مقالات

وقفات مع المتنبي (37)                                               د. أحمد الزبيدي         –         الإمارات

من أدبيات الغربة والاغتراب  (2-2) غربة محمد الخضر حسين (1876- 1958 م)

 

د. أحمد الزبيدي

 لم يدرْ في خلد الفتى التونسي ” محمد الخضر حسين” ولم يخطر في باله عندما تغرب عن وطنه الحبيب تونس الخضراء -اضطرارًا – ولو للحظة واحدة أنه سينال من مناقب السفر، وسيحظى من فوائده ما ذكره الإمام المُطَّلبي (الشافعي) في شعره؛ حيث قال:

تَغَرَّبْ عَنِ الأوْطَانِ فِي طَلَبِ العُلَى

وَسَافِرْ فَفِي الأسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ

تَفَرُّجِ هَمٍّ وَاكْتِسَابُ مَعِيْشَةٍ

وَفَضلٌ وَآدَابٌ وَصُحْبَةُ ماجْدِ

فكيف له أن يفارق موطنه ومسقط رأسه، وقد تعلق به قلبه، وتغلغل به حبه !

لك الله أيها الفتى المسكين، لك الله… فقد حمَّ القضاء، ونزلت مقادير السماء، وكتب عليك أن تفارق تونس الخضراء، ملهمة الحكماء والشعراء…!

و لكن إذا حمّ القضاء على امرىء

فليس له برّ يقيه ولا بحر

شرع الفتى الشاب يحزم حقائبه، ويجهز ركائبه، حتى إذا رست السفينة وركبها، وأخذت تبتعد عن بلده التي أحب شيئًا فشيئًا، وغابت معالمها عن ناظريه، تمثل قول الشريف الرضي عندما ترك بغداد:

وتلفتت عيني فمذ خفيت

عني الديار تلفّت القلبُ

نعم، تلفت القلب واستبد به الحنين، وجأرت النفس وجاشت بالأنين؛ حتى قال:

حادِي سفينَتِنا اطْرَحْ حُمولَتِها

زادَ الوقودِ فَما في طَرْحِهِ خَطَرُ

وَخُذْ إذا خَمَدَتْ أنفاسُ مِرْجَلها

مِنْ لَوْعَةِ البَيْنِ مِقْباساً فتَسْتَعِرُ

حتى إذا أشرف على بساتين دمشق وروضاتها، ورأى القطار يتهادى به في أرباضها، فجرى على لسانه قول الأول، وإن من الأقوال ما لا تبلى جدته، ولا تتغير بهجته، وسلطان لا تنتهي مدّته :

أقولُ لصاحبي والعِيسُ تهوي

بنا بينَ المُنيفةِ فالضِّمارِ

تمتّعْ من شَميمِ عَرارِ نجدٍ

فما بعدَ العَشيّةِ من عَرارِ

حتى إذا تلفظ بكلمة (عرار) أخذ يكررها، فجاش في صدره شعرٌ باكٍ حزين فانشأ يقول:

لَجَّ القِطارُ بِنا والنّارُ تَسْحَبُهُ

ما بَيْنَ رائِقِ أَشْجارٍ وأَنْهارِ

ومِنْ عَجائبِ ما تَدْريه في سَفَرٍ

قَوْمٌ يُقادُونَ لِلْجَنّاتِ بالنَّارِ

فلقد كان للشعر أثر كبير في التّرويح عن نفس الفتى، وإثارة لجميل عواطفه، وإهاجة لنبيل مشاعره، مما جعل نفسه المضطربة تسكن إليه قليلًا لما فيه من الموسيقا والنغم الجميل.

وهذا هو الذي فعل في نفسه ما فعل ، فأخرجها من الهمود والجمود إلى الانتباه، ومن الانقباض إلى البسط والارتياح، ومن النفور إلى الاقبال وبسط الجناح.

ولم تكن الغربة وحدها التي تقض مضجعه، وتؤذي مسمعه، وتعكر صفو أحلامه، وتقذف به في بيداء آلامه؛ فقد تكالب عليه الحساد؛ وتناوشه من كل جانب الأوغاد؛ يحسدونه لفضله. وقد بلغ محمد بن عبد الله بن طاهر أن قوماً يحسدونه، فقال:

إن يحسدوني فإني غير لائمهم

قبلي من الناس أهل الفضل قد حُسدوا

فدام لي ولهم ما بي وما بهمُ

 ومات أكثرهم غيظاً بما يجد

أنا الذي يجدوني في صدورهمُ

لا أرتقي صُعداً منها ولا أرد

وقديمًا قال الشاعر:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسدا وبغيا أنه لدميم

فقال يشكو دهره، ويذم خسره، وينعى على حساده :

وما غريب الدار في غربة

وإنما الغربة فقدُ المثال

والعلم نعمَ الخدنُ لكنه

مثير حساد وقيلٍ وقال

ما أهنأ العيش مع الجهل لو

ينفع في الحشر وعند السؤال

ولا نشك انه إذا ذكر شعراء تونس الخضراء وعشاقها، ومن استهام بحبها وعادى من شاقَّها؛كان الفتى محمّد الخضر حسين من كبار عشاقها.

ونظرة واحدة إلى ديوانه “خواطر الحياة” الذي طبع في القاهرة مرات عديدة يشهد على ذلك، فإن اسم بلده الحبيب “تونس” يتردّد في كثير من قصائده التي يبثه أشواقه، ويهديه تحيّاته، ويستثير ذكرياته، ويخاطب مواقع الجميلة المزهرة:

حيّا ربَى تونسَ ذات الزّهور

عهدُ السّرورْ

وافترّ في طلعةِ تلكَ القصورْ

 أُنْسُ البدورْ

واستمع إليه وهو يصفها بالجمال، ويصور نفسه المليئة بالآمال، برغم ما يداريه من داء عضال:

ما ليَ لا ألمحُ من ذي الجمالْ

سوى الخيالْ

ألَمْ يكنْ يُدْني قطوفَ الوصالْ

بلا مَلالْ

الشوقُ ألقى مُهْجتي في نضالْ

ماضي النّصالْ

ماذا ترى والهجرُ فيما يُقالْ

داءٌ عُضَالْ

ويقول:

يا موْطني لم أنس عهدَ الشّبابْ

عذبَ الرِّضابْ

بَيْني وبين المجد عهدٌ يُهابْ

فلا عِتابْ

أقام الشيخ بمصر، وأحس الغربة في مبدأ أمره، ورضي بها، وآثرها على الرجوع إلى وطنه الذي لا يزال تحت نير الاحتلال.

رضيت عن اغترابي إذ لحاني

فتى لا ينظر الدنيا بعيني

يقول: تقيم في مصر وحيداً

وفقدُ الأنس إحدى الموتتين

ألا تحدو المطية نحو أرض

تعيد إليك أنسَ الأسرتين

وعيشاً ناعماً يدع البقايا

من الأعمار بِيضاً كاللجين

وقوم أمحضوك النصح أمسوا

كواكب في سماء المغربين

فقلت له: أيحلو لي إياب

وتلك الأرض طافحة بغين

وما غين البلاد سوى اعتساف

يدنسها به خرق اليدين

فعيش رافه فيها يساوي

إذا أنا سمته خُفَّي حُنين

وأخيرًا…هل دار في خلد الفتى أنه سيصبح يومًا ما شيخ الجامع الأزهر؟ الجواب: لا ! ولكنه يتذكر ما قصته عليه أمه السيدة حليمة؛ أنها كانت تُهدهده في صغره على نغمات الحب والأمل وهي تنشد له وتقول:

إنْ شاءَ الله يا أَخْضَرْ

تِكْبَرْ وتْرُوحْ الأَزْهَرْ

وكانت أبواب السماء مفتوحة، واستجاب الله سبحانه دعاء الأم الصالحة، فالوليد الذي فرّ من تونس خوفًا على نفسه، ها هو يصبح في نهاية المطاف إماماً للأزهر وشيخاً لشيوخه، وعلمًا من أعلامه؛ بل علمًا من أعلام العالم الإسلامي كله .

وعندما جاءت “المشيخة” إليه تجر أذيالها، وتهز أعطافها ؛ -وكانت لا تعطى إلا للمصريين- همس الشيخ لبعض المقربين منه :”لقد سقطت المشيخةُ في حجري من حيث لا أحتسب”!.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. صباح الغربه والاغتراب
    ماذا فعلنا يا دكتور حتى ظننت أنا نسينا وهل ينسى القلب انه ليس في مكانه صحيح ان الغربة تصنع الرجال ولكن بالمقابل تأخذ حقها وبزيادة.

  2. سلمت يمناك
    وأعان الله كل مغترب على فراق أحبابه ودياره
    بانتظار المزيد والمزيد
    رضي الله عنك وأرضاك 🙂

  3. في هذا النص البديع، لا يسرد الدكتور أحمد الزبيدي سيرة محمد الخضر حسين فحسب، بل يرسم ملامح الغربة حين تُصبح قدرًا، وتتحوّل بالعزم إلى شرف.
    سطورٌ تقطر صدقًا، وأبياتٌ تشهد أن الحنين ليس ضعفًا، بل دافعًا، وأن من يخرج مطاردًا قد يعود إمامًا.
    لله درك يا دكتور أحمد، فقد جعلتنا نرى أن الغربة لا تهزم الأرواح النبيلة، بل تصقلها، وأن طريق الأزهر قد يبدأ من أمّ تُنشد، وولدٍ يغادر حزينًا، ليعود عظيمًا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى