مقالات

دراسات قرآنية (12)         د . أحمد الزبيدي         –         الإمارات

"بدع التفاسير" في "الكشاف" (ج3)

د. أحمد الزبيدي

ذكرنا في الجزء الأول من (بدع التفاسير) أن الإمام الفخر الرازي -رحمه الله- ذكر الإمام الزمخشري        في تفسيره باسمين مختلفين؛أما الأول: فقد نعته بلقبه المشهور:(الزمخشري)،ذكره حوالي (77) مرة،وأما الاسم الثاني فقد ذكره بلقب (صاحب الكشاف) حوالي (800) مرة، ويظهر لي -والله أعلم- أن الرازي عندما يذكره باسمه يكون موافقًا له، ومؤيدًا لرأيه، وأما إذا ذكره بلقبه فإنه قد يناقشه أحيانًا ويبين ضعف رأيه، وضعف استدلاله، وهذا حكم أغلبي، على أن اعتراضات الرازي عليه قليلة جدًا، حاشا اعتراضاته العقدية، فلكلٍّ مذهبه، ولكل اعتقاده.                       نحن سنقتصر فقط على موطنين اثنين ناقشه فيهما، الأول: من سورة “البقرة” قوله تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (3). قال الفخر الرازي : “ذَكَرُوا فِي لَفْظِ الصَّلَاةِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وُنجُوهًًا، أَحَدُهَا: أَنَّهَا الدُّعَاءُ قَالَ الشَّاعِرُ:

وَقَابَلَهَا الرِّيحُ في دنها

وصلى على دنها وارتشم

وَثَانِيهَا: قَالَ الْخَارْزَنْجِيُّ: اشْتِقَاقُهَا مِنَ “الصَّلَى”، وَهِيَ النَّارُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: صَلَيْتُ الْعَصَا إِذَا قَوَّمْتُهَا بالصلى، فَالْمُصَلِّي كَأَنَّهُ يَسْعَى فِي تَعْدِيلِ بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مِثْلَ مَنْ يُحَاوِلُ تَقْوِيمَ الْخَشَبَةِ بِعَرْضِهَا عَلَى النَّارِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُلَازَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَصْلى نَارًا حامِيَةً}. [الْغَاشِيَةِ: 4] {سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ}. [الْمَسَدِ: 3] وَسُمِّيَ الْفَرَسُ الثَّانِي مِنْ أَفْرَاسِ الْمُسَابَقَةِ مُصَلِّيًا،  وَرَابِعُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الصَّلَاةُ فَعْلَةٌ مِنْ «صَلَّى» كَالزَّكَاةِ مِنْ «زَكَّى» وَكَتَبْتُهَا بِالْوَاوِ عَلَى لَفْظِ الْمُفَخَّمِ، وَحَقِيقَةُ صَلَّى حَرَّكَ الصَّلَوَيْنِ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَفْعَلُ ذلك في ركوعه وسجوده، وقيل الداعي مصلي تَشْبِيهًا لَهُ فِي تَخَشُّعِهِ بِالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ.

قال الفخر الرازي: ” هَذَا الِاشْتِقَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يُفْضِي إِلَى طَعْنٍ عَظِيمٍ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ مِنْ أَشَدِّ الْأَلْفَاظِ شُهْرَةً وَأَكْثَرِهَا دَوَرَانًا عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ تَحْرِيكِ الصَّلَوَيْنِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ اشْتِهَارًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يُقَالَ: مُسَمَّى الصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ خَفِيَ وَانْدَرَسَ حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْآحَادُ لَكَانَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ جَائِزًا، وَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمَا قَطَعْنَا بِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا تَتَبَادَرُ أَفْهَامُنَا إِلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي فِي زَمَانِنَا هَذَا، لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ مَوْضُوعَةً لِمَعَانٍ أُخَرَ، وَكَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا تِلْكَ الْمَعَانِيَ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ خَفِيَتْ فِي زَمَانِنَا وَانْدَرَسَتْ كَمَا وَقَعَ مِثْلُهُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلِمْنَا أَنَّ الِاشْتِقَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ.

والثاني – بعد الأول الذي ذكره الزمخشري (77) مرة- من سورة “المزمل”: قوله تعالى :{يا أيها المزَّمِّل}.

 التَّاءُ فِي الزَّايِ، وَنَحْوُهُ الْمُدَّثِّرُ فِي الْمُتَدَثِّرِ، وَاخْتَلَفُوا لِمَ تَزَمَّلَ بِثَوْبِهِ؟ عَلَى وُجُوهٍ:

 أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَهُ وَظَنَّ أَنَّ بِهِ مَسًّا مِنَ الْجِنِّ، فَرَجَعَ مِنَ الْجَبَلِ مُرْتَعِدًا وَقَالَ: زَمِّلُونِي، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ جِبْرِيلُ وَنَادَاهُ وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}.

 ثَانِيهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّمَا تَزَمَّلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِثِيَابِهِ لِلتَّهَيُّؤِ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَائِمًا بِاللَّيْلِ مُتَزَمِّلًا فِي قَطِيفَةٍ فَنُودِيَ بِمَا يُهْجِنُ تِلْكَ الْحَالَةَ، وَقِيلَ: يَا أَيُّهَا النَّائِمُ الْمُتَزَمِّلُ بِثَوْبِهِ قُمْ وَاشْتَغِلْ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ كَانَ مُتَزَمِّلًا فِي مِرْطٍ لِخَدِيجَةَ مُسْتَأْنِسًا بِهَا فَقِيلَ لَهُ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ كَأَنَّهُ قِيلَ: اتْرُكْ نَصِيبَ النَّفْسِ وَاشْتَغِلْ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَخَامِسُهَا: قَالَ عِكْرِمَةُ: يَا أَيُّهَا الَّذِي زُمِّلَ أَمْرًا عَظِيمًا أَيْ حَمَلَهُ وَالزَّمْلُ الْحَمْلُ، وَازْدَمَلَهُ احْتَمَلَهُ”.

ومن بدع التفاسير قول الزمخشري: ” وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً بالليل متزملاً في قطيفه، فنبه ونودي بما يهجن إليه الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته واستعداده للاستثقال في النوم، كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن، ألا ترى إلى قول ذي الرمة:

وكائنْ تخطت ناقتي من مفازة

ومن نائم عن ليلها متزمل

يريد: الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب، ولا يحمل نفسه المشاق والمتاعب، ونحوه:

سهداً إذا ما نام ليل الهوجل

وفي أمثالهم:

أوردها سعد وسعد مشتمل

ما هكذا تورد يا سعد الإبل

فذمه بالاشتمال بكسائه، وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس، وأمر بأن يختار على الهجود التهجد، وعلى التزمل التشمر والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله، هذا القول والاستشهاد سوء أدب. وجعلت العلماء نداءه بالمزمل وغير ذلك من صفاته تشريفاً له إذ لم يُناده باسمه، واستشهاده على ذلك بأبيات قيلت ذماً في جفاة العرب، أبرأ إلى الله وأربأ برسول الله? منه”.

ورحم الله الإمام الزمخشري فلئن جنح قلمه، فما جنح لسانه، ولئن جنح لسانه فما جنح قلبه، فما علمناه إلا محبا لله ورسوله، ومدافعا عن كتابه وسنة نبيه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى