نكاد أن نرى بشكل واضح، ورسم لائح، أثر المرأة في حياة العظماء، وسيرة الأدباء وسلوك الحكماء، والنوابغ من الرجال، وغالبًا ما تكون المرأة في هذا المقام امْرَأَة حَازِمَة، لَبِيبَة عازمة، تمتاز بشخصية قوية، وحضور ، وسواءٌ في ذلك أن تكون المرأة؛ أماًّ، أو زوجة، أو حبيبة، فأي نوع من الأمهات كانت والدة أبي الطيب المتنبي ؟!
حدثتنا كتب الأخبار وهي ضنينة أن أم المتنبي كانت همدانية صحيحة النسب من صلحاء النساء الكوفيات، ولم تقنع هذه الأخبار عددًا من الباحثين في حياة المتنبي؛ فاتخذوها مشجبًا يعلقون عليه شكوكهم في ولادة أبي الطيب، وسواء كنا معهم أم كنا ضدهم فإن ذلك لن يقدم شيئا في موضوعنا، لأن أبا الطيب هو الآخر بخلَ علينا بالحديث عن أمه ، وكل ما ورد في ديوانه عن أمه كان يقصد به جدته التي تكفلت بتربيته وتعليمه، ولعل بخله في الحديث عنها يرجع إلى أنه لم يتعرف عليها ، ويتمتع بعطفها، ويهنأ بحنانها، ولذا لم يتفطر فلبه عليها، ولو كان الأمر شيئًا من ذلك لما وجد مندوحة من ذكرها في شعره، ولعل أمه أحست بدنو أجلها، فأوصت به إلى أمها، فعوضته الجدة حنان الأم وعطفها، فكانت له أمًا وأبًا ومعلمًا، وكان لها ابنًا بارًا، وتلميذًا مطيعًا، وقد ذكر أبو الطيب شيئًا من ذلك في شعره حين رثاها.
أما المرأة الحبيبة أو المعشوقة في حياة المتنبي فقد رأى العلامة أبو فهر في كتابه الشهير “المتنبي” أن أبًا الطيب كان عاشقًًا هائمًا بحب خولة أخت الأمير سيف الدولة الحمداني، وقد اجتهد أبو فهر ليأتي بأدلة وبراهين يقوم أكثرها على النظر الثاقب، والاستنتاج الصائب، والتحليل العميق لإثبات ذلك.
ومن هذه الأدلة التي يذكرها شاكر ميميّته الرائعة الشهيرة التي يقول فيها :
واحر قلباه ممّن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
مالي أكتم حباً قد برى جسدي
وتدّعي حب سيف الدولة الأمم
إن كان يجمعنا حب لغرته
فليت أنّا بقدر الحب نقتسم
نعم فالذي رماه سيف الدولة بلا جدال، لكن أي هوى اتقى به سيف الدولة رد المتنبي ! .. أهو هوى ربة القرط أم هوى رب الحسام .. وإن كان رب الحسام فهل يعبر عنه بالهوى على العادة؟
فهذه القصيدة وإن ذكرها الشراح في عداد القصائد التي يمدح فيها المتنبي سيف الدولة، إلا أن أبا فهر يخالفهم جميعا ويراها قصيدة غزلية في حب “خولة” أخت “سيف الدولة الحمداني”، فأبياتها كلها تفيض حرارة، وتنبض شوقًا، وقد كاد البيت الأخير يصرخ بذلك بشكل فاضح، فحب “خولة” هو الذي كسر كف المتنبي وقوسه وسهامه، و”سيف الدولة” حين قلاه وجفاه لم يجد المتنبي شيئا يتقي به غير لوعته بحب خولة.
أنظر إلى قوله :
فلو كان مابي من حبيب مقنّع
عذرت، ولكن من حبيب مُعمم
فالحبيب المقنَّع” هو كناية عن المرأة، و “الحبيب المعمّم” هو كناية عن الرجل.
فهو في هذا البيت وما قبله قد ذكر هوى حبيبٍ مقنعٍ مقابلٌ لهوى حبيبٍ معمم وكما قال الشيخ شاكر أن مقابلته بينهما تدل على أن ذات القرط لها صلة بالمعمم.
ويذهب أبو فهر -رحمه الله- إلى أن بائيته في رثاء “خولة” أقوى دليل على حبه إياها :
طَوَى الجَزِيرَةَ حَتَّى جَاَءني خَبَرٌ
فَزِعْتُ فِيْهِ بآمالِي إِلى الكَذِبِ
حَتَّى إِذا لَمْ يَدَعْ لِي صِدْقُهُ أَمَلاً
شَرِقْتُ بالدَّمْعِ حَتَّى كادَ يَشْرَقُ بِي
تَعَثَّرتْ بِهِ في الأَفْوَاهِ أَلْسُنُها
والُرْدُ في الطُّرْقِ والأَقْلامُ في الكُتُبِ
كَأَنَّ فَعْلَةَ لم تَمْلأْ مَوَاكِبُها
ديِارَ بَكْرٍ وَلَمْ تَخْلَعْ وَلَمْ تَهَبِ
ولم تَرُدَّ حَيَاةً بَعْدَ تَوْلِيَةٍ
وَلَمْ تُغِثْ دَاعِياً بالوَيْلِ وَالحَرَبِ
أَرى العِراقَ طَويلَ اللَّيْلِ مُذْ نُعِيَتْ
فكَيْفَ لَيْلُ فَتى الفِتْيانِ في حَلَبِ
يَظُنُّ أَنَّ فُؤَادي غَيْرُ مُلْتَهِبٍ
وَأَنَّ دَمْعَ جُفونِي غَيْرُ مًنْسَكِبِ
بَلَى وَحُرْمَةِ مَنْ كَانَتْ مُراعِيَةً
لِحُرْمَةِ المَجْدِ والقُصَّادِ والأَدَبِ
وَمَنْ مَضَتْ غَيْرَ مَوْروثٍ خَلاَئِقُها
وَإِنْ مَضَتْ يَدُها مَوْرُوثَةَ النَّشَبِ
وَهَمُّها في العُلاَ والمَجْدِ ناشِئَةً
وَهَمُّ أَترابِها في اللَّهْوِ واللَّعِبِ
قال الأستاذ محمد سعيد العريان :” كتب في تأريخ الأدب قصة غرام عجيبة، لم يعرفها الناس إلا بعد ألف سنة، لأن العاشق فيها أكبر وأعظم من أن يقول؛ (أنا أحب .!) وظلت هذه القصة سراً في ضمير الغيب كل هذا الزمان، لتكون بهذا الكتمان العجيب رمزًاً عجيبًاً لصبر هذا الشاعر العاشق: أبي الطيب المتنبي.