
قال شيخ المعرة رحمه الله:
هل صَحَّ قَولٌ مِنَ الحاكي فَنَقبَلَهُ
أَم كُلُّ ذاكَ أَباطيلٌ وَأَسمارُ
أَمّا العُقولُ فَآلَت أَنَّهُ كَذِبٌ
وَالعَقلُ غَرسٌ لَهُ بِالصِدقِ أَثمار
تحصّل لنا من خلال تبيين مالم يُبينه محمد شحرور، وشرح ما لم يشرحه محمد شحرور أن منهج التأويل الذي كان يتبعه في قراءة نصوص الوحيينْ هو في جوهره منهج تأويليّ تحريفيّ، وهو ما يسمى عند الحداثيين أو التنويريين بـ (القراءة المعاصرة)، وبينا بشكل قاطع أنها من تجليات الحداثة الغربية؛ شريعة ومنهاجا، وجلَّ أفكارها سُلخت من الحضارة الغربية. وهو في جملته يؤسس لفهمٍ جديدٍ لقراءة الوَحْيَيْنْ، ومن ثم إحداث فصام معرفي ومنهجي نكدْ مع قواعد اللغة؛ بعيدا عن مناهج اللغة العربية، والفلسفة الإسلامية في تفسير النصوص.
وكان الأولى بشحرور أو بغيره من الباحثين والدارسين لكتاب الله تعالى أن يقرأه بلغته العربية التي نزل بها.
قال تعالى: {كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. [فصلت: 3]. وقال : {وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا}. [الرَّعْدِ: 37]. وقال : {أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [يُوسُفَ: 2]. وقال : {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ}. [إِبْرَاهِيمَ: 4].
وكان أخلق بشحرور وغيره أن يفسر القرآن بالقرآن لقوله تعالى : {ألر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [سورة هود: 1].
وكان أخلق بشحرور أن يستعين بالسنة النبوية بأمر من القرآن الذي يدعي أنه قرأه واستجاب له. قال تعالى : {وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. [سورة النحل: 64]. قال الإمام الطبري في تفسيره (ج 17 ص236) :” يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وما أنزلنا يا محمد عليك كتابنا وبعثناك رسولا إلى خلقنا إلا لتبين لهم ما اختلفوا فيه من دين الله، فتعرّفهم الصواب منه، والحقّ من الباطل، وتقيم عليهم بالصواب منه حجة الله الذي بعثك بها.
وكان كذلك أخلق بشحرور أن يستعين بإجماع الصحابة الذين ارتضاهم الله لنبيه وزكاهم في كتابه. قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين سبقوا الناس أولا إلى الإيمان بالله ورسوله = {من المهاجرين} ، الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم، وفارقوا منازلهم وأوطانهم = {والأنصار} ، الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله = {والذين اتبعوهم بإحسان}، يقول: والذين سَلَكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، طلبَ رضا الله = {رضي الله عنهم ورضوا عنه} . وقال الإمام الفخر الرازي في تفسيره (ج 15 ص 516) :” وَإِنَّمَا كَانَ السَّبْقُ مُوجِبًا لِلْفَضِيلَةِ، لِأَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ يُوجِبُ اقْتِدَاءَ غَيْرِهِمْ بِهِمْ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْقُوَّةِ أَوِ الْكَمَالِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: 32] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَمِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّ دَوَاعِيَهُمْ تَقْوَى بِمَا يَرَوْنَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ فِي أَحْوَالِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْمِحَنَ تَخِفُّ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْمُشَارَكَةِ فِيهَا، فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ لِلْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْفَضِيلَةِ وَنِهَايَةِ الْمَنْقَبَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِهِمْ رُؤَسَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَسَادَةً لَهُمْ.
وأخيًرا: كان أخلق بشحرور اتباع المنهج العلمي للبحث عن الحقيقة عند علماء المسلمين وغيرهم.
فإذا كان إدراك الحقيقة على ما هي عليه في الواقع ، علما، كما يقولون، فإن المنهج إلى ذلك الإدراك ينبغي ان يكون هو الآخر علما، أي ينبغي أن تكون خطوات هذا المنهج عبارة عن مجموعة إدراكات صادقة تكشف اللثام عن الحقيقة المبحوث عنها.
من هنا، كان على كل باحث عن حقيقة أن يخط إليها منهجا علميا لا يشوبه الظن أو الوهم، وأن يلتزم هذا المنهج لا ينحرف عنه يمنة أو يسرة، فهل سلك محمد شحرور أيًا من هذه القواعد العلمية المذكورة، أم ذهب يخبط في النصوص خبط عشواء، فمرة يعتمد على التاريخية، فيجعل القرآن محكومًا بتاريخية النص ، ويصيرهُ خاصًٌّا بزمن معين، ووقف عليه، ورهين به، ويجعله خاصًا ببيئة معينة، فهو ابنها ووليدها، وهو فوق ذلك خطابٌ ملزم لتلك المرحلة وغير ملزم لما بعدها؛ فمعاني الألفاظ تتغيَّر بتغيُّر الظروف، وبالتالي لابدَّ من إخضاعها لهذا الواقع المتغيِّر حتَّى تتناسب مع متطلَّباته، وهذا التصوُّر المريض عند محمد شحرور نتج عنه اعتبار القرآن الكريم مُنتجاً ثقافياً إنسانياً يعبِّر عن لغة الإنسان وثقافته وكينونته ، لأنَّ الواقع والثقافة واللغة هي التي أنتجته، وبالتالي هو نصٌّ تاريخيٌّ كسائر النصوص البشرية التي تخضع للواقع تغيرًا وثباتًا.
مرة يعتمد على الهرمنيوطيقا، أو علم التأويل، أو علم التخريج، ليتمكن من التأويل الذاتي دون الرجوع للضوابط المعروفة والاحتكام إلى القواعد المرعية، ومرة يعتمد على الأنسنة الذي يجعل الإنسان هو مركز الأشياء ومحورها، فالحقيقة هي ما يراه القارئ لا ما يفرضه النص، إذ لا وجود لمعرفةٍ مطلقةٍ،وبالتالي تقوم الأنسنة على تحلل الإنسان من المرجعيات المقدَّسة، لتجل منه هو المرجع والمنتجُ للحقيقة معًا.
وهذا الموقف في حقيقته يسلب حق فهم النص من الخطاب في المُرادات الربانية، ويمنحه إلى المرادات الإنسانية!
كل ذلك ساق محمد شحرور إلى تأويل القرآن تأويلًا مَكّنهُ من نفث سمومه، وتقيؤ انحرافاته وأباطيله فقال في كتابه المذكور (ص 60) : “وهذه لا يمكن أن تكون إلا بثبات النص وحركة المحتوى، وهو التشابه الذي يحتاج إلى تأويل باستمرار، ولهذا فالقرآن لا بد أن يكون قابلا للتأويل باستمرار، وتأويله يجب أن يكون متحركًا وفق الأرضية العلمية لأمة ما في عصر ما، على الرغم من ثبات صيغته، لذا لا يمكن تأويل القرآن كاملًا من قبل وأحد فقط إلا الله”، وحسبك من هذا الجهل وصفه القرآن بما لم يصفه به منزله وهو ثباته وحركية محتواه!!
وتفسير هذه الجملة نأتي عليها-بحول الله- في المقال الآتي.
زر الذهاب إلى الأعلى
مقال ثريّ وضروري يفتح العيون على خطر منهج التأويل الحداثي حين يُنتزع النص من لغته، ويُقرأ بعيون غريبة عن لسانه وروحه. جزيل الشكر للدكتور أحمد الزبيدي على هذا التفكيك العميق والواضح لمنهج شحرور، والعودة بنا إلى الجذور الصافية للفهم؛ حيث الوحي يُقرأ بلغة الوحي.