مقالات

بين العامية والفصحى (31)         د.  أحمد الزبيدي         –          الإمارات

"أباطيل وأسمار" (9) مصادر المعرفة الإنسانية

 

د. أحمد الزبيدي

 

يزعم محمد شحرور في كتابه: (الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة) :” أن العالم المادي هو أصل المعرفة الإنسانية، وأن الكون بكل مكوناته؛ من أحياء وجماد خاضع لجدل التناقض والتطور العضوي في الطبيعة والقرآن الكريم”!.

قال شحرور: ” إن العلاقة بين الوعي والوجود المادي هي المسألة الأساسية في الفلسفة،…وأن مصدر المعرفة الإنسانية هو العالم المادي خارج الذات الإنسانية…”.

كُلّ من درس شيئًا من الفلسفة يعلم يقينًا أن المسألة الأساس في الفلسفة هي: هل الكون أزلي أم مخلوق؟ لأن معرفة ذلك هو الأساس وحجر الزاوية الذي تبنى عليه النظريات العلمية، والآراء الفلسفية التي مهمتها أصلا بحث الفلسفة الوجودية.

ونظرًا لأنه ثبت علميًا، وفلسفيًا، وفيزيائيًا، أن الكون حادث، وكل حادث مخلوق، وكل مخلوق إلى فناء، وهو ما يتفق بديهة مع قول الإسلام ويصدقه ولا سيما بعد شيوع ما يسمونه ب”نظرية الانفجار العظيم”، فإن الفلسفة المادية قد انهارت بعدما فقدت أصلها الأصيل وركنها الركين؛ وهو قولها : بأزلية هذا الكون.

 ومما يؤسف له أن هذا القول قد قال به ابن سينا والفارابي وابن رشد الحفيد، وبذلك يسقط قول شحرور وغيره ممن يقول بالعلاقة بين الوحي والوجود المادي، وإذا نظرنا إلى  الكون وجدناه مخلوقا يضم مخلوقات مادية وروحية، فهو ليس ماديا محضا، ولا روحيا محضا، وإنما هو مزيج بين الاثنين.

والإنسان – سيد المخلوقات- هو الاخر مكون من مادة وروح، فلا يصح أن يقال بأن الروح هي انعكاس المادة، لأن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا بأنه خلق الإنسان من تراب وروح، قال تعالى : {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ}. [السَّجْدَةِ: 7، 8].

وقال : {فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الْحِجْرِ: 29]

وقال : {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}. [السَّجْدَة : 9].

مصادر المعرفة

ثم إن مصادر المعرفة الإنسانية ليست محصورة في مخرجات العالم المادي كما يزعم شحرور وغيره، وإلا فماذا نقول عن الوحي والنظر، وبدهيات العلم الضروري!

قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج : 8].

قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره : “الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ، وَبِالْهُدَى الِاسْتِدْلَالُ وَالنَّظَرُ لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ الْوَحْيُ.”

ثم إن استشهاد شحرور بالآية الكريمة: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النَّحْلِ: 78]، على أن الحواس هي مصدر المعرفة الوحيد هو خطا فاحش.

 صحيح أن الله سبحانه  وهب الإنسان هذه الحواس  لتعينه عَلَى تَحْصِيلِ العلم والمعرفة فَقَالَ فِي السَّمْعِ: {َهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ}. [الْبَلَدِ: 10] وَقَالَ فِي الْبَصَرِ: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فُصِّلَتْ: 53] وَقَالَ فِي الْفِكْرِ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}. [الذَّارِيَاتِ: 21] إلا أن هناك نوافذ أخرى لابد منها لتحصيل المعارف، وقد ذكرها الإمام الرازي في تفسيره فقال: ” فالحاصل أن استعداد النفس لتحصيل هذه المعارف هو الذهن. ثم قال: الفكر: وهو انتقال الروح من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة، قال بعض المحققين: إن الفكر يجري مجرى التضرع إلى الله تعالى في استنزال العلوم من عنده.

  • الحدس: ولا شك أن الفكر لا يتم عمله إلا بوجدان شيء يتوسط بين طرفي المجهول لتصير النسبة المجهولة معلومة، فإن النفس حال كونها جاهلة كأنها واقفة في ظلمة ولا بد لها من قائد يقودها وسائق يسوقها وذلك هو المتوسط بين الطرفين وله إلى كل واحد منهما نسبة خاصة فيتولد من نسبته إليهما مقدمتان فكل مجهول لا يحصل العلم به إلا بواسطة مقدمتين معلومتين والمقدمتان هما كالشاهدين فكما أنه لا بد في الشرع من شاهدين فكذا لا بد في العقل من شاهدين وهما المقدمتان اللتان تنتجان المطلوب فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط هو الحدس.

  • الذكاء: وهو شدة الحدس وكماله وبلوغه الغاية القصوى ، وذلك لأن الذكاء هو المضاء في الأمر وسرعة القطع بالحق وأصله من ذكت النار وذكت الريح وشاة مذكاة أي مدرك ذبحها بحدة السكين.

  • الفطنة:  وهي عبارة عن التنبه لشيء قصد تعريضه، ولذلك فإنه يستعمل في الأكثر في استنباط الأحاجي والرموز.

  • الخاطر: وهو حركة النفس نحو تحصيل الدليل وفي الحقيقة ذلك المعلوم هو الخاطر بالبال والحاضر في النفس ولذلك يقال: هذا خطر ببالي إلا أن النفس لما كانت محلا لذلك المعنى الخاطر جعلت خاطرا إطلاقا لاسم الحال على المحل.

  • الوهم: وهو الاعتقاد المرجوح، وقد يقال إنه عبارة عن الحكم بأمور جزئية غير محسوسية لأشخاص جزئية جسمانية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة المؤذي.

  • الظن: وهو الاعتقاد الراجح، ولما كان قبول الاعتقاد للقوة والضعف غير مضبوط فكذا مراتب الظن غير مضبوطة فلهذا قيل إنه عبارة عن ترجيح أحد طرفي المعتقد في القلب على الآخر مع تجويز الطرف الآخر ثم إن الظن المتناهي في القوة قد يطلق عليه اسم العلم فلا جرم قد يطلق أيضا على العلم اسم الظن كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46] قالوا: إنما أطلق لفظ الظن على العلم هاهنا لوجهين: أحدهما: التنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالإضافة إلى علمه في الآخرة كالظن في جنب العلم.

  • لثاني: أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى: {الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا}. [الحجرات: 15] واعلم أن الظن إن كان عن أمارة قوية قبل ومدح وعليه مدار أكثر أحوال هذا العلم.

وإن كان عن أمارة ذم ضعيفة كقوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا }.[النجم: 28] وقوله {إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12].

  • الخيال: وهو عبارة من الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته. ومنه الطيف الوارد من صورة المحبوب خيالا، والخيال قد يقال لتلك الصورة في المنام وفي اليقظة، والطيف لا يقال إلا فيما كان في حال النوم.

  • البديهة: وهي المعرفة الحاصلة ابتداء في النفس لا بسبب الفكر كعلمك بأن الواحد نصف الاثنين.

  •  الأوليات: وهي البديهيات بعينها، والسبب في هذه التسمية أن الذهن يلحق محمول القضية بموضوعها أولا لا بتوسط شيء آخر فأما الذي يكون بتوسط شيء آخر. فذاك المتوسط هو المحمول أولًا

  •  الروية، وهي ما كان من المعرفة بعد فكر كثير، وهي من روى.

  • الكياسة: وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت»[1] .

من حيث إنه لا خير يصل إليه الإنسان أفضل مما بعد الموت.

  • الخبرة: وهي معرفة يتوصل إليها بطريق التجربة، يقال خبرته قال أبو الدرداء: وجدت الناس أخبر تقله. وقيل هو من قولهم: ناقة خبرة. أي غزيرة اللبن، فكان الخبر هو غزارة المعرفة. ويجوز أن يكون قولهم ناقة خبرة: هي المخبر عنها بغزارتها.

  • الرأي: وهو إحاطة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب، وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي، والرأي للفكر كالآلة للصانع، ولهذا قيل: إياك والرأي الفطير، وقيل: دع الرأي تصب.

  • الفراسة: وهي الاستدلال بالحق الظاهر على الخلق الباطن، وقد نبه الله تعالى على صدق هذا الطريق بقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين}. [الحجر: 75] وقوله تعالى: {تعرفهم بسيماهم}. [البقرة: 273] وقوله تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول}. [محمد: 30] واشتقاقها من قولهم: فرس السبع الشاة، فكأن الفراسة اختلاس المعارف، وذلك ضربان: ضرب يحصل للإنسان عن خاطره ولا يعرف له سبب، وذلك ضرب من الإلهام بل ضرب من الوحي، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن في أمتي لمحدثين وإن عمر لمنهم»[2] ويسمى ذلك أيضا النفث في الروع، والضرب الثاني من الفراسة ما يكون بصناعة متعلمة وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة وقال أهل المعرفة في قوله تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه }. [هود: 17] إن البينة هو القسم الأول وهو إشارة إلى صفاء جوهر الروح والشاهد هو القسم الثاني وهو الاستدلال بالأشكال على الأحوال.

  • وأخيرا قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها}.

وقوله: {لا علم لنا إلا ما علمتنا } وقوله : {الرحمن علم القرآن }.

________________________________________________-

[1] – أخرجه الترمذي برقم  (2459)، وأحمد مختصرا برقم   (17164) ، وابن ماجه  برقم (4260) باختلاف يسير. وهو حديث صحيح

[2] – سنن الترمذي ( 3693).وهو حدبث صحيح

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى