وعدنا القراء الكرام في المقال السابق أن نستكمل الحديث في مسألة (رؤية الله)، ونفرد لها بحثاً خاصا تستوفي فيه أدلة المعتزلة والرد عليهم، ولا سيما رد الإمام الفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب)، وقبل الشروع في ذلك ننقل كلام الإمام الأشعري الذي يمثل رأي جماهير المسلمين في المسألة. قال رحمه الله في كتابه (الإبانة) – ص 14: “.. فإن كثيرًا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل به الله سلطانا، ولا أوضح به برهانا، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين، وخالفوا روايات الصحابة رضي الله عنهم عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في رؤية الله عز وجل بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفات، وتواترت بها الآثار وتتابعت بها الأخبار”.
على أن هناك مقدمات لابد من استحضارها قبل الشروع في هذه المسألة.
اختلفت المذاهب الفكرية والاتجاهات الاعتقادية بين علماء المسلمين منذ القرن الأول الهجري، ولا زالت إلى يوم الناس هذا، اختلفوا على مذهبين :
١ – مذهب جمهور أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يجوز أن يُرى، وأن المؤمنين سيرونه في الجنة رؤية بصرية، منزها عن الجسمية والمكان.
٢ – مذهب المعتزلة والشيعة والزيدية والإباضية ومن تبعهم؛ أن رؤية الله تعالى بالعين الإنسانية المجردة مستحيلة وممتنعة.
ولا ضير في ذلك شريطة أن نبتعد عن إصدار الأحكام بالتضليل والتكفير والتبديع على المخالف، لأن النصوص جاءت على أسلوب العرب ومعهود لغتهم وهي تحتمل التأويل، وتقبل الاختلاف. على أن مسألة (رؤية الله) عز وجل تتصل اتصالا وثيقا بقضية المتشابه من الآيات، مما يجوز فيه الاجتهاد؛ وإذا جاز الاجتهاد جاز الصواب وجاز الخطأ على المجتهد .
وفي الحديث الشريف (الطبراني) – ج 3 ص 292- : ” إذا حكَم الحاكمُ فاجتَهَد ثمَّ أصاب فله أجرانِ وإذا حكَم فاجتَهَد ثمَّ أخطأ فله أجرٌ”، وإذا كان ذلك كذلك فلا ضير في النقاش والحوار بالتي هي أحسن، والاستشهاد بالأدلة والبراهين طلبا للحق، وعدم اللجوء -كما ذكرنا- إلى التضليل، والتبديع، والتكفير، والإساءة، فالغلو في بحث القضايا العقدية ساق الفرق والجماعات إلى التصلب في الرأي، والتعصب له، ويُنحونَ باللائمة والتخطئة على الآخرين ممن يخالفون رأيهم ومذهبهم، بل قد تجاوز بعضهم إلى أكثر من ذلك من السب والشتم؛ فقد حمل الزمخشري -رحمه الله- صاحب الكشاف على أهل السنة تشنيعًا وتقبيحًا وتضليلًا :”ثم تعجَّب من المتسمِّين بالإسلام! المتسمِّين بأهل السنّة والجماعة: كيف اتخذوا هذه العظيمةَ مذهبًا!؟. ولا يغرنك تستُّرهم بالبلْكفة [يعني قول أهل السنة: إن الله يُرى في الآخرة بلا كيف]، فإنه من منصوبات أشياخهم! والقول ما قال بعض العدْلية فيهم:
لَجَمَاعَةٌ سَموْا هَواهُمْ سُنَّة
وَجَمَاعَةٌ حُمْرٌ لَعَمْرِي مُوكَفَه
قَدْ شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وَتَخَوَّفُوا
شَنْعَ الْوَرَى فَتَسَتَّرُوا بِالبَلْكَفَهْ!.
هذان البيتان المذكوران: قد عارضهما غير واحد من أهل السنة، وقَسَا بعضهم في معارضته على قائلها وناقلها ومنشدها ببعض ما يستحقون!
وساقَ الإمام ابن السبكي في كتابه (طبقات الشَّافعية) -9/ 9 – 17- شيئًا من تلكَ المُعارضاتِ، ومنها رد للشيخ أحمد بن الحسن الجاربردي:
عجبا لقوم ظالمين تستروا
بالعدل ما فيهم لعمري معرفه
قد جاءهم من حيث لا يدرونه
تعطيل ذات الله مع نفي الصفه
ولابن المنير صاحب (الانتصاف):
وجماعةٍ كفروا برؤية ربهم
هذا ووعد الله ما لن يخلفه
وتلقبوا عدلية، قلنا: أجل
عدلوا بربهم فحسبهم سفه
وتلقبوا الناجين، كلا إنهم
إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه
وقد خاض في مسألة (الرؤية) المعتزلة، والشيعة، والزيدية، والإباضية، والمتكلمة، والمتفلسفة، غير أن الإمام الرازي في تفسيره لم يناقش إلا المعتزلة ورؤوسها، نظرًا لسلطانهم السياسي ، وسلطانهم الفكري والثقافي آنذاك. وأما اليوم فقد ذهب سلطانهم،وتشرد سوادهم، فلم يبق منهم إلا بقايا يتسمون باسم (المعتزلة العصرية).
موقف “المعتزلة”
أجمع المعتزلة على نفيِ رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة بالعين الباصرة، وفي سبيل ذلك ردوا الأحاديث التي تُثبِتُ هذه الرؤية، وتأولوا الآيات الواردة فيها، فقد قال القاضي عبد الجبار في كتابه طبقات الاعتزال وفضل المعتزلة (ص 346)، “إن أفعاله تدل عليه؛ لأنه لا يُرى ولا يُدرَكُ بالحواسّ”.
وها هو الجاحظُ في رده على المشبه يُجادلُ أصحابَ أهل السنة بكلامٍ طويلٍ في فصلٍ من كتابه “الردّ على المشبّهة” بقول: “ثم رجع الكلام إلى أول المسألة، حيث جعلنا القرآن بيننا قاضياً، واتخذناه حاكماً، فقلنا: قد رأينا اللهَ استعظَمَ الرؤيةَ استعظاماً شديداً، وغضبَ على من طلب ذلك وأراده، ثم عذّب عليه، وعجّب عبادَه ممن سأله ذلك، وحذّرهم أن يسلكوا سبيلَ الماضين، فقال في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} [سورة النساء 4: الآية 153].
فإن كان الله تعالى ـ في الحقيقة ـ يجوز أن يكون مرئياً، وببعض الحواسِّ مُدرَكاً، وكان ذلك عليه جائزاً، فالقوم إنما سألوا أمراً مُمكِناً، وقد طمعوا في مَطمَع، فلِمَ غضب هذا الغضب، واستعظم سؤالهم هذا الاستعظام، وضرب به هذا المثل، وجعله غاية في الجرأة وفي الاستخفاف بالربوبية … ؟ “.
وقد نقل عُلماءِ العقائد وأصحاب الفرق إطباقَ الرأي على ما ذكرنا.
ونحن نتفق مع الجاحظ -رحمه الله – بأن نجعل القرآن بيننا قاضياً، ونتخذه حاكماً، وسننظر في الآيات الكريمة التي فهم منها أهل السنة إثبات الرؤية، والآيات التي فهم منها المعتزلة إنكار الرؤية، والآيات التي لم يصرح ظاهرها بنفي ولا إثبات.
ولن نتطرق إلى رؤية الله عند “المتكلمين”؛ سواء كانت الرؤية “العيانية”، أو “الرؤية القلبية”، ولن نتطرق لرؤية الله العقلية عند الفلاسفة، ولا لرؤية الله عند المتصوفة؛ وهو ما يعرف عندهم ب”الرؤية الذوقية”.