مقالات

“سردية السلم وحوار الثقافات في فكر الشيخ عبدالله بن بيه” فريال إبراهيم – الإمارات

عبد الله بن بيه

يمكن الملاحظة بيُسر؛ أن “سردية السلم” في خطاب العلامة الشيخ عبدالله بن بيه، تتأسس على معيارية لازمة، تكاد تكون شرطية جازمة؛ بمعنى أنها تنتظم في مبنى ومحمولات الخطاب؛ كوشائج مفهومية ودلالية، تشد بعضها بعضاً في مختلف مفاصل سردية السلم، التي تكونت على مدى جهود نصف قرن ونيف من البناء الفقهي المقاصدي.

تنبني هذه المعيارية على ما يمكن أن نسميه “حوار الثقافات”، من أجل تدبير الاختلاف؛ بغرض التقريب ما بين المعتقدات على اختلاف الرؤى وتباين التصورات الفلسفية، والتوافق على إعادة بناء المشتركات، وبعثها في النواميس الإنسانية؛ حتى تتاح للمجتمعات البشرية فرصة تفعيلها من جديد؛ بما يتلاءم مع الواقع الحضاري المعاصر، من حيث التواؤم مع حاجات الإنسان المادية والمعنوية؛ من دون تناقض مع ذاته الإنسانية، وما يمكن أن يكون عليه المرء في مقصود الخير وبناء الحياة الطيبة، التي باتت تحول دونها في الغالب الأعم، سيرورات الحداثة الراهنة، وبخاصة لجهة هيمنة الآداتية أو طغيان العقلانية العلمية، التي أزاحت العقلانية الأخلاقية جانباً، وراحت تدفع بقوة إلى التشيؤ والفردانية والعدمية العبثية،حسب اعتقاد العديد من فلاسفة الأخلاق، الذين يعتبرون أن العلموية وسيطرة الآلة وفلسفة السوق، وميكانيزمات الإدارة والإنتاج والتوزيع، أفرغت الإنسان من الداخل، حيث “سادت القيم المادية، وغدا الإنسان كائناً جسديا، يعيش لِذاته مستغرقا في لَذّاته، لا ينظر في المآلات؛ إلا مآلات الربح من دون روح، والثروة من دون رائحة”؛ كما يقول الشيخ المجدد عبدالله بن بيه.

ينطوي “حوار الثقافات” في خطاب الشيخ المجدد على مقاربة منهجية متكاملة، قائمة على ما سميناه غير مرة، “مبدأ وصل ما انقطع بين الأرض والسماء، أو بين الله والإنسان”، وذلك من خلال إعادة حضور الدين والأخلاق أو المُثل العليا في جوهر الحداثة الراهنة، التي أسطرت العقل، أي جعلت منه أسطورة؛ من خلال ما عُرف في الأدبيات السياسة الغربية، بإزاحة الوعي الأسطوري، أو ما سماه ماكس فيبر “نزع الطابع السحري عن العالم”، ومبدأ الوصل في منهجية حوار الثقافات هنا، لا يتقصد إزاحة “أسطورة العقل” التي أخذت مكان “أسطورة النقل”؛ بتعبير هايدغر، أو تتغَيّا تغييب العقل في الوعي الحداثي؛ بقدر ما يريد مشاركة النقل والعقل في أسطورة الوعي الحداثي؛ باعتبار أنه “لا يمكن تعارض نقل صحيح مع عقل صريح، وإلا قُدِّمَ العقل الصريح الصحيح،وحُمِل النقل على التأويل أو عدم الثبوت“، حسب التأويلية الفقهية الجديدة التي يتمايز فيها خطاب الشيخ ابن بيه عن غيره من الفقهاء المعاصرين.

لذلك يمكن أن نلاحظ أن حوار الثقافات في “سردية السلم”، يتمحور حول ما يمكن أن نسميه التوسط بين “الثنائيات المتقابلة”، التي باتت في الحداثة الراهنة، وكأنها قيم يقينية على غرار الثنائيات في فلسفة الأخلاق (الخير والشر، الخطأ والصواب، الحسن والقبيح.. الخ)، إلا أنها في الواقع ليست كذلك. ما يقتضي ضرورة الموازنة بين ما يسمى “حقوق الأغلبية” و”حقوق الأقلية” في القيم الديمقراطية، التي يُفترض أن لا تطغى حقوق الأولى على الثانية؛ باعتبار أن المساواة في الكرامة لا تعني محو الفوارق، بل تعني تحويلها إلى طاقة إبداع، بدل أن تكون مدخلاً للتوتر أو الهيمنة. وحين تتحول الكرامة إلى مرجعية جامعة في الحقوق، يُصبح بإمكان الدولة أن تصوغ سياسات عمومية عادلة، لا تخضع لموازنات الأغلبية والأقلية، بل تنبني على مبدأ المواطنة الأخلاقية، حيث لا يُقاس الفرد بانتمائه، بل بإنسانيته، ولا يُقاس ولاؤه بالإخضاع، بل بالاحترام. وكذلك الأمر على مستوى ضرورة الموازنة بين “الخصوصيات الثقافية وفلسفة الحقوق” في التشريع والقانون، أو بين “الحرية والمسؤولية”؛ بمقتضى الضمير الأخلاقي. فمثلاً: الإساءة للمعتقدات لا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال، بتُكأة وهمية كاذبة على حق حرية التعبير!. والأمر عينه، فما يمكن أن تقبله ثقافة ما، ربما لا ترضاه ثقافة أخرى، وقد يكون غير مقبول في ثقافة ثالثة، ومحرّم في ثقافة رابعة.. وهلمّ دواليك. ولذلك من صواب العقل ومعقول المنطق أن يجري التنسيب أو التناسب، في سياق مراعاة الخصوصيات الثقافية في فلسفة الحقوق والتشريع والقانون، وإعادة النظر في مقاربات مفهوم حرية التعبير في سياق الحريات للجميع. وهذا هو بالدقة والتحديد ما يتقصده حوار الثقافات في “سردية السلم” في خطاب الشيخ عبدالله بن بيه. وذلك من خلال ما يمكن أن نسميها “فلسفة التوسيط” على صعوباتها؛ إذ “لا شيء أشدّ على النفس من متابعة الشرع، وهو التوسط في الأمور كلها، فهي أبداً متفلتة إلى أحد الطرفين لوجود هَواها فيه”؛ بتعبير العالم الصوفي ابن عباد النّفزي. فكيف يكون الحال إذا ما جمعنا هوى النفس مع المعتقدات والقناعات الأيديولوجية والخصوصيات الثقافية؟

  هذا هو ما يجعل “حوار الثقافات” الأساس في “سردية السلم” كما يؤطرها شيخ الإنسانيين العلامة عبدالله بن بيه؛ كضرورة حاقة من أجل التواصل بين خلاصات الوعي الإنساني في مختلف حقول المعرفة البشرية، الدينية أو الوضعية؛ بما تمثله من قيمة مضافة إلى روح أو جوهر “الإنسية” في عملية بناء الإنسان التي تتقصدها الحكمة والشريعة، وبين الثقافات عموماً؛ بما تشكله كل ثقافة من “أفق ثقافي”، أي حاضنة لنسق ثقافي معين، وفي الوقت عينه حاضنة لخصوصيات معينة، قد يصعب عليها التجاوز عن قيم بعينها، وعدم قبول أخرى. وهنا يتحتم التوسيط بالحوار من خلال “منهج الجسور الممدودة بين الحقول المعرفية والممرات الواصلة بين الفضاءات الثقافية، إنه منهج التحالف بين القيم، والتوازن بين الكليات، والتعايش بين الأفكار”، كما يقول الشيخ المجدد عبدالله بن بيه في “حوارات المواطنة الشاملة” (أبوظبي- 2018). ولا يكون ذلك إلا من خلال الاحتكام إلى قيم العقلانية الإيمانية والعلم والحوار والتسامح.

   وبناءً على منهج الجسور الممدودة في حوار الثقافات، يمكن أن يجري تنسيب المواقف من بعض القيم، ومن بعض الأشياء، ومن بعض الأفكار، وتجسير العلاقة بين الأفكار والأشخاص (وبين المعتقدات أو الثقافات)، فبدلاً من واقع قيم تُهاجِم وقيم تقاوِم، سيكون التعاون والتعاضد والتآزر. ويعتقد الشيخ عبدالله بن بيه أن أي خطوة جادة نحو “حوار الثقافات” وممارسته؛ ستنعكس إيجابياً على مختلف المجتمعات، وعلى مردود تفاعل الثقافات وتبادل العلاقات الإنسانية وأمن واستقرار البشرية جمعاء.

  وهكذا يكشف حوار الثقافات في سردية السلم، عن سمتين بارزتين:

الأولى: أن نزعة السلم تشكل سردية أصيلة في فكر الشيخ المقاصدي عبدالله بن بيه، وتستقي نسغها من روح الإسلام الرحمانية، وناموس العقل، وضمير الأنسنة؛ بكل قيمها الكونية المعاصرة.

الثانية: أن تدبير الاختلاف عن طريق حوار الثقافات، يمثل جوهر مشروع ابن بيه الإنسانوي، الذي يقوم على منهجية علمية راسخة؛ تجمع بين ما يمكن أن نسميها، “فلسفة الدين، وتديين الفلسفة”، أي أنه يؤصل علوم الدين ويُقَعِّدُ مقاصد الشريعة في خدمة الإنسان؛ وفق مقتضيات العصر في إطار النسق اللغوي القرآني، القائم على اليُسر والإمكان، أي بحدود المستطاع الإنساني. وأنه يصالح بين الحكمة والشريعة، ويعيد اتصال ما انقطع بينهما، كما فعل حكيم العرب والمسلمين الخالد ابن رشد الحفيد؛ باعتبار أن العقل هو طريق سعادة الإنسان في العاجلة والآجلة؛ لأن “الحكمة ضالة المؤمن”، حسب الحديث النبوي الشريف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى