د. أحمد الزبيدي
موضوع المحكم والمتشابه في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أمهات موضوعات التفسير، وعلوم القرآن، وعلوم التوحيد، ومناهج التفكير.
وتأتي أهمية هذا العلم لتعلقه بذات الله سبحانه وصفاته العليا، ومع أهميته البالغة؛ فقد ضلّت فيه الأحلام، وجنحت فيه الأقلام، وكثرت فيه الأوهام، وضاعت في مفاوزه العلوج والأعتام، وانقسمت الأمة فيه إلى شيع وأحزاب، وعمالقة وأقزام، ومن هؤلاء؛ محمد شحرور الذي ملأ كتابه ببدع التفسير، وانحرافات التفكير، والأباطيل والسمادير، وزعم في كتابه: (الكتاب والقرآن) (ص53) أن قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}. [هود:1] ليس جميع آيات المصحف، وإنما هي (مجموعة الآيات المحكمات)، وأن قوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23] لا يعني كل المصحف وإنما يعني “مجموعة آيات متشابهات”. هذا كلام شحرور، أما كلام العلم والعلماء، والعقل والعقلاء، بعيدا عن الكبر والجهل والغرور فهو كالآتي:
1- قال الإمام الرازي -رحمه الله- :” اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُحْكَمٌ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُتَشَابِهٌ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ، وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ.
أَمَّا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُحْكَمٌ، فَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: {الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ}. [يُونُسَ: 1].
{الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ}. [هُودٍ: 1].
فَذَكَرَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ جَمِيعَهُ مُحْكَمٌ، أي فَصِيحَ الْأَلْفَاظِ، صَحِيحَ الْمَعَانِي، وَكُلُّ قَوْلٍ وَكَلَامٍ يُوجَدُ كَانَ الْقُرْآنُ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي فَصَاحَةِ اللَّفْظِ وَقُوَّةِ الْمَعْنَى، وَلَا يَتْمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ إِتْيَانِ كَلَامٍ يُسَاوِي الْقُرْآنَ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْبِنَاءِ الْوَثِيقِ وَالْعَقْدِ الْوَثِيقِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ حَلُّهُ: مُحْكَمٌ، فَهَذَا مَعْنَى وَصْفِ جَمِيعِهِ بأنه محكم.
2- وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُتَشَابِهٌ، فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ}. [الزُّمَرِ: 23] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحُسْنِ وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}. [النِّسَاءِ: 82] أَيْ لَكَانَ بَعْضُهُ وَارِدًا عَلَى نَقِيضِ الْآخَرِ، وَلَتَفَاوَتَ نَسَقُ الْكَلَامِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالرَّكَاكَةِ.
وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ، فَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}.
وَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ، ثُمَّ مِنْ تَفْسِيرِهِمَا فِي عُرْفِ الشَّرِيعَةِ: أَمَّا الْمُحْكَمُ فَالْعَرَبُ تَقُولُ: حَاكَمْتُ، وَحَكَّمْتُ، وَأَحْكَمْتُ، بِمَعْنَى رَدَدْتُ، وَمَنَعْتُ، وَالْحَاكِمُ يَمْنَعُ الظَّالِمَ عَنِ الظُّلْمِ، وَحَكَمَةُ اللِّجَامِ الَّتِي هِيَ تَمْنَعُ الْفَرَسَ عَنِ الِاضْطِرَابِ، وَقَالَ جَرِيرٌ: أَحْكِمُوا سفهاءكم، أَيِ امْنَعُوهُمْ، وَبِنَاءٌ مُحْكَمٌ؛ أَيْ وَثِيقٌ يَمْنَعُ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ، وَسُمِّيَتِ الْحِكْمَةُ حِكْمَةً لِأَنَّهَا تَمْنَعُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي.
• وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مُشَابِهًا لِلْآخَرِ بِحَيْثُ يَعْجِزُ الذِّهْنُ عَنِ التَّمْيِيزِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا}. [الْبَقَرَةِ: 70] وَقَالَ فِي وَصْفِ ثِمَارِ الْجَنَّةِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً}. [الْبَقَرَةِ: 25] أَيْ مُتَّفِقَ الْمَنْظَرِ مُخْتَلِفَ الطُّعُومِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}. [الْبَقَرَةِ: 118] وَمِنْهُ يُقَالُ: اشْتَبَهَ عَلَيَّ الْأَمْرَانِ، إِذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَيُقَالُ لِأَصْحَابِ الْمَخَارِيقِ: أَصْحَابُ الشُّبَهِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مُشْتَبِهَاتٌ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُتَشَابِهَيْنِ عَجْزُ الْإِنْسَانِ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا سُمِّيَ كُلُّ مَا لَا يَهْتَدِي الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ بِالْمُتَشَابِهِ، إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَنَظِيرُهُ الْمُشْكِلُ سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَشْكَلَ، أَيْ دَخَلَ فِي شَكْلِ غَيْرِهِ فَأَشْبَهَهُ وَشَابَهَهُ، ثُمَّ يُقَالُ لِكُلِّ مَا غَمُضَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُمُوضُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُشْكِلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ ثُبُوتُهُ أَوْ عَدَمُهُ، وَكَانَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِهِ مُسَاوِيًا لِلْحُكْمِ بِعَدَمِهِ فِي الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ، وَمُشَابِهًا لَهُ، وَغَيْرَ مُتَمَيِّزٍ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِمَزِيدِ رُجْحَانٍ، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَ غَيْرُ الْمَعْلُومِ بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ، فَهَذَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ.
• النَّاسُ قَدْ أَكْثَرُوا مِنَ الْوُجُوهِ فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْوَجْهَ الْمُلَخَّصَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ، فَنَقُولُ: اللَّفْظُ الَّذِي جُعِلَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى وَلَا يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ النَّصُّ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ احْتِمَالُهُ لِأَحَدِهِمَا رَاجِحًا عَلَى الْآخَرِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ احْتِمَالُهُ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنْ كَانَ احْتِمَالُهُ لِأَحَدِهِمَا رَاجِحًا عَلَى الْآخَرِ سُمِّيَ ذَلِكَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاجِحِ ظَاهِرًا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْجُوحِ مُؤَوَّلًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ احْتِمَالُهُ لَهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ كَانَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا مَعًا مُشْتَرِكًا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ مُجْمَلًا، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ اللَّفْظَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا، أَوْ ظَاهِرًا، أَوْ مُؤَوَّلًا، أَوْ مُشْتَرِكًا، أَوْ مُجْمَلًا، أَمَّا النَّصُّ وَالظَّاهِرُ فَيَشْتَرِكَانِ فِي حُصُولِ التَّرْجِيحِ، إِلَّا أَنَّ النَّصَّ رَاجِحٌ مَانِعٌ مِنَ الْغَيْرِ، وَالظَّاهِرُ رَاجِحٌ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْغَيْرِ، فَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ المسمى بالمحكم.
• وَأَمَّا الْمُجْمَلُ وَالْمُؤَوَّلُ فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ غَيْرُ رَاجِحَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مَرْجُوحٍ، وَالْمُؤَوَّلُ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاجِحٍ فَهُوَ مَرْجُوحٌ لَا بِحَسَبَ الدَّلِيلِ الْمُنْفَرِدِ، فَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ الْمُسَمَّى المتشابه، لِأَنَّ عَدَمَ الْفَهْمِ حَاصِلٌ فِي الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى مُتَشَابِهًا إِمَّا لِأَنَّ الَّذِي لَا يُعْلَمُ يَكُونُ النَّفْيُ فِيهِ مُشَابِهًا لِلْإِثْبَاتِ فِي الذِّهْنِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ التَّشَابُهُ يَصِيرُ غَيْرَ مَعْلُومٍ، فَأُطْلِقَ لَفْظُ الْمُتَشَابِهِ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُحَصَّلُ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْهُومَيْنِ على السوية، فههنا يَتَوَقَّفُ الذِّهْنُ، مِثْلَ: الْقُرْءِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، إِنَّمَا الْمُشْكِلُ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ بِأَصْلِ وَضْعِهِ رَاجِحًا فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَمَرْجُوحًا فِي الْآخَرِ، ثُمَّ كَانَ الرَّاجِحُ بَاطِلًا، وَالْمَرْجُوحُ حَقًّا، وَمِثَالُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ}. [الْإِسْرَاءِ: 16] فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِأَنْ يَفْسُقُوا، وَمُحْكَمُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ}. [الْأَعْرَافِ: 28] رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ {وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها}. [الْأَعْرَافِ: 28] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}. [التَّوْبَةِ: 67] وَظَاهِرُ النِّسْيَانِ مَا يَكُونُ ضِدًّا لِلْعِلْمِ، وَمَرْجُوحُهُ التَّرْكُ وَالْآيَةُ الْمُحْكَمَةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. [مَرْيَمَ: 64] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى}. [طه: 52] .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ عَظِيمٌ فَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ يَدَّعِي أَنَّ الْآيَاتِ الْمُوَافِقَةَ لِمَذْهَبِهِ مَحْكَمَةٌ، وَأَنَّ الْآيَاتِ الْمُوَافِقَةَ لِقَوْلِ خَصْمِهِ مُتَشَابِهَةٌ، فَالْمُعْتَزِلِيُّ يَقُولُ قَوْلُهُ: {فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ}. [الْكَهْفِ: 29] مُحْكَمٌ، وقوله: {وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}. [التَّكْوِيرِ: 29] مُتَشَابِهٌ، وَالسُّنِّيُّ يَقْلِبُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ قَانُونٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ فَنَقُولُ: اللَّفْظُ إِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ وَكَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِهِمَا رَاجِحًا، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ مَرْجُوحًا، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الرَّاجِحِ وَلَمْ نَحْمِلْهُ عَلَى الْمَرْجُوحِ، فَهَذَا هُوَ الْمُحْكَمُ وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَرْجُوحِ وَلَمْ نَحْمِلْهُ عَلَى الرَّاجِحِ، فَهَذَا هُوَ الْمُتَشَابِهُ فَنَقُولُ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ الْمُنْفَصِلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا حَصَلَ بَيْنَ ذَيْنِكَ الدَّلِيلَيْنِ اللَّفْظِيَّيْنِ تَعَارُضٌ وَإِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ تَرْكُ ظَاهِرِ أَحَدِهِمَا رِعَايَةً لِظَاهِرِ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَحَدَهُمَا قَاطِعٌ فِي دَلَالَتِهِ وَالْآخِرَ غَيْرُ قَاطِعٍ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الرُّجْحَانُ، أَوْ يُقَالُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ رَاجِحًا إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ أَرْجَحَ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الرُّجْحَانُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الدَّلَائِلَ اللَّفْظِيَّةَ لَا تَكُونُ قَاطِعَةً الْبَتَّةَ، لِأَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ لَفْظِيٍّ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ، وَنَقْلِ وُجُوهِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، وَمَوْقُوفٌ عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ وَعَدَمِ الْمَجَازِ، وَعَدَمِ التَّخْصِيصِ، وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ، وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ النَّقْلِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَكَانَ ذَلِكَ مَظْنُونٌ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَظْنُونِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَظْنُونًا، فَثَبَتَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ لَا يَكُونُ قَاطِعًا.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ أَقْوَى مِنَ الدَّلِيلِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الِاحْتِمَالِ قَائِمًا فِيهِمَا مَعًا، فَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ صَرْفُ الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ ظَنِّيًّا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ، بَلْ يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي الْمَسَائِلِ الْفَقِهِيَّةِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الرَّاجِحِ إِلَى مَعْنَاهُ الْمَرْجُوحِ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ الْعَقْلِيِّ عَلَى أَنَّ مَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ مُحَالٌ، وَقَدْ عَلِمْنَا فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ الْمَرْجُوحِ جَائِزٌ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَعِنْدَ هَذَا يَتَعَيَّنُ التَّأْوِيلُ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الرَّاجِحِ إِلَى مَعْنَاهُ الْمَرْجُوحِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الرَّاجِحَ مُحَالٌ عَقْلًا ثُمَّ إِذَا أَقَامَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ وَعَرَفَ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُهُ، فَعِنْدَ هَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَرْجُوحَ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ مَاذَا لِأَنَّ السَّبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَرْجِيحِ مَجَازٍ عَلَى مَجَازٍ وَتَرْجِيحِ تَأْوِيلٍ عَلَى تَأْوِيلٍ، وَذَلِكَ التَّرْجِيحُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ وَالدَّلَائِلُ اللَّفْظِيَّةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا ظَنِّيَّةٌ لَا سِيَّمَا الدَّلَائِلَ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي تَرْجِيحِ مَرْجُوحٍ عَلَى مَرْجُوحٍ آخَرَ يَكُونُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَكُلُّ هَذَا لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ وَالتَّعْوِيلُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ مُحَالٌ فَلِهَذَا التحقيق المتين مذهباً أَنَّ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الظَّاهِرِ مُحَالٌ لَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِي تَعْيِينِ التَّأْوِيلِ، فَهَذَا مُنْتَهَى مَا حَصَّلْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْهِدَايَةِ وَالرَّشَادِ.
وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَهُوَ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ بِالْمُجْمَلِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ دَلَالَةَ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَإِنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ الَّتِي تُفَسِّرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِهَا عَلَى السَّوِيَّةِ لَا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ النَّاسِخُ، وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الْمَنْسُوخُ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ مَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ جَلِيٍّ، أَوْ بِدَلِيلٍ خَفِيٍّ، فَذَاكَ هُوَ الْمُحْكَمُ، وَكُلُّ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَذَاكَ هُوَ الْمُتَشَابِهُ، وَذَلِكَ كَالْعِلْمِ بِوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَالْعِلْمِ بِمَقَادِيرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها}. [الأعراف: 187] [النازعات: 42] .
الْفَوَائِدِ الَّتِي لِأَجْلِهَا جُعِلَ بَعْضُ الْقُرْآنِ مُحْكَمًا وَبَعْضُهُ مُتَشَابِهًا.
اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُلْحِدَةِ مَنْ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ لِأَجْلِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ، وَقَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ تَكَالِيفَ الْخَلْقِ مُرْتَبِطَةٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَاهُ بِحَيْثُ يَتَمَسَّكُ بِهِ كُلُّ صَاحِبِ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَالْجَبْرِيُّ يَتَمَسَّكُ بِآيَاتِ الْجَبْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً}. [الْأَنْعَامِ: 25] وَالْقَدَرِيُّ يَقُولُ: بَلْ هَذَا مَذْهَبُ الْكُفَّارِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ عَنِ الْكُفَّارِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ}. [فُصِّلَتْ: 5] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ {وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ} [الْبَقَرَةِ: 88] وَأَيْضًا مُثْبِتُ الرُّؤْيَةِ يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ} [الْقِيَامَةِ: 22، 23] وَالنَّافِي يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ} [الْأَنْعَامِ: 103] وَمُثْبِتُ الْجِهَةِ يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ {يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النَّحْلِ: 50] وَبِقَوْلِهِ {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه: 5] وَالنَّافِي يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّورَى: 11] ثُمَّ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُسَمِّي الْآيَاتِ الْمُوَافِقَةَ لِمَذْهَبِهِ: مُحْكَمَةً، وَالْآيَاتِ الْمُخَالِفَةَ لِمَذْهَبِهِ: مُتَشَابِهَةً، وَرُبَّمَا آلَ الْأَمْرُ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ إِلَى تَرْجِيحَاتٍ خَفِيَّةٍ، وَوُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ أَنْ يَجْعَلَ الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الدِّينِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ هَكَذَا، أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ ظَاهِرًا جَلِيًّا نَقِيًّا عَنْ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى حُصُولِ الْغَرَضِ.
فوائد المتشابهات:
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا في فوائد المتشابهات وجوهاً:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَتَى كَانَتِ الْمُتَشَابِهَاتُ مَوْجُودَةً، كَانَ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ أَصْعَبَ وَأَشَقَّ وَزِيَادَةُ الْمَشَقَّةِ تُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}. [آلِ عِمْرَانَ: 142] .
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مُحْكَمًا بِالْكُلِّيَّةِ لَمَا كَانَ مُطَابِقًا إِلَّا لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ تَصْرِيحُهُ مُبْطِلًا لِكُلِّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَفِّرُ أَرْبَابَ الْمَذَاهِبِ عَنْ قَبُولِهِ وَعَنِ النَّظَرِ فِيهِ، فَالِانْتِفَاعُ بِهِ إِنَّمَا حَصَلَ لَمَّا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَعَلَى الْمُتَشَابِهِ، فَحِينَئِذٍ يَطْمَعُ صَاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ أَنْ يَجِدَ فِيهِ مَا يُقَوِّي مَذْهَبَهُ، وَيُؤْثِرُ مَقَالَتَهُ، فَحِينَئِذٍ يَنْظُرُ فِيهِ جَمِيعُ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ، وَيَجْتَهِدُ فِي التَّأَمُّلِ فِيهِ كُلُّ صَاحِبِ مَذْهَبٍ، فَإِذَا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ صَارَتِ الْمُحْكَمَاتُ مُفَسِّرَةً لِلْمُتَشَابِهَاتِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَخَلَّصُ الْمُبْطِلُ عَنْ بَاطِلِهِ وَيَصِلُ إِلَى الْحَقِّ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ افْتَقَرَ النَّاظِرُ فِيهِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَحِينَئِذٍ يَتَخَلَّصُ عَنْ ظُلْمَةِ التَّقْلِيدِ، وَيَصِلُ إِلَى ضِيَاءِ الِاسْتِدْلَالِ وَالْبَيِّنَةِ، أَمَّا لَوْ كَانَ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ فَحِينَئِذٍ كَانَ يَبْقَى فِي الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، افْتَقَرُوا إِلَى تَعَلُّمِ طُرُقِ التَّأْوِيلَاتِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَافْتَقَرَ تَعَلُّمُ ذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَعِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مَا كَانَ يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، فَكَانَ إِيرَادُ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ السَّبَبُ الْأَقْوَى فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَعْوَةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَطَبَائِعُ الْعَوَامِّ تَنْبُو فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، فَمَنْ سَمِعَ مِنَ الْعَوَامِّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِثْبَاتَ مَوْجُودٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا مُشَارٍ إِلَيْهِ، ظَنَّ أَنَّ هَذَا عَدَمٌ وَنَفْيٌ فَوَقَعَ فِي التَّعْطِيلِ، فَكَانَ الْأَصْلَحُ أَنْ يُخَاطَبُوا بِأَلْفَاظٍ دَالَّةٍ عَلَى بَعْضِ مَا يُنَاسِبُ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ وَيَتَخَيَّلُونَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَخْلُوطًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ الصَّرِيحِ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي يُخَاطَبُونَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يُكْشَفُ لَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ هُوَ الْمُحْكَمَاتُ، فَهَذَا مَا حَضَرَنَا فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
وبهذا يتضحُ لنا ضلال شحرور، وفساد أقواله، وبطلان أحواله .
زر الذهاب إلى الأعلى