مقالات

الصمت كاستراتيجية مقاومة في أدب المرأة د. قاسم محمدكوفحي – الإمارات

د. قاسم محمدكوفحي

غالبًا ما يُساء فهم الصمت في أدب المرأة بوصفه رمزًا للاضطهاد، وفراغًا تغيب فيه الفاعلية النسوية. إلا أن قراءة أكثر تدقيقًا تكشف أن الصمت قد يكون استراتيجية سردية متعمدة، وشكلًا من أشكال المقاومة للقيود الأبوية. فمن خلال استعادة الصمت وتملّكه، تُحوّل الكاتبات هذا العنصر إلى أداة للتمكين، تقوّض ديناميكيات السلطة التقليدية، وتحافظ على الاستقلالية الذاتية. تهدف هذه المقالة إلى استكشاف كيفية توظيف الصمت بوصفه جهازًا سرديًا ووسيلة للفاعلية، متحدّية بذلك الافتراض القائل إن الصوت وحده يرمز إلى التحرر.

في رواية “قصة الخادمة”( The Handmaid’s Tale) لمارغريت أتوود (Margaret Atwood )، يتجلى التناقض بين المونولوج الداخلي للشخصية الرئيسية أوفريد(Offred) وصمتها المفروض خارجيًا. تسعى منظومة غيلياد(Gilead’s regime )إلى محو فرديتها، غير أن تأملاتها الصامتة – وخصوصًا ذكرياتها عن ابنتها وحياتها السابقة – تشكّل فعلًا من أفعال التمرّد. توظّف أتوود السرد بضمير المتكلم لتُبرز التباين بين خضوع أوفريد العلني وتمردها الداخلي. أفكارها غير المعلنة، مثل استحضار اسم لوك(Luke) أو لقاءاتها السرية بالقائد، تحفظ لها هويتها، وتبرهن على أن الصمت قد يكون درعًا يحمي الذات من التلاشي.

وبالمثل،تُبرز تقنيات السرد، مثل اليوميات في “ورق الحائط الأصفر ” (The Yellow Wallpaper ) للكاتبة شارلوت بيركنز غيلمان (Charlotte Perkins Gilman )، والسرد المجزأ في “محبوبة” (Beloved ) للكاتبة توني موريسون –( Toni Morrison) كيف يمكن للصمت أن يفرض تفاعلًا أعمق مع القارئ. تخاطب بطلة غيلمان يومياتها إلى “أنت” متخيلة، مما يخلق حميمية تتناقض مع عزلتها، بينما يجبر انقطاع يومياتها المفاجئ القارئ على مواجهة رعب مصيرها. ويعكس البناء الزمني المتقطع في رواية موريسون التشظي النفسي لشخصية سيث (Sethe)، مما يدفع القارئ إلى المشاركة في إعادة بناء سرديتها، وبذلك ينخرط في كسر الصمت بشكل تفاعلي. تكشف هذه الأساليب السردية عن الصمت بوصفه فضاءً للحقائق غير المنطوقة، حيث يُضفي ما يتم إغفاله وزنًا ومعنى عميقًا.

إن بعض المنظّرات النسويات، مثل إلين شووالتر (Elaine Showalter)، يرين أن أدب المرأة يستخدم “خطابًا ذا صوتين” يخفي التمرد وراء الامتثال الظاهري. وتدعم نظرية ميشيل فوكو (Michel Foucault) عن المقاومة داخل السلطة هذا الطرح، مبينة كيف يخترق الصمت السرديات المهيمنة. ورغم أن الصمت يُعدّ أحيانًا إعادة إنتاج للتهميش، إلا أنه قد يكون أداة استراتيجية. توضح أودري لورد (Audre Lorde) هذا التعقيد من خلال شخصيات أدبية مثل “سيث” (Sethe)، التي يمنحها الصمت حماية مؤقتة حتى تختار الكلام، ما يجعل المسألة مسألة اختيار بين الكتمان والبوح كأشكال للفاعلية.

أما في الأدب العربي المعاصر، فإن الصمت يمنح في كثير من كتابات النساء العربيات مجالًا لإعادة تعريف الذات خارج الأطر المفروضة. فعلى سبيل المثال، في رواية “ذاكرة الجسد” لأحلام مستغانمي، نجد أن البطلة تمارس صمتها كوسيلة للحفاظ على كيانها الداخلي. إنها ترفض الإفصاح عن مشاعرها وتاريخها بلغة مباشرة، وتلجأ بدلاً من ذلك إلى سرد مجزأ، يحيل القارئ إلى تأمل ما لا يُقال بقدر ما يُقال. إن هذا الصمت يصبح بمثابة حقل مقاومة رمزي، يعبّر عن الوعي النسوي المتنامي والرغبة في التفلت من الأنماط السردية التقليدية.

في بعض الكتابات النسوية العربية، يتحوّل الصمت إلى مرآة لذاكرة نسوية جمعيّة، حيث تُختزن تجارب العنف، والقهر، والخسارات الشخصية في فجوات النصوص. الكاتبة هدى بركات، على سبيل المثال، تُجسّد في رواياتها نساءً يتحدّثن بصمت، وينسجن حيواتهن الهشّة من تفاصيل غير منطوقة. هذه اللغة الصامتة، المموّهة، تُقاوم السرد البطولي أو السياسي الذي طالما غيّب تجارب النساء أو صوّرهن كضحايا. إنها تكتب عبر الصمت، وتُعلن من خلاله انتماءها إلى سرديّة بديلة

إن الصمت في أدب المرأة ليس غيابًا سلبيًا، بل هو شكل مقاومة ديناميكي ومركّب ومتعمّد، يقوّض الربط التقليدي بين الصمت والخضوع أو المحو. وبدلاً من اعتباره رمزًا للتهميش، تعيد الكاتبات الحديثات والكلاسيكيات تقديم الصمت كفعل تمكين وفاعلية.

وتتجلّى أشكال هذه المقاومة في صور عدة، منها الامتناع عن الكلام داخل أنظمة أبوية تُملي على النساء كيف يتحدثن، أو حوارات داخلية تُشكّل فضاءً خاصًا للمعرفة الذاتية والبقاء. في “ورق الحائط الأصفر” للكاتبة شارلوت بيركنز غيلمان ، يصبح الصمت نقدًا للأنظمة الطبية والزواجية التي تُقيّد جسد المرأة وعقلها. وفي “محبوبة” (Beloved) للكاتبة توني موريسون (Toni Morrison)، يتحوّل صمت ما بعد العبودية إلى آلية للتأقلم وصدى جماعي لذاكرة مهدورة. أما في “قصة الخادمة ” للكاتبة مارغريت أتوود (Margaret Atwood)، فيُظهر الصمت، رغم كونه مفروضًا من الخارج، قدرة داخلية على المقاومة والتذكّر.

وبتوجيه النظر إلى ما يتم تجاهله أو إخفاؤه ، تدعو هذه النصوص القارئ إلى تفحّص الفجوات النصّية، وتفكيك الصمت المجتمعي الذي يعكسه النص. لا يعود الصمت فراغًا، بل يتحوّل إلى فضاء بلاغي مشحون بالدلالات العاطفية والسياسية.

وعليه، حين يُوظّف الصمت في أدب المرأة لا بوصفه خضوعًا بل كحجبٍ مقصود، يُعاد تشكيل خطاب السلطة. إنه تذكير بأن المقاومة لا تأتي دائمًا بصوت مرتفع أو مواجهة علنية – بل قد تكمن في الرفض الهادئ، والانحراف السردي الخفي، والحقائق المتمتمة التي يتردد صداها بأعلى من أي صراخ. ففي المساحات الصامتة بين الكلمات، يهمس أدب المرأة بالتمرّد، مقدّمًا تصورًا عميقًا لوكالة المرأة، وهويتها، وقدرتها على التحوّل.

وتتجلى أشكال هذه المقاومة في صور عدة، منها الامتناع عن الكلام داخل أنظمة أبوية تُملي على النساء كيف يتحدثن، أو حوارات داخلية تُشكّل فضاءً خاصًا للمعرفة الذاتية والبقاء. في “ورق الحائط الأصفر” للكاتبة شارلوت بيركنز غيلمان، على سبيل المقال،  يصبح الصمت نقدًا للأنظمة الطبية والزواجية التي تُقيد جسد المرأة وعقلها. وفي “محبوبة” للكاتبة توني موريسون) (Toni Morrison ، يتحوّل صمت ما بعد العبودية إلى آلية للتأقلم وصدى جماعي لذاكرة مهدورة. أما في “قصة الخادمة” للكاتبة مارغريت أتوود(Margaret Atwood) ، فيُظهر الصمت، رغم كونه مفروضًا من الخارج، قدرة داخلية على المقاومة والتذكّر.

وعليه، حين يُوظّف الصمت في أدب المرأة لا بوصفه خضوعًا، بل كحجبٍ مقصود، يُعاد تشكيل خطاب السلطة. إنه تذكير بأن المقاومة لا تأتي دائمًا بصوت مرتفع أو مواجهة علنية — بل قد تكمن في الرفض الهادئ، والانحراف السردي الخفي، والحقائق المتمتمة التي يتردد صداها بأعلى من أي صراخ. ففي المساحات الصامتة بين الكلمات، يهمس أدب المرأة بالتمرّد، مقدّمًا تصورًا عميقًا لوكالة المرأة، وهويتها، وقدرتها على التحوّل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى