مقالات

وقفات مع المتنبي (35)      د. أحمد الزبيدي         –         الإمارات

 شعره وأقوال العرب في حب الكتاب

د. أحمد الزبيدي

   قال أبو الطيب المتنبي في “معجز أحمد” (ص 403):

أَعَزُّ مَكَانٍ فِي الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ

وَخَيْرُ جَلِيْسٍ فِي الزَّمَانِ كِتَابُ

الدنى: جمع الدنيا، جعل كل مكان فيها دنيا، ثم جمعه. يقول: أعز مكان في الدنيا سرج فرس سابح، لأن الشجاع إذا ركبه امتنع، وخير جليس في الزمان كتاب؛ لأنك لا تخشى غوائله ويؤدبك بآدابه، ويؤنسك عند الوحشة بحكمه.

ويقول الواحدي: ” جعل السرج أعز مكان لأنه يسافر عليه؛ فيطلب المعالي، أو يهرب من الضيم واحتمال الذل، أو يحارب عدوا يدفع عن نفسه شرّه، وجعل الكتاب خير جليس لأنه يأمن شره ولا يحتاج في مجالسته إلى مؤونة، والكتاب يقصُّ عليه أنباء الماضين، فهو خير جليس.

وللعرب قبل الإسلام عناية خاصة بالخيل؛ لما لها من أثر كبير في حياتهم؛ حيث جعلوها كفرد من أفراد العائلة، ولكمال تعظيمهم لها ميزوا بينها بالأسماء: قال ابن منظور فِي أَساميها: “هُوَ السابِقُ، والمُصَلِّي، والمُسَلِّي، والمُجَلِّي، وَالتَّالِي، والعَاطِفُ، والحَظِيُّ، والمؤَمَّلُّ، واللَّطِيمُ، والسِّكِّيتُ. قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: لَا يُعرف مِنْهَا إِلَّا السَّابِقُ والمصلِّي ثُمَّ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ إِلَى الْعَاشِرِ، وَآخِرُهَا السكِّيت والفِسْكل

وجاء الإسلام فأعطاها قيمة أكبر، فحث على الاهتمام بها، وجاءت لفظة الخيل في خمس سور من القرآن الكريم؛ آل عمران، والأنفال، والنحل، والإسراء، والحشر، وأما السُنَّة فقد أوصت بتكريمها والحفاظ عليها، وحثت على ارتباطها طمعاً في الخير والبركة ، ونهت عن امتهانها وجز نواصيها.

وفي الجاهلية كانوا يتمنون إذا ماتوا أن يموتوا على سرج سابح. أتى عامر بن الطفيل أحد شجعان العرب، هو وأربد بن قيس يريدان اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، فحماه الله منهم، فلما ولى عامر قال صلى الله عليه وسلم: {اللهم اكفنيهم بما شئت} فدخل عامر بيت عجوز سلولية, فأصيب بغدة في نحره كالثدي ، فعرف أنه الموت، فأخذ سيفه وصعد على ظهر الفرس، وقال: غدة كغدة البعير في بيت امرأة سلولية، لا أموت إلا على الفرس.

 قال أحد الشعراء يصف الخيل في السباق:

ترى ذا السبق والمسبوق منها

كما بسطت أناملها اليدان

وقد افتخروا بنشأتهم على ظهور الخيل فقالوا:

كأنهم في ظهور الخيل نبت ربى

 من شدة الحزم لا من شدة الحزم

ومن فرط محبتهم لها درسوا أعضاءها، وشياتها، وأطوار حياتها، وطباعها، وألوانها، وفصائلها، وتناسلها، وألفوا في ذلك الكتب مثل (جر الذيل في علم الخيل)للإمام السيوطي(ت 911ه)، وكتاب (الحلبة في أسماء الخيل المشهورة في الجاهلية والإسلام)، لمحمد بن علي بن كامل الصاحبي التاجي (المتوفى: بعد 677هـ)، وكتاب (الخيل) لأبي عبيدة معمر بن المثنى (المتوفى: 209هـ)، وكتاب (أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها)، لابن بشر الكلبي (المتوفى: 204هـ) ، وغيرها الكثير.

   وقد أقسم الحق تبارك وتعالى بها فقال : (والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغريات صبحا، فأثرن به نقعا، فوسطن به جمعا)، وليس بعجيب أن يأمر النبي أمته بتربيتها وإعدادها للجهاد لا اتخاذها زينة وتفاخرًا وتكاثرًا بين الناس.

قال بزرجمهر: يا ليت شعري أي شيء أدرك من فاته الأدب، أم أي شيء فات من أدرك الأدب ومادته من الكتب!.

أهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفتراً وكتب له: هديتي هذه، أعزك الله، تزكو عن الإنفاق، وتربو على الكد، لا تفسدها العوادي ولا تخلقها كثرة التقليب، وهي أُنسٌ في الليل والنهار والسفر والحضر، تصلح للدنيا والآخرة، تؤنس في الخلوة وتمتع في الوحدة، مسامرٌ مساعدٌ ومحدثٌ مطواع ونديمٌ صديق.

قال أبو عثمان الجاحظ : الكتاب نعم الذخر والعقدة والجليس والعمدة، ونعم النشرة، ونعم النزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل والزميل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء مليء علماً، وظرف حشي طرفاً، وإناء شحن مزاجاً؛ إن إن شئت كان أعيى من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سُجبان وائل، وإن شئت سرتك نوادره وشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ مثله! ومن لك بشي يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغث والسمين والشكل وخلافة والجنس وضده.

قال الطرطوشي في (سراج الملوك) : وإن كان الناطقون قد وصفوا فجودوا وقالوا فأبلغوا، فلقد قصروا، كيف لا والكتاب نعم الجليس في ساعة الوحدة، ونعم المعرفة في بلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل، وعاء مليء علماً، وظرف حشا ظرفاً، وحبذا بستان يحمل في ردن وروضة تتقلب في حجرة، هل سمعت بشجر تؤتي أكلها كل ساعة بألوان مختلفة وطعوم متباينة؟ وهل سمعت بشجرة لا تذوى وزهر لا يتوى، وثمر لا يفنى؟ ومن جليس يفيدك الشيء وخلافه، والجنس ضده، ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء وأكتم من الأرض، وأنم من الريح وألهى من الهوى، وأخدع من المنى، وأمتع من الضحى، وأنطق من سبحان وائل، وأعيا من باقل، يزيدك ولا يستزيدك، إن جد فيسر، وإن مزح فنزهه، قيد العلوم، وينبوع الحكمة، وسلوى الكرام ومؤنس لا ينام، يفيدك علم الأولين، ويخبرك عن الكثير من أنباء الآخرين، لا يرزاك شيئاً من دنياك، نعم العون والعدة، جليس لا يضرك، ورفيق لا يملك، يطيعك بالليل طاعته بالنهار، ويطيعك في السفر طاعته في الحضر، إن أدمت النظر إليه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك وفخم ألفاظك، إن ألفته خلد على الأيام ذكراك، وأن درسته رفع في الخلق قدرك، وإن حملته نوع عندهم باسمك، يقعد العبيد مقاعد السادة، ويجلس السوقة مجالس الملوك، فأكرم به من صاحب وأعزز بع من مرافق.

قال أبو الفرج ابن الجوزي : فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة.

كما قيل:

فاتَني أن أرَى الدِّيارَ بَطرْفيِ

فلعَلِّي أرى الدِّيارَ بسَمْعيِ

وقال بعضهم: الكتب بساتين العلماء. وقال آخر: الكتاب جليس لا مؤنة له. وقال الفضل بن سهل للمأمون وهو بدمشق بدير مران مشرف على غوطتها: يا أمير المؤمنين هل رأيت في حسنها شبيهاً في شيء من ملك العرب؟ يعني الغوطة. قال: بلى والله، كتاب فيه أدب يجلو الأفهام، ويذكي القلوب، ويؤنس الأنفس أحسن منها.

قال القاضي حسن بن عبد العزيز:

ما تطعمت لذة العيش حتى

صرت في وحدتي لكتبي جليسا

وقال أحدهم:

نِعم المحدِّث والرفيق كتاب

تلهو به إن خانك الأصحاب

لا مفشيا سراً إذا استودعته

 وتُنال منه حكمةٌ وصواب

وقرأ أبو الحسن بن طباطبا العلوي في بعض الكتب: الكتب معقل العقلاء إليها يلجؤون، وبساتينهم فيها يتنزهون، فقال:

إجعل جليسك دفترًا في نشره

للميت من حكم العلوم نثور

ومفيد آداب ومؤنس وحشة

وإذا انفردت فصاحب وسمير

وقال جمال الدين إبراهيم بن القاقشوشي الكتبي في الكتب وأجاد ما أراد:

ورب صحب حووا جمع العلوم رضوا

 بالفقر ليس لهم قوت ولا مال

في الحر والبرد أطمار الجلود لهم

قمص وفخر لهم إذ هن أسمال

سؤالهم بعيون الناس لا بفم

ونطقهم بفم السؤال قوال

كل يراهم ولا يدري بخبرهم

 إلا لبيب له في العلم إيغال

يحيون في العلم ما عاشوا بلا ضجر

 الجد عندهم والمزح أمثال

وربما اختلفت منهم عقائدهم

ولا يرى بينهم قيل ولا قال

فكن مصاحبهم تحيا بلا كدر

ومن سواهم فختَّار وختَّال

فإن علمت بعلمي عشت في دعة

وإن جهلت فجل الناس جهال

وقال عبد الله بن المعز: الكتاب والج للأبواب، جرىء على الحجاب. مفهم لا يقيم، وناطق لا يتكلم، به يشخص المشتاق، ومنه يداوى الفراق.

وقال المعافى بن زكريا: “الكتاب حاضر نفعه، مأمون ضره، ينشط بنشاطك فينبسط إليك، ويمل بملالك فينقبض عنك، إن أدنيته دنا، وإن أنأيته نأى، لا يبغيك شرا، ولا يفشي عليك سرا”.

وقال المأمون: “ولا شيء آثر للنفس، ولا أشرح للصدر، ولا أوفى للعرض، ولا أذكى للقلب، ولا أبسط للسان، ولا اشد للجنان، ولا اكثر وفاقا، ولا اقل خلافا، ولا اكثر عبارة من كتاب؛ تكثر فائدته، وتقل مؤونته، وتسقط غائلته، وتحمد عاقبته، وهو محدث لا يمل، وصامت لا يخل، وجليس لا يتحفظ، ومترجم عن العقول الماضية، والحكم الخالية، والأمم السالفة، يحيي ما اماته الحفظ، ويجدد ما أخلقه الدهر، ويبرز ما حجبنه الغباوة، ويصل إذا قطع الثقة، ويدوم إذا خان الملوك”.

وقال أبو هفان:

 إذا آنَسَ الناسَ ما يجمعونَ

أنِستُ بما يجمعُ الدفترُ

له وطري وله لذَّتي

على الكأس والكأسُ لا تحضُرُ

تدورُ على الشرب محمودةً

لها الموردُ الخرقُ والمَصدَرُ

يُغَنّيهِمُ ساحرُ المقلتينِ

كشمس الضحى طرفُهُ أحورُ

وريحانُهُم طيبُ أخلاقهم

وعندَهُم الوردُ والعَبهَرُ

ومن أملح ما أنشد في هذا المعنى:

إذا ما خلوت من المؤنسين

جعلت المؤانس لي دفتري

فلم أخل من شاعر محسن

ومن عالم صالح منذر

ومن حكم بين أثائها

فؤاد للناظر المفكر

وإن ضاق صدري بأسراره

 وأودعته السر لم يظهر

وإن صرح الشعر باسم الحبيب

لم أحتشمهُ ولم أحصر

وإن عدت من ضجر بالهجا

وسب الخليفة لم أحذر

ونادمت غيه كريم المغيب

لندمانه طيب المحضر

فلست أرى مؤنساً ما حييت

عليه نديماً إلى المحشر

ولبعضهم في المعنى:

إذا مـا خَلَوتُ مِن المُؤنِسينَ

جَعلـتُ المُحـدِّثَ لـي دَفتَـري

فلـم أخـلُ مـن شـاعرٍ محسنٍ

ومــن مضــحكٍ طيّــب منـدرِ

ومـن حِكَـمٍ بيـن أثنائِهـا

فــوائدُ للنــاظرِ المفكِـرِ

وإن ضــاقَ صـدري بأسـرارهِ

وأودعتُـهُ السـرَّ لـم يظهـر

وإن صرَّحَ الحبُّ باسم الحبيبِ

فلمــا اختشـَيتُ ولـم أحصـر

وإن عُـذتُ من ضجرة بالهجاء

ولـو فـي الخليفة لم أحذرِ

فنـاديتُ منـه كريمَ المغيب

لنــدمانه طيــبَ المحضــرِ

فلسـتُ أرى مـؤثراً ما حييتُ

عليـه نـديماً إلـى المحشرِ

ولعليِّ بن الجهم في المعنى:

سمير إذا جالسته كان مسلياً

 فؤادك مما فيه من ألم الوجد

يفيدك علماً أو يزيدك حكمة

وغير حسود أو مصر على حقد

ويحفظ ما استودعته غير غافل

 ولا خائن عهدًا على قدم العهد

زمان ربيع في الزمان بأسره

يبيحك روضاً غير ذاوٍ ولا جعد

ينور أحياناً بورد بدائع

 أخص وأولي بالنفوس من الورد

ولبعضهم أيضاً في هذا المعنى ما ذكره ياقوت الحموي :

إذا الليل ما بيتني بجيش

 طليعته اغتنام واغتراب

شننت عليه من جهتي كميناً

أميره الزبالة والكتاب

وبت أنص من شيم الليالي

عجائب من حقائقها ارتياب

بها أجلوا همومي مستريحاً

 إذا جلَّى همومهم الشراب

ولبعضهم في المعنى وأحسن:

لنا جلساء لا نملُّ حديثهم

 ألبَّاءُ محمودون غيب ومشهد

يفيدوننا من علمهم علم ما مضى

ورأياً وآداباً وعقلاً مسددا

فلا فتنة نخشى ولا سوء عِشرة

 ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا

فإن قلت: أموات فما أنت كاذب

 وإن قلت: أحياء فلست منفدا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال جميل أعاد لبيت المتنبي بعده الحقيقي، وربط بين الفرس والكتاب في وعي العربي القديم بطريقة ذكية. ليست مقارنة تفاضل بل تأمل: الفرس للغزو، والكتاب للفتح الأعمق… فتح العقول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى