مقالات

وقفات مع المتنبي (38) د. أحمد الزبيدي – الإمارات

"لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ"

د. أحمد الزبيدي

 ثمة علاقة من نوع خاص؛ بين تحصيل العلم والرسوخ فيه، وبين راحة الجسم والالتفات إليه، وبين التعب والكد والإعواز، والجد والسعي والإنجاز ،  وهي أشبه شيء بما نسميه اليوم ب”العلاقة الطردية”، حيث تربط بين شيئين متناظرين؛ يزداد أحدهما بزيادة الآخر، أو ينقص أحدهما بنقصان الآخر، وبعبارة أخرى، إذا زاد أحد الشيئين، فإن نظيره يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، والقاعدة وإن كانت وضعت للماديات الصِرفة، فإنها تصلح أن تدخل فيها-أيضا-المعنويات ، وهذا التعب، وهذا العناء؛ إذا كانا ضروريين لتحصيل العلم؛ فإنهما -أيضا- فرض شرعي، ومطلب ضروري لتحقيق جميع الكمالات الإنسانية. فأي نجاحٍ، وأي فلاحٍ ينشده الإنسان في أمر ديني، أو  أمر دنيوي، أو حتى اخروي لايسنده التعب، ولا يمده العناء فهو قبض ريح، وهباء في هباء.

إشارات القرآن والحديث

وقد وردت إشارات في آيات عدة  من القرآن الكريم إلى تلك العلاقة التي نتحدث عنها، وحسبك منها قوله تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم:{يا أيها المزمل}، و{يا أيها المدثر، وأمره له :{قم الليل إلا قليلا}، وقد مدح عباده بقوله:{ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون}.

أما الإشارات النبوية فهي كثيرة أيضا وحسبنا منها قوله صلى الله عليه وسلم :” حفت الجنة بالمكاره” ، وقوله :” الدنيا سجن المؤمن”.

قال الإمام ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة (ج 2 ص 895):” الكمالاتُ كلُّها لا تُنالُ إلا بحظٍّ من المشقَّة، ولا يُعْبَرُ إليها إلا على جسرٍ من التَّعب”.

وقد أحسن الإمام؛ فقد أجمع العقلاءُ، واتفق الحكماء؛ على أنَّ النَّعيمَ لا يُدْرَكُ بالنَّعيم، وأنَّ الراحةَ لا تنال بالراحة والتنعيم.

  قال أبو الطيب المتنبي في “معجز أحمد” (ص 419) :

لَوْلا الْمَشَقَّةُ سادَ النَّاسُ كُلًّهُمُ

الْجُودُ يُفْقِرُ والإقْدامُ قَتُّالُ

يعني: أن المجد والسؤدد والسيادة لا تتم إلا ببذل المال، وفقر الحال، ومخاطرة النفس، فالجود يؤدي إلى الفقر، والإقدام يفضي إلى العطب. ولولا هاتين الخلتين لكان الناس كلهم سادة وكبراء.

قال ابن المقفع رحمه الله : ” اقْتِصَارُ السَّعْيِ إِبْقَاءٌ لِلْجَمَامِ، وَفِي بُعْدِ الْهِمَّةِ يَكُونُ النَّصَبُ”.

قال الإمام ابن القيم في كتابه “مفتاح دار السعادة” (ج1 ص 299):” ومن طمَحَت همَّته إلى الأمور العَلِيَّة، فواجبٌ عليه أن يَسُدَّ على همَّته الطُّرقَ الدنيَّة.

وهذه السعادةُ وإن كانت في ابتدائها لا تنفكُّ عن ضربٍ من المشقَّة والكَرْه والتأذِّي، فإنها متى أُكرِهَت النفسُ عليها، وسِيقَت طائعةً وكارهةً إليها، وصبرَت على لأوائها وشدَّتها، أفضتْ منها إلى رياضٍ مُونِقَة، ومقاعدِ صدقٍ ومقامٍ كريم، تجدُ كلَّ لذَّةٍ دونها كلذَّة لعب الصَّبيِّ بالعصفور بالنسبة إلى لذَّة الملوك”.

ولم أر مثل المتنبي يجَسّدُ هذه علاقة الطردية كما في هذا البيت، قال:

وإذَا كانَتِ النُّفُوسُ كِبَارَاً

تَعِبَتْ في مُرَادِهَا الأجْسَامُ

حقا؛ إن النفوس إذا عظمت، وإن الهمم إذا ارتفعت ، سهل في مرادها الأمر الشديد، وقرّب قصدها الأمر البعيد، وتعبت الأجسام، واستكره المقام.

وفي بيت آخر قرب المتنبي المعنى، فقال:

تُريدينَ إِدراكَ المَعالي رَخيصَةً

وَلَا بُدَّ دُونَ الشّهد من إِبَرِ النَّحلِ

نعم، من أراد جني الشهد والتمتع بحلاوته فلا أقل من أن يتحمل لسعُ النحل وأذاه.

قال أبو تمام من قصيدته في مدح المعتصم بعد فتح عمورية:

بَصُرتَ بِالرَّاحَةِ الكُبرى فلَم تَرَهَا

تُنالُ إِلَّا عَلَى جسرٍ منَ التَعَبِ

ثم جاء الآخر وأخذ هذا المعنى فقال:

كذا المعالي إذا ما رُمْتَ تُدْرِكُها

فاعبُر إليها على جِسْرٍ من التَّعبِ

وهل معنى هذه الأبيات الثلاثة إلا ثالوث النجاح: التعب، والتضحية، والفداء !

    ولله در ابي الطيب إذ يقول:

 وإذا كانت النفوسُ كبارًا

تعبَت في مرادها الأجسامُ

يريد المتنبي؛ أن النفوسُ كلَّما كانت أشرف، والهمَّةُ أعلى، كان تعبُ البدن أوفر، وحظُّه من الراحة أقلَّ.

وقد فهم الإمام مسلم هذه المعاني حق الفهم ، فقد بذل في تأليف كتابه من نفسه وجسده وروحه، حتى أسهر به ليله ، وأظمأ به نهاره ، واعتكف عليه في بيته ، وتجافى به عن فراشه، حتى بلغ بجماعة من العلماء تقديمه على كتاب شيخه البخاري.

قال الإمام العراقي في ألفية الحديث:

أوّلُ مَنْ صَنَّفَ في الصَّحِيْحِ

مُحَمَّدٌ وَخُصَّ بِالتّرْجِيْحِ

وَمُسْلِمٌ بَعْدُ، وَبَعْضُ الغَرْبِ مَعْ

  أَبِي عَلِيٍّ فَضَّلُوا ذَا لَوْ نَفَعْ

وقد ذاعت هذه العبارة في كتب العلم، وانتشرت على ألسنة العلماء، حتى غدت قانونا لازماً، ودستورا حازماً؛ ويقينا جازما؛ لكل من يسعى إلى النجاح والفلاح، وتحقيق الأحلام .

في أثناء تصنيفه كتابه (صحيح مسلم) شرع في كتابة أحاديث الصلاة؛ وتحديدا أحاديث المواقيت، ثم أتى على حديث عبد الله بن عمرو المشهور المتعدد الروايات،  فرتبها جميعا ترتيبا حسنا، استوعب فيه اختلاف الطرق، بلا مزيد عليه، وكَأّنّ الإمام مسلم لمّا انتهى من ذلك انتهى إلى نتيجة مُرضية ومُعجبة في آن، فأراد أن ينقل لطلاب العلم تجربته الذاتية، ويقول لهم: إن هذه النتيجة الطيبة التي توصل إليها لم تأت عفو الخاطر، ولم تأت من وحي القلم، وإنما جاءت بالتعب، والسهر، والجهد، فعنّ على خاطره أثر الإمام يحيى بن كثير (ت 129ه) القائل: ” لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ  الْجِسْمِ “. فقيده.

 وقد أستشكل العلماء صنيع مسلم ، ووجه الإشكال أَنَّ مسلماً لَا يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ إِلَّا الأحاديث النبوية، وهَذا أثر عن يحيى، ليس له تَتَعَلَّقُ بِأَحَادِيثِ الصَّلَاةِ من قريب أو بعيد!!.

قال الإمام النووي (المتوفى: 676هـ) في شرحه على مسلم(ج 5 ص 112) :” جَرَتْ عَادَةُ الْفُضَلَاءِ بِالسُّؤَالِ عَنْ إِدْخَالِ مُسْلِمٍ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَنْ يَحْيَى مَعَ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ إِلَّا أَحَادِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْضَةً مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِأَحَادِيثِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَكَيْفَ أَدْخَلَهَا بَيْنَهَا؟!.  وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ قَالَ سَبَبُهُ أَنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْجَبَهُ حُسْنُ سِيَاقِ هَذِهِ الطُّرُقِ الَّتِي ذكرها لحديث عبد الله بن عَمرو وكثرةُ فوائدها وتلخيصُ فوائدها وما اشتملَتْ عليه من الفوائد في الأحكام وغيرِها فنَبَّه على أن من له رغبةٌ في تحصيل العلم بمثل هذا الذي فعلته في حديث عبد الله بن عمرو بجَمْعِ جميعِ طرقه فَلْيُعانِق التعبَ وَلْيَهْجر الراحةَ في طريقِ طلب العلم فإني تَعِبْتُ فيه تعبًا كثيرًا”.

وكلام القاضي عياض (المتوفى: 544هـ) في كتابه إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم (ج 2 ص 577).

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإذا نام المسافر واستطال الطريق، فمتى يصل إلى المقصود؟!

ولعمر الحق لقد صدق ابن القيم فإن العلم لا يتيسّر حصوله، وإن النجاح لا يمكن بلوغه بِرَاحَةِ الْجِسْمِ، ولا يكون إلا بإتعاب الجسم، وبز الخصم، وسهر العيون، وتقريح الجفون!

تَرُومُ الْعِزَّ ثُمَّ تَنَامُ لَيْلًا

يَغُوصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ اللَّئَالِي

فَمَنْ رَامَ الْعُلُوَّ بِغَيْرِ كَدٍّ

أَضَاعَ الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الْمُحَالِ

وقال آخر :

الْعِلْمُ حَرْبٌ لِلْفَتَى الْمُتَعَالِي

كَالسَّيْلِ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ الْعَالِي

وقال آخر:

تُرِيدِينَ إِدْرَاكَ الْمَعَالِي رَخِيصَةً .

وَلَا بُدَّ دُونَ الشَّهْدِ مِنْ إِبَرِ النَّحْلِ

وقال آخر :

دَبَبْتَ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا

حَدَّ النُّفُوسِ وَأَلْقَوْا دُونَهُ الأُزُرَا

وَكَابَدُوا الْمَجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ

وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَنْ وَافَى وَمَنْ صَبَرَا

لَا تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ

لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا

وقال آخر:

دبَبْتَ للمجد والساعون قد بلَغوا

حدَّ النفوس وألْقَوا دُونَه الأُزرَا

وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم

وعانق المجد من وافى ومن صبرا

لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

وقد ذكروا في ترجمة عبد الله بن عباس-رضي الله تعالى عنهما- أنه كان يجلس في حر الشمس منتظراً عمر بن الخطاب ليأخذ عنه العلم.

وروى الْحسن بن خَلاد رَحمَه الله فِي كِتَابه الْفَاضِل بِإِسْنَادِهِ عَن إمامنا الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِنَّه قَالَ لَا يطْلب هَذَا الْعلم من يَطْلُبهُ بِالْملكِ وغنى النَّفس فيفلح وَلَكِن من طلبه بذلة النَّفس وضيق الْعَيْش وخدمة الْعلمَاء أَفْلح”.

وقد فهم علماؤنا الكبار، من فقهاء، ومفسرين، ولغوين، ومحدثين، ونحويين وأطباء هذه القاعدة على وجهها الصحيح، فصاروا على ما هم عليه الآن.

وَقد بالغ بعض العلماء فقَالَ :” لَا يدْرك الْعلم إِلَّا بِالصبرِ على الذل”.

وَقَالَ :”حق على طلبة الْعلم بُلُوغ غَايَة جهدهمْ فِي الاستكثار من علمه وَالصَّبْر على كل عَارض يعرض دون طلبه وإخلاص النِّيَّة لله تَعَالَى فِي إِدْرَاك علمه نصا واستنباطا وَالرَّغْبَة إِلَى الله تَعَالَى فِي العون عَلَيْهِ”.

وَقَالَ الإِمَام أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يستعان على الْفِقْه بِجمع الهمة، ويستعان على حذف العلائق بِأخذ الْيَسِير عِنْد الْحَاجة. وَأنْشد بعض الْمُتَقَدِّمين:

تمنيت أَن تمسي فَقيها مناظرًا

بِغَيْر عناء فالجنون فنون

وفي “تذكرة الحفاظ” (ج3 ص830): قال عبد الرحمن بن أبي حاتم -رحمه الله-: “كنا بمصر سبعة أشهر، لم نأكل فيها مرقة، كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ، وبالليل: النسخ والمقابلة.

قال: فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخًا، فقالوا: هو عليل، فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا، فاشتريناها ، فلما صرنا إلى البيت، حضر وقت مجلس، فلم يمكنا إصلاحه، ومضينا إلى المجلس، فلم نزل حتى أتى عليه ثلاثة أيام، وكاد أن يتغير، فأكلناه نيئا، لم يكن لنا فراغ أن نعطيه من يشويه. ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.

وفي “سير أعلام النبلاء” (19/363): قال أبو مسعود عبد الرحيم الحاجي: سمعت ابن طاهر يقول: “بلتُ الدم في طلب الحديث مرتين، مرة ببغداد، وأخرى بمكة، كنت أمشي حافيا في الحر، فلحقني ذلك، وما ركبت دابة قط في طلب الحديث، وكنت أحمل كتبي على ظهري، وما سألت في حال الطلب أحدا، كنت أعيش على ما يأتي”.

وفي كتاب “المشوق إلى القراءة وطلب العلم” (ص 62 )، كان العلاّمة النّحوي محمّد بن أحمد أبو بكرٍ الخيّاط البغدادي : يدرسُ جميع أوقاته ، حتّى في الطّريق، و كان رُبَّما سَقَطَ في جُرفٍ أو خَبَطَتْهُ دَابّةٌ !

وفي “البداية والنهاية” لابن كثير(ج 11/ ص 332):” وقال أبو حاتم الرازي رحمه الله لابنه عبد الرحمن: يا بنيَّ، مشيتُ على قدمي في طلب الحديث أكثر من ألف فرسخ.

وقال ابن الآبَنُوسيِّ: كان الحافظُ الخطيب البغدادي رحمه الله يمشي وفي يده جزءٌ يُطالعه.

وفي كتاب “المنتظم” (ج 12 ص 381):” وقال ثعلب: ما فقدت إبراهيم الحربي رحمه الله من مجلس نحوٍ أو لغةٍ خمسين سنة.

وقد أصاب من قال:

يَا خَادِمَ الجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ

أَتَطْلبُ الرَّبْح فِيْمَا فِيْهِ خِسْرَانُ

إرْجِع إِلى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلهَا

فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالجِسْمِ إنْسَانُ

يريد أنَّ الإنسانَ إنسانٌ بروحه وقلبه، لا بجسمه وبدنه!

فمن أرادَ القمّة ، فليرفعِ الهِمّة.. فما وصل أحدٌ إلى مبتَغاه وهو هائمٌ يمشي على هواه.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى