تتسلل خيوط الليل بصمت، وتشرق شمس الصباح بوهج جديد، ومعها تتجدد طقوسي المعتادة. أحمل كوب قهوتي إلى مكتبي الصغير، يتصاعد بخارها ليفجر المكان بعبق منعش. حينها فقط، تمتد يدي إلى ورقتي وقلمي، رغبة في اصطياد فكرة عابرة وتدوينها. أجلس إلى مكتبي المتواضع في زاوية هادئة من البيت، أضع كوب قهوتي المعطرة على الطاولة المطلة على النافذة الصغيرة.
نافذتي التي من خلالها، أطل من عالمي الخاص إلى عالم أرحب، عالم يمتلئ بالحب والتفاؤل والأمل مع كل إشراقة صباح جديد. يتجدد الأمل، وتتجدد معه نسمات الروح ونبضات القلب وهدوء النفس.
أراقب المارة من نافذتي كعادتي اليومية، حيث بدأت الحركة تدب ببطء في تمام الثامنة صباحًا. عيون اعتدت رؤيتهم يوميًا، وإذ بفتاة لم أرها من قبل تسير في شارعنا الطويل الذي تزينه شجيرات خضراء صغيرة.
كانت تمشي بخوف، والاضطراب يرتسم بوضوح على وجهها. جلست أراقبها، وإذ بها تلتقي جارينا في المبنى المقابل، يتحدثان قليلًا، ثم تعود من حيث أتت. كان وجه الفتاة يحمل عبوسًا لم يسبق لي أن رأيت مثله، أشبه بملامح يتيم.
بعدها، تتوالى المشاهد؛ أطفال يحملون حقائبهم المدرسية، رجل يلوح لسيارة أجرة، وعجوز يسير بخطى واثقة رغم عصاه التي يتكئ عليها. الحياة تمضي، وأنا داخل غرفتي أفكر في فكرة تصلح لقصة قصيرة.
وضعت كوب قهوتي جانبا. شعرت بشيء في داخلي يلوح لي، لا أريد إلا ذلك اللحظات الرائعة التي تزين حياتي شعرت شعورا بالامتنان لهذا الصباح، لهذا السكون، لهذه اللحظة التي لا تشبه سواها. علمت اليوم بأن الإنسان لا يحتاج إلى إنسان آخر حتى تتم مواساته، بل يحتاج لأن يهدأ ويفكر ويفهم ويرتب فوضاه. المواساة الحقيقية في الحياة هي الهدوء والخلوة بذاتك.
مع مرور الأيام نزداد قناعة بأننا نستحق حياة هادئة. لا نزاعات، لا صراخ، لا سوء ظن ولا حسد ولا كراهية ولا جهد لإقناع ما حولنا بحسن نوايانا فقط الهدوء هو الحقيقة الوحيدة في الحياة التي نعيشها. تذكرت ما قالته جارتي العجوز في يوم كنا نجلس سويا لنحتسي فنجانا من القهوة عند بداية رحلتي في الكتابة، وقبل أن أكون مشهورة فقالت لي: كسب زادك الحقيقية لا يكون بملء الحقيبة، بل بملء الروح.
أمسكت قلمي وبدأت أكتب. وقبل أن تخط يدي أول كلمة، لفت انتباهي شيئا لم يكن هناك بالأمس. وجدت من خلال إطلالتي من النافذة رجلا مسنا يرتدي معطفا وقبعة، ينظر إلى نافذتي. شعرت بالخوف قليلا، لكنني قلت لنفسي ربما يفكر في شيء ما.
جلست أكتب واستمررت في الكتابة. مرت ساعة تقريبا، وأنا مستغرقة في عالم كلماتي. نظرت مجددًا إلى النافذة، فوجدته لا يزال ينظر إلى النافذة، ذلك الرجل الذي لم أره من قبل. بعد دقيقتين، دق جرس الباب. تجمدت في مكاني، ثم نهضت من مكتبي ببطء، وقلبي يدق بعنف.
-هل أفتح الباب بالفعل؟
فتحت الباب، وانتابني شعور غريب. وقف أمامي رجل غريب، طويل القامة، يحمل حقيبة جلدية صغيرة، ونظرته ثاقبة وهادئة بطريقة مرعبة. قال لي بنبرة واثقة
– أظن أنك كنت تكتبين في هذه اللحظة.
تراجعت إلى الخلف خطوة تلو الأخرى، وقلبي يرتعد ويضخ بالأسئلة.
-كيف يعرف أنني أكتب؟
لم أنطق بكلمة، لكنه تابع حديثه كأنه يعرفني منذ زمن:
أنا اسمي أدهم. لا تقلقي، لن أؤذيك. أنا جئت؛ لأنك فتحت الباب، وأشار إلى الورقة التي في المكتب. ارتجفت يدي ونظرت إلى الورقة من بعيد، لم أفهم. فقال لي:
هل تعلمين أن هذه النافذة ليست نافذة عادية. إنها تطل على أكثر من شارع، وأحيانًا على أبعاد أخرى.
أصابتني الدهشة. كنت أظن أنني أعيش وحدي بين قهوتي وأوراقي البيضاء، لكن في هذا الصباح انقلبت الموازين. قلت له بصوت خافت:
ما الذي تريده مني؟ “أدار وجهه نحوي، وقال: أنت كاتبة. نحن نحتاج إلى كتاب في مجلتنا.