د. قاسم محمد كوفحي
في طريقي إلى المنزل أمس، كنت أستمع إلى إذاعة السيارة، حيث بُثّت مقابلة مع خبير اقتصادي عربي. لفت انتباهي – بل أدهشني – أسلوبه اللغوي العجيب، فقد قال بالحرف الواحد: “الرار (القرار) الذي اتخذه الرئيس ترامب دفش (رفع) الأسعار في الولايات المتحدة، مما زاد في الـInflation، وصار الأمريكي يعاني من High Pricing، وطبعًا الصين لم تتأثر بـ Inflation مثل USA، لأن الاقتصاد الصيني أأوى (أقوى) من الاقتصاد الأمريكي، وبعدين الـ American citizen صار complain من هذا situation…”
هذه العبارات ليست مجرد أمثلة عابرة، بل تمثل ظاهرة لغوية تتنامى في خطابنا العام، وهي خلط العربية بالإنجليزية بطريقة تؤدي إلى لغة هجينة مشوشة. فما اسم هذه اللغة؟ وما الأسباب التي تدفع المتحدثين لاستخدامها؟ وكيف تؤثر على التواصل والفهم والهوية الثقافية؟ هذا ما أحاول استكشافه في هذه المقالة.
“العرنجيزية”وهي تعريب شعبي لكلمة (Arabic + English) – تشير إلى اللغة الهجينة التي تجمع بين مفردات أو تراكيب من اللغتين العربية والإنجليزية في جملة واحدة. هي ليست ترجمة حرفية، ولا هي استخدام واعٍ لقواعد اللغتين، بل أقرب ما تكون إلى لغة ثالثة هجينة، يطغى عليها الخلل في النحو والتلفظ والتراكيب.
من الناحية الأكاديمية، تُعرف ظاهرة خلط العربية بالإنجليزية في الحديث اليومي بعدة مصطلحات تعكس مستويات مختلفة من التداخل اللغوي. من بين هذه المصطلحات ما يُعرف بـ “Code-Switching”، وهو الانتقال بين لغتين داخل السياق نفسه، كأن يبدأ المتحدث جملته بالعربية ثم ينتقل إلى الإنجليزية أو العكس، تبعًا للموقف أو الفئة المستهدفة. وهناك أيضًا “Code-Mixing”، ويشير إلى إدخال مفردات أو تعبيرات من لغة أجنبية داخل لغة رئيسية، وغالبًا ما يحدث هذا بشكل غير مقصود في الحديث، مما يخلق لغة هجينة يصعب تصنيفها بدقة. أما “Hybrid Language Use” فيُستخدم للإشارة إلى نمط استخدام لغوي يتشكل في بيئات ثنائية اللغة، حيث تتداخل عناصر من اللغتين في الخطاب بشكل دائم، لتكوين ما يشبه “لغة ثالثة” تحمل سمات كل من اللغتين دون أن تنتمي بالكامل لأيٍّ منهما.
يرجع انتشار ظاهرة “العرنجيزية”– أي خلط العربية بالإنجليزية في الحديث– إلى عدة أسباب متشابكة. من أبرزها التأثر الكبير بالثقافة الغربية ووسائل الإعلام، حيث أدى الانفتاح على المحتوى الإنجليزي في الإنترنت والتلفاز إلى تسرب مفردات أجنبية إلى الخطاب اليومي دون وعي بنيوي كافٍ. كما ساهم التعليم الجامعي بلغات أجنبية، خاصة في مجالات كالطب والاقتصاد والتكنولوجيا، في جعل المصطلحات الإنجليزية أكثر شيوعًا بين الدارسين من نظيراتها العربية. إلى جانب ذلك، هناك دافع اجتماعي يتمثل في استخدام هذا الخليط اللغوي كوسيلة لإظهار “الرقي” أو “الحداثة”، حتى وإن جاء ذلك على حساب الوضوح أو الدقة. وأخيرًا، فإن ضعف إتقان إحدى اللغتين – العربية أو الإنجليزية – يدفع كثيرًا من الناس إلى الدمج بينهما بشكل تلقائي لتعويض نقص التعبير أو الفهم الكامل بإحدى اللغتين.
تُحدث ظاهرة “العرنجيزية” آثارًا ثقافية ولغوية عميقة قد تفضي إلى فقدان الهوية اللغوية، إذ إن الاستخدام المفرط لهذا الخليط بين العربية والإنجليزية يضعف الانتماء إلى اللغة الأم ويشوّه صورتها، لا سيما في أذهان الأجيال الجديدة. كما أن “العرنجيزية” تخلق فجوة في الفهم والتواصل داخل المجتمع، لأن ليس جميع الأفراد يتقنون الإنجليزية، ما يجعل هذا النمط اللغوي حاجزًا أمام التواصل الفعّال والشامل. ومن الناحية التعبيرية، فإن الخلط اللغوي غالبًا ما يضعف الدقة في إيصال المعاني، ويؤدي إلى استخدام مصطلحات خارجة عن سياقها أو مشوّهة المعنى. وعلى المدى البعيد، يشكل هذا النمط تهديدًا حقيقيًا للغة العربية، خاصة في ميادين التخصص مثل الاقتصاد والعلوم والإدارة، حيث قد يُستبعد استخدام المصطلحات العربية لصالح نظيراتها الأجنبية، مما يكرّس التبعية اللغوية والثقافية.
لمواجهة ظاهرة “العرنجيزية” والحدّ من آثارها، تبرز مجموعة من الحلول التي تبدأ بتعزيز الثقة باللغة العربية عبر اعتمادها في تقديم المصطلحات العلمية والفكرية في وسائل الإعلام ومؤسسات التعليم، مما يرسّخ مكانتها كلغة قادرة على التعبير عن المعارف الحديثة. كما أن ترجمة المصطلحات الأجنبية بشكل واضح ومنهجي، بدلاً من استعارتها بصورتها الأصلية، يسهم في خلق بدائل عربية مفهومة ومتداولة بين الناطقين بالعربية. ولا يقلّ أهمية عن ذلك نشر التوعية بخطورة العرنجيزية من خلال حملات إعلامية وثقافية تسلط الضوء على أثرها السلبي على الهوية اللغوية والمعرفية. وأخيرًا، لا بد من تشجيع الإبداع باللغة العربية ودعم إنتاج محتوى رصين ومتنوّع في مختلف المجالات، لتظل العربية لغة حيّة وقادرة على مواكبة العصر والتعبير عن تطلعاته.
إن ما دفعني إلى الكتابة حول موضوع “الكتابة المسرحية في زمن الملل: مقاومة الاستهلاك الفني” ينطبق بشكل ما على هذه الظاهرة اللغوية أيضًا، فكلاهما يعكس انشغالًا بالشكل على حساب المضمون، وابتعادًا عن الجذر الثقافي لصالح المظاهر المؤقتة. إن مقاومة “العرنجيزية” ليست حربًا على اللغة الأجنبية، بل دعوة لحماية اللغة الأم، وتعزيز قدرتها على التعبير والتأثير، دون أن تُختزل في خليط مربك من المفردات المتناثرة.
زر الذهاب إلى الأعلى