هذه سلسلة مباركة من حلقات نتناول فيها ردود الإمام فخر الدين الرازي على فرقة “المعتزلة”؛ وهي فرقة لا تزال أفكارها حية، ويعمل أصحابها على إحيائها، وإزالة الغبار والأتربة عن جذورها، ثم الدعوة والانتساب إليها. ومما يصدق ذلك؛ انني رأيت لها عددًا من المواقع الحية على الشبكة العنكبوتية مثل: “موقع المعتزلة”، و”موقع أنساق”، و”ملتقى الفكر الاعتزالي المعاصر”. وقد لفتني -منذ أمد طويل إبان مدارستي كتب الإمام الفخر الرازي؛ (تأسيس التقديس)، و(اعتقادات فرق المسلمين والمشركين)، و(ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين)، و(معالم أصول الدين)، و(الأربعين في أصول الدين)، و(المطالب العالية)، و(مفاتيح الغيب)- اهتمام الفخر الرازي) بعرض أفكارهم كما هي، ثم الرد عليهم، وكتابه (مفاتيح الغيب) – في ظني- قد حوى غالب أفكارهم كفرقة، وغالب أفكار أعلامهم البارزين، فقد ذكرهم جميعًا في كل ما يعرض له من حديث عن العقيدة، والأحكام الفقهية، وأحيانا بعض المسائل اللغوية والنحوية.
وإذا كان التفسير الكبير يعنى بتفسير القرآن الكريم كله، والقرآن لا تخلو منه صفحة واحدة من الحديث عن شيء من العقائد أو الأحكام، فإن الرازي لا يفتأ يناقشهم ويرد عليهم على امتداد صفحات الكتاب (مفاتيح الغيب)، فهو يذكُرهم كفرقة حوالي (655) مرة، ويناقشهم في مسائل عدة، مثل: مسألة الاسم والمسمى لغويا وعقديا، ويناقشهم في مسألة الأسماء والصفات؛ حيث يقرر ما يثبتونه من أسماء وما يقررون كضابط فيما يثبتونه للباري عز وجل من ذلك. كذلك يحاور أعلامهم فرادى؛ فيذكر واصل بن عطاء (ت131 هـ) الغزّال، أبو حذيفة، وهو من موالي بني ضبة أو بني مخزوم: رأس المعتزلة ومن أئمة البلغاء والمتكلمين.
ويذكر عمرو بن عبيد(ت 144 ه) ، أبو عثمان البصري: شيخ المعتزلة في عصره، ومفتيها، وأحد الزهاد المشهورين.
ويذكر النظّام (ت231 هـ)، إبراهيم بن سيّار بن هانئ البصري، أبو إسحاق: من أئمة المعتزلة، قال الجاحظ: (الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له، فان صح ذلك فأبو إسحاق من أولئك) تبحَّرَ في علوم الفلسفة واطلع على أكثر ما كتبه رجالها من طبيعيين وإلهيين، وانفرد بآراء خاصة تابعته فيها فرقة من المعتزلة سميت (النظامية) نسبة إليه. أما شهرته بالنظام فأشياعه يقولون إنها من إجادته نظم الكلام، وخصومه يقولون انه كان ينظم الخرز في سوق البصرة، وفي كتاب (الفرق بين الفرق) أن النظَّام عاشر في زمان شبابه قومًا من الثنوية وقومًا من السمنية وخالط ملاحدة الفلاسفة وأخذ عن الجميع.
ويذكر الجُبّائي(ت 303 هـ) محمد بن عبد الوهاب بن سلام أبو علي: من أئمة المعتزلة. ورئيس علماء الكلام في عصره. وإليه نسبة الطائفة (الجبائية)، له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب. نسبته إلى جبى (من قرى البصرة) اشتهر في البصرة، ودفن بجبى. له (تفسير) حافل مطول، ردّ عليه الأشعري.
ويذكر قاضي القضاة عبد الجبار (ت 415 هـ) )الهمذاني الاسد أبادي، أبو الحسين: قاضٍ، أصولي. كان شيخ المعتزلة في عصره. وهم يلقبونه قاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره، ولي القضاء بالريّ، ومات فيها، له تصانيف كثيرة أشهرها: (تنزيه القرآن عن المطاعن)، و(المغني في أبواب التوحيد والعدل)،و (شرح الأصول الخمسة).
أما الزمخشري (ت538 هـ) (فهو أسعدهم حظًا باهتمام الرازي واحترامه ومناقشته، وقد تحدثنا عن شيء من ذلك في المقالات السابقة تحت عنوان (بدع التفاسير).
ويذكر محمد بن بحر الأصفهاني، أبو مسلم (ت322 هـ): والٍ، من أهل أصفهان.. من كبار الكتاب المعتزلة. كان عالمًا بالتفسير وبغيره من صنوف العلم، وله شعر. ولي أصفهان وبلاد فارس، للمقتدر العباسي، واستمر إلى أن دخل ابن بويه أصفهان سنة 321 هـ فعزل، و من كتبه (جامع التأويل) في التفسير، أربعة عشر مجلدًا، جمع سعيد الأنصاري الهندي نصوصا منه وردت في (مفاتيح الغيب) وسماها (ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل) في جزء صغير.
ويذكر كذلك أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ (ت436 هـ) محمد بن علي الطيب، أبو الحسين: أحد أئمة المعتزلة. ولد في البصرة وسكن بغداد وتوفي بها. قال الخطيب البغدادي: (له تصانيف وشهرة بالذكاء والديانة على بدعته) . من كتبه (المعتمد في أصول الفقه) جزان، و (تصفح الأدلة) و (غرر الأدلة) و (شرح الأصول الخمسة) كلها في الأصول، وكتاب في (الإمامة) .
ويذكر الكعبي (ت 319 هـ)، عبد الله بن أحمد بن محمود ، من بني كعب، البلخي الخراساني، أبو القاسم: أحد أئمة المعتزلة. كان رأس طائفة منهم تسمى ” الكعبية ” وله آراء ومقالات في الكلام انفرد بها. وهو من أهل بلخ، أقام ببغداد مدة طويلة، وتوفي ببلخ. له كتب، منها “التفسير” و “تأييد مقالة أبي الهذيل -هذا سنفرده ببحث خاص- حتى إذا ذكر رؤوس المعتزلة وأئمتهم؛ ذكر كلامًاً اعتزاليًا ونسبه إلى القاضي، ولم يذكر اسمه، وقد حار العلماء قديمًا وحديثًا فيمن هو مقصود الرازي بالقاضي، واختلفت الآراء، وقد استعنت الله سبحانه على كتابة بحث خاص بهذا الموضوع استقرأت فيه وتتبعت كلمة القاضي من تفسير الرازي حتى ترجح لدي من هو المقصود.
وفي الجملة فإن الرازي لا يترك عَلمًا من أعلام المعتزلة له رأي يؤبه به، وقول يؤخذ عنه إلا ذكره وناقشه، ورد عليه، وهذا يعطينا انطباعًا بأن المعتزلة كان لهم أثر كبير في عصر الفخر الرازي، وكان لهم سلطان؛ فكري، وسياسي، وأن الرازي كان على دراية تامة بمذهبهم، بل بمذاهبهم كلها، وكان يعرف مداخلهم ومخارجهم ونقاط ضعفهم، وكان رحمه الله من العدل والإنصاف والمعرفة أنه يأوي إلى ركن شديد، ورأي سديد، يصحح ما كان صحيحًا، ويزيف ما كان زائفًا. هذا عذر الرازي في مناقشته المعتزلة، وأما عذري أنا في طرح هذا الموضوع فألخصه في أمور:
أنني منذ مدة أعمل على تهذيب مفاتيح الغيب، وأعمل على رد قالة السوء عنه التي انتشرت على لسان الشيخ ابن تيمية -رحمه الله -:”فيه كل شيء إلا التفسير، لأثبت العكس:”فيه كل شيء وفي التفسير” وهذا البحث منه.
إن كثيرًا من مظاهر الانحراف عن الدين الإسلامي تعود إلى سوء فهم لأسسه الاعتقادية.
وجدتُ في “تفسير الرازي” خزانة علم تزخر بالردود والتفنيد على كثير من الملل والنحل، لا سيما فرقة “المعتزلة”، وفرقة “الكرامية” (المجسمة) مع الفارق الكبير بين الفرقتين،فإن فرقة المعتزلة على عكس ما يشاع عنها، فهي فرقة إسلامية صرفة لها أياد بيضاء وقدم صدق في الدفاع عن مفاهيم الإسلام، ولم اجد في الثقاة من أئمة المسلمين من حكم عليها بالكفر، وإن كانوا إنما يتحدثون عنها ويعرفون بها ، والتحذير من الوقوع في أخطائها.
ومستند الأئمة في ذلك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة”. وقد وردت بذلك أحاديث صحيحة كثير بلغت مبلغ التواتر المعنوي.
من ذلك ما رواه الشيخان من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: “من لقي الله لا يشرك به شيئًا حرمت عليه النار”. زاد البخاري: “صادقًا من قلبه”.