضل عبد الجبار-رحمه الله- كما في- فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة- (ص 139)،  يُقرِّر بأنَّ العقل هو أوَّل الأدلة، فيقول – في معرض حديثه عن الأدلة: (أوَّلُها دلالة العقل؛ لأنَّ به يُميَّز بين الحُسْن والقُبح، ولأنَّ به يُعرف أنَّ الكتاب حُجَّة، وكذلك السُّنة والإجماع).

وقد ظلت مسيرة إنكار السنّة هذه تتصل من طائفة إلى طائفة، وتعبر من مكان إلى مكان، حتى اناخ القرن العشرين بكلكله ، حيث ظهرت نابتةٌ سوء نبتت في الهند، سميت “بالقرآنيين “، على عين المستعمر الانجليزي الذي تكفلها ماديًا وفكريًا واجتماعيًا، فنشطت في الدعوة إلى نحلتها، وسرعان ما انتقلت جرثومتها إلى الباكستان المسلمة.

البداية:

كانت البداية مع مجيء الاحتلال الانجليزي في شبه القارة الهندية، فما لبث أن دان لهم الهندوس والبوذيون وغيرهم، أما الأقلية المسلمة في الهند فلم يسلس للإنجليزي قيادها ، وظلوا يمثلون لهم قلقاً وإزعاجاً، بل خطرا على سلطانهم وبقائهم في الهند، وكان المسلمون لا ينفكون يجاهدون ضدهم، ويثورون عليهم، وكانت أشرس ثوراتهم وأكبرها ثورة مايو عام(1857م).

ولقد فكر الإنجليز مليًا في تفريق صفوف المسلمين، وإضعاف شوكتهم، وبث النزاع بين طوائفهم، وإفشال ريحهم، فما وجد أفضل وأنجع من خطة تقضي بشراء عملاء وماجورين من ضعاف المسلمين، يجندونهم ضد الإسلام والمسلمين، حيث يبدأ هؤلاء العملاء بالتظاهر بحب الإسلام، والحرص عليه، والدعوة إليه، والكتابة فيه، حتى إذ اشتهر أمرهم، والتف الناس حولهم، اخذوا بتفريغ سمومهم، وبذر شكوكهم، كل ذلك في لباس من التقوى والورع ودعوى التجديد والاجتهاد فيه- فمنهم من ادعى النبوة مثل: ” ميرزا غلام أحمد القادياني “،ومنهم من تصنع حب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيخلع عليه – بهذه الحجة – بعض صفات الله سبحانه، وذلك مثل “أحمد رضا خان”، ومنهم من ادعى أنه مجدد القرن، ومجدد المئة، مثل: ” أحمد خان ” الذي أخلص للإنجليز إلى حد أن باع نفسه ودينه وما تبقى من شرفه، وضحى بأمته في مقابل رضوان الانجليز عنه!

السيد أحمد خان:

أول وأكبر وأجرأ مبتدع للآراء الشاذة المخالفة للقرآن والسنّة وإجماع الأمة، مما كان سبباً رئيسا، وطاعونا بئيسا في مرضها وتشتيتها وإضعاف شوكتها.

ألف تفسيراً للقرآن؛ نهج فيه نهجا شيطانيا يخالف فيه القرآن نفسه، ويخالف أبجديات المنهج العلمي، حيث اعتمد على عقله، ومزاجه، وهواه، فتردّى إلى حمأة وبيئة من الانحراف والضلال، فجاء بآراء تخالف مُسَلَّمات الدين، وإجماع الأمة، وسلك في تفسيره مسلكا خالف فيه أساليب العربية، ومعهود العرب في لغتهم وأساليبهم، مما تسبب في إنكار الغيب؛ ملائكةً، وجنًّا، وشياطين، وفي سبيل إنكارها تعسف في تأويل الآيات القرآنية، ولي أعناق النصوص التي ورد فيها ذكرها، فالملائكة عناصر الطبيعة؛ من ريح ومطر وبراكين، والجن سكان الغابات والصحاري، والذين ينشطون في الليل فلا يراهم أحد، والشياطين هي شهوات النفس وهواها، وقد توج ضلالاته كلها بقوله: إن القرآن العظيم لم ينزل على رسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم – بألفاظه ومعانيه، بل إنه نزل بالمعنى فقط، وبذلك جعله مثل السنة.

هذا وغيره مما وقع فيه “أحمد خان” تسبب في ثورة العلماء ضده ونبذه ورميهم إياه بالكفر، ثم ظهر بعده، وقفا قفوه عبد الله جكرالوي، نسبة إلى بلدة (جكرالة) مكان ولادته في باكستان، عام 1830م. ليصبح من أكابر منكري السنة النبوية المطهرة.

اشتغل الرجل لأول أمره بعلم الحديث حتى إذا أنس الناس منه ذلك، خرج على الناس بكلمة الكفر: “إن القرآن هو وحده الموحى به من عند الله – تعالى – إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – أما ما عداه من السنة فليس بوحي” ثم شرع في تحقيق مذهبه الجديد وشرحه، والدعوة إليه، ومحاولة اكتساب الأنصار له بالوعد والوعيد.

وقد لَفتت آراؤه أنظار المستعمرين الإنجليز التي كانت اعينهم لا تنام إليه، بحثًا عن أعداء الإسلام، فتمكنوا من اصطياده والإيقاع به كما يصادُ الحمام، وخلعوا عليه لقب الأستاذ والمفكر والإمام، فما كان منه إلا أن رفع عقيرته بإنكار السنة ، وأخذ يدعو إلى ذلك، فتواردت عليه رسائل الدعم والتأييد من المبشرين والمنصرين الصناديد، وتعده من النصرة والعون بالمزيد، وأخذت تزين له أفعاله وأقواله، ويقدر ارتفاعه عندهم نزل في أعين العلماء فأفتوا بكفره وخروجه عن الإسلام، ثم ظهر بعده أحمد الدِّين الأَمْرِتْسِرِي؛ نسبة إلى مدينة “أمرتسر” التي ولد بها سنة (1861م) .

قرأ الأَمْرِتْسِرِي القرآن ، ثم شدا شيئا من العلوم الدينية عند بعض المشتغلين بها، ثم التحق بمدرسة المبشرين – فدرس كتابهم المقدس وبعض العلوم اللاهوتية – وصار بذلك عندهم من المعدودين، ثم جد واجتهد في اكتساب العلوم والمعارف، مثل التاريخ، والجغرافيا، والفلك، والاقتصاد، والمنطق، والرياضيات، وأجاد العربية والإنجليزية والفارسية والأردية وغيرها من اللهجات.

قال الشاعر :

عَسَلُ الأخلاقِ ما يَاسرتَهُ

فإذا عَاسرتَ ذُقْتَ السَّلَعا

وقد ربطت الأَمْرِتْسِرِي صلة وثيقة بمن سبقه من القرآنيين – فقد قرأ لهم، واتصل بهم، وأخذ عنهم وتأثر بهم.

أخذ عن ” أحمد خان” إنكار السنّة، وأخذ عن جكرالوي أفكاره، وكان ماكرًا خبيثًا، حيث كان ينصحه بالتقية وعدم الإفصاح عن مخططاته في إنكار السنة، وعدم التصريح بذلك، وابتداع الفرائض والعبادات، وزعموا أنه كانت له علاقات بالفيلسوف محمد إقبال عادت على إقبال بالسوء، غير أني لم أتبين وجه الصحة من ذلك، فأتوقف عن الحكم ، ثم خلف الأَمْرِتْسِرِي غلام أحمد برويز البنجابي المولود (1903م) الذي تلقى تعليمه أولا على يد جده، ثم أكمل بالمدارس النظامية، وقد يتدرج في الوظائف الحكومية حتى وصل إلى وظيفة مدير المطبعة التي عمل بها بداية أمره.

قصة انحرافه:

تحدث غلام أحمد عن نفسه؛ فقال: “ذات يوم كنت أطالع التفسير فمررت بقوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} (الأحزاب:69)، وقد ذكر القرآن تفصيل هذا الإيذاء من عناد بني إسرائيل لموسى – عليه السلام – وطلبهم ما لا يحتاجون إليه.

غير أني وجدت في تفسير هذه الآية حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري والترمذي من اتهام بني إسرائيل موسى بالبرص، وفرار الحجر بثيابه، وضرب موسى الحجر بعصاه، فارتعدت فرائصي، واستغرقني التفكير، وتوالت عليَّ الشبهات واحدة تلو الأخرى”.

آراؤه:

لا تختلف آراء غلام أحمد مع غيره من (القرآنيين) وتوحههم العام الذي يقوم على تدمير الإسلام وإبادة أهله، وذلك من خلال إنكارهم السنّة وتحريفهم النصوص،  غير أنه – لشدة خبثه ودهائه – عمل على اللعب على وتر السياسة، ومغازلة السياسيين كي يضمهم إلى صفه، ويكسبهم إلى جانبه قال: إن القرآن قد شمل الكُليّات ، وترك الفرعيات لولىّ الأمر ، فهو الذي يتولى بيانها، وإن أمر التحليل والتحريم راجع إليه ومن صميم سلطته، وقد أعجب هذا النهج الحكام والمسؤولين، فمنحوه تأييدهم، ووهبوه حمايتهم، ومكنوا له ولدعوته، حيث استطاع نشر ضلالاته على نطاق واسع، وصار له ولجماعته وجود محسوس على الساحة الباكستانية وغيرها من بلاد الهند وبعض البلاد الأوربية التي يهاجر إليها الباكستانيون للعمل أو الدراسة.

موقف العلماء منه ومن دعوته:

قام العلماء بزعامة الشيخ أبي الأعلى المودودي بواجب الجهاد ضد هذه الحركة وأفكارها، كدأبهم مع الحركات الباطلة السابقة، وفي سنة (1961م) اجتمع عدد كبير من العلماء وأفتوا بكفر من يتبنى هذه الأفكار أو يدعو لها، وقالوا بخروجه من ربقة الإسلام، وقد تولى هذا الإجراء علماء المدرسة العربية الإسلامية بكراتشي، وعلماء الهند وشاركهم في ذلك علماء الشام والحجاز .

هذا نبذة موجة بما يتعلق بطوائف (القرآنيين) في الزمن الماضي، أما ما يتعلق بهم في الوقت الحاضر فأرجأنا الحديث عنهم للمقال القادم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. و الله يا سيدي أنا أرى إنه نتذكر دائما الحكمة المعروفة والتي لعلها أن تكون حديث شريف (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها. فهو أحق بها). نحن، إذا وجدنا. فائدة عند شخص ،ما في أي داعي نتكلم في موضوع انتمائه الفكري أو مدرسته العقائدية أو ما يسمى كلامية، الا اذا كانت المرسة التي ينتمي اليها تنعكس على اراءه و في هذه الحالة ان اختلفنا مع رايه و نحاججه براينا، هذا و كما نعرف يوجد اناس من أصحاب الملل الأخرى تكلموا في اللغة العربية وأبدعوا فيها وأبدعوا العلوم الأساسية لفهم الدين بل وتكلموا، وكتبوا في تفسير القرآن الكريم. إذا تكلم أي إنسان بحكمة فنحن أحق بها ونحفظ له حقه الفكري بها ولا نناقش كثيرا في قضية مذهبه. الفكري أو العقائدي. بمعني استفادتنا من بعضنا يجب أن نعزلها تماما عن إدارة الخلاف الذي بيننا. موضوع إنه هذا مذهبه كذا أو مشربة كذا أو اتجاهه كذا ،هذا كله، يجب أن يندرج تحت سياق إدارة الخلاف. نحن لا نقول بإهمال هذه النقاط لكن إدارة الخلاف شيء و تكون في سياق منفصل واستفادتنا من بعضنا شيء آخر . هذا هو الأساس . والله ولي

  2. من ينكر الأحاديث النبوية الشريفة يحرم نفسه ويحرم غيره من أبواب عظيمة من الرحمة الإلهية، تجلت في هدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، أحاديث حدّ الزنا، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: “هلا سترته بثوبك”، والتي تدل على أن المبادرة إلى التبليغ ليست مطلوبة شرعًا، بل إن الأصل هو السعي لستر المذنب والتقليل من نشر الفاحشة، في إشارة إلى فهم عميق لطبيعة النفس البشرية واحتياجها للستر والتوبة.

    وكذلك ردّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ماعز مرارًا، حين اعترف بالزنا، يدل على مدى حرصه على فتح أبواب التراجع والتوبة، لا التعجيل بالعقوبة. وتظهر هذه الرحمة أيضًا في قوله له: “لعلك قبّلت، لعلك…”، وهي أسئلة تهدف إلى التثبت لا التسرع، وقد أرست نهجًا دقيقًا في التحقيق القضائي الإسلامي عبر العصور.

    ثم إن قوله عليه الصلاة والسلام بعد أن فرّ ماعز: “هلا تركتموه”، يضيف بعدًا إنسانيًا آخر، وهو أن الفرار يمكن أن يُعد توبة غير معلنة، تُغني عن إقامة الحد.

    إن هذه الأحاديث، وإن كانت تحتاج أحيانًا إلى تحقيق سندي، فإن روحها التشريعية والرحيمة كانت منارًا للأمة. ولولا هذه السنن النبوية، لعوقب الآلاف بل الملايين، في حين أن السنة حفظت الأمة من الغلو في تطبيق الحدود، وفتحت أبواب التوبة والستر.

    فالحديث الشريف هو مظهر من مظاهر “الرحمة المهداة”، التي لا يُستغنى عنها في فهم وتطبيق الشريعة، مصداقًا لقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى