مقالات

وقفات مع المتنبي (34) د. أحمد الزبيدي         –         الإمارات

 بين مادحيه وقادحيه (2)          محمد بن الحسن الحاتمي

د. أحمد الزبيدي

قبل الحديث عن الرسالة الموضحة؛ -موضوع حديثنا- لا يسعنا إلا الحديث عن مصنفها.

تكاد تتفق كلمة النقاد على أن محمد بن الحسن ابن المظفر الحاتمي وكنيته “أبو علي” (ت388ه) كان إمامًا نابغًا وحجة في النقد، فقد وصفه إحسان عباس بقوله :”النقد ميدانه الأكبر، ومعقد جهده الأعظم، فلم يكن جهده فيه قاصراً على المتنبي، ولكن ظهور المتنبي في العراق بعد مغادرته مصر، أثار لديه نحيزته الهجومية، إذ كان طبعه النقدي ينقدح للاحتكاك والصراع، ولذلك جاءت آثاره في النقد متفاوتة تتراوح بين تقرير القواعد ووضع الأصول وبين الحدة الثائرة في تعقب السقطات؛ وفي كلا الطرفين يبدو الحاتمي متفرداً بين النقاد بكثرة الحفظ وتوفر الشواهد، على نحو لا يجاريه فيه معاصروه أو من بعدهم، ولذا كانت نظراته أساساً صالحاً يتعلم منه الدارسون”.

سبب تأليف (الرسالة الموضحة…)

جرت عادة المؤلفين والمصنفين أنهم يذكرون في بداية مؤلفاتهم السبب الذي بعثهم على التأليف، وإمامنا الحاتمي لم يخرج عن هذه القاعدة، فقد صرح بأن أبا محمد الحسن المهلبي المعروف بلقب “الوزير المهلبي” هو الذي أغراه في مهاجمة المتنبي، وتعقب سقطاته.

وعلى هذا فإن (الرسالة الموضحة فى ذكر سرقات أبى الطيب المتنبى وساقط شعره) تُعدُّ أول رسالة وافية صنفت في نقد شعر أبي الطيب، وهي ثمرة لقاء الحاتمي بالمتنبي؛ إثر عودة المتنبي من مصر إلى العراق، وكان الحاتمي حينئذ دون الثلاثين، فهو يذكر في الرسالة أن سن الصبا كان من محاسنه، وهو يصرح بأن الوزير المهلبي هو الذي حرضه على مهاجمة المتنبي “وهتك حريمه، وتمزيق أديمه، ووكلني بتتبع عواره، وتصفح أشعاره، وإحواجه إلى مفارقة العراق “.

وأضاف “وقد خدمت سيف الدولة وأنا ابن تسع عشرة سنة، تميل بي سنة الصبا وتنقاد بي أريحية الشباب بهذا العلم، وكان كلفًا به علقًا علاقة المغرم بأهله، منقبًا عن أسراره، ووزنت في مجلسه تكرمة وإدناء وتسوية في الرتبة — ولم تسفر خداي عن عذاريهما — بأبي علي الفارسي وهو فارس بالعربية وحائز قصب السبق فيها منذ أربعين سنة، وبأبي عبد الله بن خالويه وكان له السهم الفائز في علوم العربية تصرفًا في أنواعه، وتوسعًا في معرفة قواعده وأوضاعه، وبأبي الطيب اللغوي وكان كما قيل: حتف الكلمة الشرود حفظًا وتيقظًا، وتنازعت العلماء ومدحت في مصنفاتهم، وعددت في الأفراد الذين منهم أبو سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني وأبو سعيد المعلى، واتخذت بعضًا ممن كان يقع الإيماء عليه سخرة، وأنا إذ ذاك غزير الغرارة، تميد بي أسرار السرور، ويسري عليَّ رخاء الإقبال، وأختال في ملاءمة العز في بلهنية من العيش وخفض من النعيم، وخطوب الدهر راقدة وأيامه مساعدة.

ومما يؤكد أن الحاتمي ألف رسالته بعد لقائه مع المتنبي ما رواه  القفطي -إنباء الرواة-(ج3 ص103)، قال :” وله (الحاتمي) اجتماع مع المتنبي لما قدم إلى بغداد، ومؤاخذات آخذه بها وصنف في ذلك كتاب”.

وقال الصفدي “الوافي بالوفيات” (ج2 ص243) :” وله “الرسالة الحاتمية”، التي شرح فيها ما دار بينه وبين المتنبي لما قدم بغداد”. ولشدة حرص الحاتمي على إحراج المتنبي، ولشدة ثقته بنفسه، حرص أن تكون المناظرة على مرآى ومسمع من الناس. وقد عبر الحاتمي عما ذكرناه بقوله : “نهدت له متبعًًا عواره، ومقلمًا أظفاره، ومذيعًا أسراره، وناشرًا مطاويه، ومنتقدًا من نظمه ما تشمخ  به، ومنتحيًا أن تجمعنا دار يشار إلى، فأجري أنا وهو في مضمار يعرف السابق من المسبوق واللاحق من المقصر عن اللحوق”.

وفيما أوردنا يدل على ما ذكرنا فلا نزيد !

ومما يُذكر هنا أن الحاتمي صور رسالته على ما ذكرنا من نيته في رسم خطة تقضي إلى جر المتنبي إلى مناظرات، واستدراجه في حوارات، يشهدها طائفة من الناس؛ فيقيم عليه الحجة، فيكسر شوكته، ويديل دولته. ويلاحظ أيضا أن الحاتمي نشر كتابه بعد وفاة المتنبي-يرحمه الله-، وقد ذكر د. شوقي ضيف أن الحاتمي قد تزيّد في ذلك، ولعل د. شوقي ضيف قد قال ذلك لما يعرفه من معهود شخصية المتنبي القوية الرزينة المهيبة، فقلما استطاع شاعرٌ أن يقف له، وقلما استطاع لغوي أن يناظره! .

على أن ما جاء في رسالة الحاتمي يشكك في صحتها، إذ أن الحاتمي يتحدث عن وقائع جرت بينه وبين المتنبي غير المتنبي الذي نعرفه.

ذكر الحاتمي في رسالته (ص9) قوله لأبي الطيب:      ” فأخبرني عن قولك في مرثية أم سيف الدولة:

ولا من في جناَزتها تجارُ

يكون وداعها نَفَض النعالِ

أهكذا يؤبنُ مثلها، وقد كانت بلقيس عصرها! فقال: ألستُ القائل في هذه الكلمة:

مشىَ الأمراءُ حوليهْا حفاةً

كأن المرْو من زِفِّ الرئالِ

وأبرزَتَ الخدورُ مخبَآتٍ

يضَعنَ النِّقْس أمكنهَ الغوالي

أَتَتْهُنَّ المصيبةُ غافلاتٍ

فَدَمْعُ الحُزْنِ في دمع الدّلالِ

وأنشد أبياتاً من محاسن هذه القصيدة: فقلت: البيت الأول من قول الصنوبري:

نؤوم الضحى أهب القنافذ عنده

إذا ما عراه النوم أهب الثعالب

أو من قول ابن الرومي:

لو ّ أنها استلقت على حسك الفنكْ

تحت الزباة وجدتهُ كالفنكِ

وعلى ذلك فمن الواجب ألا تدفع عن إحسان انتظمه شعرك، ولا عن معنى نكد طوح به في البلاد فكرك، ولكنك تحسن في البيت من القصيدة:

نؤومُ الضحىَ ذهبُ القنافذِ عندهُ

إذا ما عراه النومُ أهبُ الثَعالب

أو من قول ابن الرومي:

لوْ أنها استلقتْ على شوْك الحسكْ

تحتَ الزَباةِ وجدته ْكالفَنَكِ

والبيت الأخير من هذه الأبيات ينظر إلى قول العباس بن الأحنف نظراً خفياً. وهو من معانيه التي اخترعها:

بكتْ غيرَ آسيةٍ بالبكاءِ

ترى الدمع في مقلُتيَهاَ غريبا

ذلك بالأبيات السخيفة لفظاً ومعنى…”.

أنظر معي أخي القاري إلى هذه الصورة التي رسمها الحاتمي للمناظرة التي جمعته بأبي الطيب، تجد صورة أستاذ مستبد يناقش تلميذًا صغيرًا ضعيفًا لا يملك من أمره شيئا! فهل هذا هو أبو الطيب المتنبي الذي كان يمدح نفسه في حضرة الملوك، وهل هذا هو المتنبي الذي كان يشترط على ممدوحيه أن لا يمحهم إلا جالسا، وهل هذا هو المتنبي الذي قتله شعره؟!.

قال الحاتمي يخاطب المتنبي :”ثم قلت: وأخطأت في قولك مخاطبا كافورًا الإخشيدي:

يَفْضَحُ الشَّمْسَ كُلَّمَا ذَرَّتِ الشَّمْ

سُ بشمسٍ مُنيرةٍ سَوْدَاءِ

فكيف توصف الشمس وصبغها البياض والضياء بالسواد؟ وما وجه استعارة الشمس للأسود إن كنت ذهبت في ذلك إلى الاستعارة؟” قال القاضي الجرجاني :”قال المحتج :إنه لم يجعله شمسًا في لونه فيستحيل عليه السواد، وللشعراء في التشبيه أغراض، فإذا شبهوا بالشمس في موضع الوصف بالحسن أرادوا به البهاء والرونق والضياء، ونصوع اللون والتمام، وإذا ذكروه في الوصف بالنباهة والشهرة أرادوا به عموم مطلعها وانتشار شعاعها، واشتراك الخاص والعام في معرفتها وتعظيمها. وإذا قرنوه بالجلال والرفعة أرادوا به أنوارها وارتفاع محلها. وإذا ذكروه في باب النفع والإرفاق قصدوا به تأثيرها في النشوء والنماء، والتحليل والتصفية، ولكل واحد من هذه الوجوه باب مفرد، وطريق متميز، فقد يكون المشبه بالشمس في العلو والنباهة، والنفع والجلالة أسود، وقد يكون منير الفعال، كَمِد اللون، واضح الأخلاق، كاسف المنظر، فهذا غرض الرجل.”

ثم يضيف الحاتمي مؤاخذًا أبا الطيب على بعض الألفاظ، فيقول: “قلت : وأخطأت أيضًا في قولك:

وَضَاقتِ الأرْضُ حَتَّى صَارَ هَاِربُهُمْ

إذَا رَأى غَيْرَ شَيْءٍ َظنَّهُ رَجُلاَ

أفتعلم مرئيا يتناوله النظر لا يقع عليه اسم شيء؟

ومن المؤكد أن المتنبي لا يقصد بغير شيء ما هو معدوم، بل يريد غير شيء يعبأ به. ويقصد أنه لشدة خوفهم مما حل بهم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فلم يجدوا مفرًا ولا مهربًا، وصار الهارب منهم إذا رأى ما ليس شيئًا، خاله إنسانًا يطلبه، وهاته هي عادة الفار الجبان.

قال الناقد محمد مندور: “والبيت الثاني بيت قوي صادق معبر، وهل بلغ في تصوير الرعب الذي أخذ بقلب الهارب من أن يرى “غير شيء رجلا”، وغير شيء هي فيما يظهر اللفظة التي نفرت الحاتمي…ولكنها الرغبة في المغالطة والتجريح هي التي دفعته إلى أن يستنكر تسمية الشبح بغير شيء. ولو صح نقد الحاتمي لوجب أن يحذف اللفظ “شبح” من اللغة، فهو شيء يرى وهو غير شيء.

وقال الأستاذ مصطفى هدارة :”وليس من شك في تحيز الحاتمي الواضح في هذه الرسالة”.

وقال الأستاذ محمود السمرة :”وفي هذا دلالة على أنه نقد مبعثه الحقد، فهو بهذا بعيد عن الموضوعية.

وقال الأستاذ عبد العزيز الحناوي :”وما دامت العداوة كانت قائمة بين الحاتمي الحاقد، والمدفوع سياسيا، وبين المتنبي، فلا نطمئن كثيرًا إلى نقد يصدر عنه ضد المتنبي، ولتشبعه بالحقد والحنق، حيث إن أحكامه حينئذ ستكون بعيدة عن روح العلم، مجافية لحيدة النقد” .

ويضحُ من كل ما سبق أن (الرسالة الموضحة) تشبه إلى حد كبير رسالة الصاحب ابن عباد: (الكشف عن مساوئ المتنبي)، من حيثيات كثيرة، مثل اجتماعهما على بغض أبي الطيب، وانسياقهما وراء الوزير المهلبي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ما أجمل هذه الوقفة التي أماطت اللثام عن نقدٍ تنكر لجوهر الشعر، وانحاز لغرضٍ شخصي مغلّف بالعلم! قراءتكم أنصفت المتنبي، لا بانبهار، بل بتبصّر، وجعلتنا نرى الرسالة الموضحة في ضوءٍ أقل ضجيجًا وأكثر صدقًا.
    دمتم قلمًا بصيرًا وميزانًا منصفًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى