مقالات

بين العامية والفصحى (24)    د. أحمد الزبيدي         –         الإمارات 

"أباطيل وأسمار " (2) منهج التأويل الحداثي

د. أحمد الزبيدي

قال شيخ المعرة رحمه الله:

هل صَحَّ قَولٌ مِنَ الحاكي فَنَقبَلَهُ

أَم كُلُّ ذاكَ أَباطيلٌ وَأَسمارُ

أَمّا العُقولُ فَآلَت أَنَّهُ كَذِبٌ

وَالعَقلُ غَرسٌ لَهُ بِالصِدقِ أَثمار

ليس حسناً، بل معيباً أن يتخذ كاتب قلمه أداةً لخداع “العوام” عن عقولهم والتغرير بهم، ولكن هكذا كان! فإن محمد شحرور انتحل لفظ المنهج وأجرى قلمه فيه ليخادع أنصاف المتعلمين، ويغافل أنصاف المثقفين فيما يظن ويتوهم أنه نجح في تحقيقه، فقد زعم أنه سيسلك في كتابه (الكتاب والقرآن) منهج التأويل ولكن؛ دون أن يفسر مراده من كلمة المنهج.

 وإذا كان شحرور قد قصر في ذلك -غفلة أو جهلاً – فإنا نرى من الواجب علينا توضيحه وبيانه، ففي العقود الأخيرة ظهرت على الساحة الثقافية العربية دعوى -ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب- وهي ما يسمى بالقراءة المعاصرة لنصوص الوحيين؛ (القرآن الكريم والسنة النبوية)، علما بأن هذه الدعوى -في حقيقتها- تُعدُّ من تجلّيات الحداثة الغربية، فمناهجها، وطرائقها، بل جلَّ أفكارها سُلخت من الحضارة الغربية، فكثيرٌ ممَّا نسمع، وكثيرٌ مما ونقرأ، وكثيرٌ مما نرى يُعدُّ في حقيقته اجترار لما لاكته الألسنة في دوائر المستشرقين في العدوة الأخرى.

ومع قليل من البحث، ونزر يسير من التدبر والتفكر نجد هذا المنهج يؤسس لفهمٍ جديدٍ لقراءة الوَحْيَيْنْ، ومن ثم إحداث فصام معرفي ومنهجي نكدْ مع قواعد اللغة؛ من نحو وصرف، وبلاغة وغير ذلك، وقواعد تفسير النصوص؛ أدوات ووسائل تعين على فهم النصوص وتبيينها .

على أن للمنهج آليات في التفسير، أهمها :

  • التاريخية:

يعتمدُ الحداثيون ولا سيما محمد شحرور طريقة التاريخية في التفكير، وهي تقوم على إضفاء النسبية الزمنية على الحقيقة، وربطها بتاريخها وزمنها، نافية تعميم الحقائق، أو ديمومتها، أو إطلاقها. ويشمل هذا الحكم كلِّ ألوان الحقائق، ولا سيما الحقائق الدينية، فالتاريخ-في زعمهم- هو من يحدِّد الحقيقة، والمعرفة الحقيقية هي التي تخضع للظروف التاريخية.

وعلى زعمهم هذا؛ يكون القرآن محكومًا بتاريخية النص ، فهو خاصٌّ بزمن معين، ووقف عليه، ورهين به،  وحاص ببيئة معينة، فهو ابنها ووليدها، وهو فوق ذلك خطابٌ ملزم لتلك المرحلة وغير ملزم لما بعدها؛ فمعاني الألفاظ تتغيَّر بتغيُّر الظروف، وبالتالي لابدَّ من إخضاعها لهذا الواقع المتغيِّر حتَّى تتناسب مع متطلَّباته، وهذا التصوُّر نتج عنه اعتبار القرآن الكريم مُنتجاً ثقافياً إنسانياً يعبِّر عن لغة الإنسان وثقافته وكينونته ، لأنَّ الواقع والثقافة واللغة هي التي أنتجته، أي أنَّ النصَّ تابعٌ للواقع ومنبثقٌ عنه، وبالتالي فهو نصٌّ تاريخيٌّ كسائر النصوص البشرية التي تخضع للواقع تغيرا وثباتا .

ولعل أكثر من روج لهذه الفكرة الخبيثة محمد آركون، ونصر حامد أبي زيد، على أن شحرور طبقها في كتبه وأحكامه كما سنرى.

  • الهرمنيوطيقا:

الهرمنيوطيقا،أو علم التأويل، أو علم التخريج، هي المدرسة الفلسفية التي تشير لتطور دراسة نظريات فهم النصوص وتفسيرها في فقه اللغة، واللاهوت، والنقد الأدبي. ويستخدم هذا المصطلح في الدراسات الدينية للدلالة على دراستها وتفسيرها.

ويراد به التأويل الذاتي دون الرجوع للضوابط المعروفة والاحتكام إلى القواعد المرعية، مع مراعاة أسس قراءة النصوص الدينية والأدبية، وهي:

  • تعدد القراءات المحتملة والمختلفة للنص، فلا وجود لقراءةٍ وحيدة، صحيحة، مطلقة للنصّ؛ لأنَّها في الأساس قراءةٌ شَكِّيَّة يتوصل ويتوسل بها إلى الحقيقة.

  • كذا القول بموت المؤلف وانتهاء دوره بكتابة النصّ، حيث تبدأ مهمَّة القارئ في التكهن بالمعاني دون حاجةٍ للرجوع إلى المؤلف وغايته من وراء نصِّه.

  • كذا إلغاء مفاصد النص، وهي نتيجةٌ حتميَّةٌ لموت المؤلِّف فوجوده يعني وجودها ، وموته هو موتها.

وهذا سيفضي حتماً إلى انفتاح النصِّ أمام لا نهائية ومحدودية الدلالة.

  • التناص: حيث يتألَّف النصُّ من مجموعة كتاباتٍ متعدِّدة الثقافات، فهو عبارة عن شبكةٌ من النصوص ، فالمؤلِّف يتأثَّر في كتابته لنصه بنصوصٍ أخرى نشأت في بيئته، وحين يقرأ القارئ يستحضر نصوصاً أخرى تختلف عن بيئة المؤلف.

  • الفراغ: وهو الكشف عن المعنى الذي لا تبوح به السطور، فهو ليس معنىً ظاهراً للنص؛ بل يفترضه ويتخيله القارئ.

وبناءً عليه فإنَّ التأويل الحداثي يقوم على التعدُّد، ويبنى على الاتساع في اللفظ، ويقوم على فُيوضات المعنى، لذلك فإنه يتعذر على التأويل أن يكون نهائياً، فالنص دائمُ النبض، وزاخرٌ بالعطاء؛ من توليد المعاني، وتكثير الدلالات، ولا حدَّ لمعرفة حقيقته، لأنَّ المعنى في بطن القارئ لا ما يشي به النصّ، فيكون النصُّ بذلك مفتوحاً لا يمكن تقييده.

  • الأنسنة:

تقوم الأنسنة على مبدأ أنَّ الإنسان هو مركز الأشياء ومحورها، وقد أخذت دوراً أساسياً في القراءة الحداثية للقرآن الكريم، وذلك بإخضاع النصّ لفهم القارئ، فالحقيقة هي ما يراه القارئ لا ما يفرضه النص، إذ لا وجود لمعرفةٍ مطلقةٍ ، وبالتالي تقوم الأنسنة على تحلل الإنسان من المرجعيات المقدَّسة، لتجل منه هو المرجع والمنتجُ للحقيقة معَا.

 وهذا الموقف في حقيقته يسلب حق فهم النص من الخطاب في المرادات الربانية، ويمنحه إلى المرادات الإنسانية !

وثم خطأ منهجي قاتل وقع به أصحاب الفكر الحداثي؛ عندما عدلوا بين نصوص الوحي الإلهي والنصوص الأدبية البشرية. ذلك لأنَّ هذه النصوص لها مناهجها في التفسير والتأويل.

ولعلَّ من أهمِّ التناقضات التي وقع فيها أصحاب الفكر الحداثيُّ؛ ومنهم “محمد شحرور” أنَّه بنى مشروعه في قراءته على استحالة استحضار الماضي بقوانينه المعرفية وقواعده المنهجية لقراءة الحاضر بحسب منطق التاريخية، ليكرَّ على الماضي فيقرأه وفق قوانين وأدوات الحاضر المعرفية، وبناءً على هذه القاعدة لا يمكن إخضاع النصَّ إلى مناهج معاصرة ما دمنا نرفض فهمه وتفسيره وفق القواعد المقررة.

يَضحُ من خلال ما سبق أنَّ القراءة الحداثية لنصوص الوحي جعلت التأويل هو الأصل بغض النظر عن كون النصوص قطعيَّة الدلالة، أو ظنيَّة الدلالة، متجاهلة بذلك أنَّ الأصل هو الأخذ بالظاهر، ولا يُلجأ إلى التأويل إلَّا عند الاستشكال.

فكلمة (النساء) في قوله تعالى (زُيّن للناس حبُ الشهوات من النساء والبنين) في تفسير محمد شحرور هي المستحدثات من الأمور (أو الموضة) فالجذر اللغوي (نسأ)، والمرأة التي يتأخر حيضها يقال لها (نسيء) وجمعُها (نساء).. فتحصل له أن معنى (النّساء) هو كلّ ما تأخر زمنُه، وما تأخر زمنُه هو (الموضة). وكلمة (بنين) معناها (الأبنية) لأن فعلَ (أبَنّ) بالمكان بمعنى (أقام فيه) وأن (بنين) جذرها (بَنَن) الذي من معانيه الإقامة والإقامة تكون في المنازل التي هي الأبنية إذاً ف(البنون هي الأبنية).

ويزعم محمد أركون-وهو من رؤوس أصحاب هذا المنهج-  أن الإسلام شهد الأنسنة قبل أن تشهدها أوروبا في القرن السادس عشر؛ إبان عصر النهضة، ولكن هذه الحركة الناتجة عن مزج الفلسفة الإغريقية بالدين الإسلامي أجهضت ولم تدم طويلا، وحل محلها قرون المدرسانية منذ القرن الثالث عشر في حين ظلت الأنسنة أو النهضوية الأوروبية مستمرة وصاعدة منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم، وهذ النص على وجازته ؛ حوى من التناقض، والتعارض، والكذب، والادعاء، والمغالطات ما لو أردنا رده وبيانه لاحتجنا إلى مقال آخر !.

سنرى في المقال الآتي كيف تورط شحرور في تطبيق المنهج على القرآن والسنة والفقه كما هو الحال عند غيره ممن شاركه في هذا الاتجاه، وسنرى كيفية الرد عليهم، من خلال نقض آرائهم وتفنيد أفكارهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. مقال مهم جدًا يفتح أعيننا على خطورة بعض المفاهيم التي تُطرح باسم الحداثة والتأويل، لكنها في الحقيقة تبتعد عن روح النصوص الدينية ومقاصدها.
    شكرًا للدكتور أحمد الزبيدي على هذا التوضيح القيم، وعلى أسلوبه السلس والمقنع في كشف هذه الانحرافات الفكرية.

  2. تحياتي واحترامي وان النص عندما وضع له غاية محددة من واضعه وصيرورة موضوعة عن قصد له ولا اعتقد ان هناك عاقل يقول ان المبدع ليس هذا مساره والا كان مرهصا مريضا .والله عز وجل الحكيم الذي وضع ذلك في اللوح المحفوظ ليبقى ديدن البشر اي ان القصد موجود قبل النص والله هو الواضع تلك الشريعة في كل زمان ومكان وله حكمة بليغة في ذلك تخفى عن الكثيرين المتبجحين بالمعرفة .مقال مدروس بعناية دكتور احمد الزبيدي وانت الباحث المتأني الذي تعرف مواضع الكلام مع الحب والتحية والاحترام والتقدير لشخصك الكريم ولكتاباتك الذكية التي تنم عن دراية بالامور ومحاكمتها .تحياتي
    مهند الشريف

  3. و الله يا سيدي الكريم احسنتم باظهار أن ما يجتره هؤلاء النوابت من افكار إنما هي مأخوذة من مواعين الغرب ، فإن معظم انبهار الغرر من الناس بهم انما هو لتوهمهم أن هؤلاء على قدر من الذكاء حتى يأتوا بما لم تأت به الأوائل فظن البعض انهم يستمعون منهم إلى شيء جديد لم يقل من قبل، و لو انتبه الناس إلى هذه الحقيقة و هي انهم يجترون ما اكله غيرهم لكسدت بضاعتهم و ما التفت اليهم احد و لا حتى الاطفال فكريا.
    الدين منصور منتصر و لن يشادَّ هذا الدين أحد إلا غلبه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى