مقالات

دراسات قرآنية (17) الأخيرة د . أحمد الزبيدي – الإمارات

د. أحمد الزبيدي

ومن الآيات التي استنبط منها العلماء جواز رؤية الله-جل وعز- قوله تعالى : {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.  الكهف: 109- 110]

قال الإمام الفخر الرازي : ” الرجاء: هو ظن المنافع الواصلة إليه، والخوف: ظن المضار الواصلة إليه، وأصحابنا حملوا لقاء الرب على رؤيته، والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله، وهذه المناظرة قد تقدمت، والعجب أنه تعالى أورد في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية الله في ثلاث آيات: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: {أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ } .[الْكَهْفِ: 105] .

وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: {كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}. [الْكَهْفِ: 107] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ}، وَلَا بيان أَقْوَى مِنْ ذلك.

  • ومنها قوله تعالى في سورة الزمر : {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}. [34].

قال الإمام الرازي :” ومن الناس من تمسك بهذه الآية في أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة، قالوا إن الذين يعتقدون أنهم يرون الله تعالى لا شك أنهم داخلون تحت قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به}، لأنهم صدقوا الأنبياء عليهم السلام، ثم إن ذلك الشخص يريد رؤية الله تعالى فوجب أن يحصل له ذلك لقوله تعالى: {لهم ما يشاءون عند ربهم}، فإن قالوا: لا نسلم أن أهل الجنة يشاءون ذلك، قلنا هذا باطل لأن الرؤية أعظم وجوه التجلي وزوال الحجاب، ولا شك أنها حالة مطلوبة لكل أحد نظرا إلى هذا الاعتبار، بل لو ثبت بالدليل كون هذا المطلوب ممتنع الوجود لعينه فإنه يترك طلبه، لا لأجل عدم المقتضي للطلب، بل لقيام المانع وهو كونه ممتنعا في نفسه، فثبت أن هذه الشبهة قائمة والنص يقتضي حصول كل ما أرادوه وشاءوه فوجب حصولها، ومنها أيضا قوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}. [الشورى :51].

قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ :هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَصَرَ أَقْسَامَ وَحْيِهِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَلَوْ صَحَّتْ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَصَحَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ الْعَبْدِ حَالَ مَا يَرَاهُ الْعَبْدُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ قِسْمًا رَابِعًا زَائِدًا عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْقِسْمَ الرَّابِعَ بِقَوْلِهِ: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ}، إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ وَالْجَوَابُ نَزِيدُ فِي اللَّفْظِ قَيْدًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَزِيَادَةُ هَذَا الْقَيْدِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ لَكِنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَبَيْنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ الرُّؤْيَةِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ومنها قوله تعالى : {مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى}. النجم : 11].

الميسألةالأولى : الفؤاد فؤاد من؟ نقول المشهور أنه فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم، معناه أنه ما كذب فؤاده، واللام لتعريف ما علم حاله لسبق ذكر محمد عليه الصلاة والسلام في قوله: { إِلَى عَبْدِهِ }، وفي قوله: { وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى }. [النجم: 7] وقوله تعالى: { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ}. [النجم: 2] ويحتمل أن يقال ما كذب الفؤاد أي جنس الفؤاد لأن المكذب هو الوهم والخيال، يقول كيف يرى الله أو كيف يرى جبريل مع أنه ألطف من الهوى والهواء لا يرى، وكذلك يقول الوهم والخيال إن رأى ربه رأى في جهة ومكان وعلى هيئة والكل ينافي كون المرئي إلها، ولو رأى جبريل عليه السلام مع أنه صار على صورة دحية أو غيره فقد انقلبت حقيقته ولو جاز ذلك لارتفع الأمان عن المرئيات، فنقول رؤية الله تعالى ورؤية جبريل عليه السلام على ما رآه محمد عليه الصلاة والسلام جائزة عند من له قلب فالفؤاد لا ينكر ذلك، وإن كانت النفس المتوهمة والمتخيلة تنكره.

المسألة الثانية: ما معنى ما كذب؟ نقول فيه وجوه: الوجه الأول: ما قاله الزمخشري وهو أن قلبه لم يكذب وما قال إن ما رآه بصرك ليس بصحيح، ولو قال فؤاده ذلك لكان كاذبا فيما قاله وهو قريب مما قاله المبرد حيث قال: معناه صدق الفؤاد، فيما رأى، [رأى] شيئًا فصدق فيه الثاني: قرئ ما كذب الفؤاد بالتشديد ومعناه ما قال إن المرئي خيال لا حقيقة له.

 الميسألة الثالثة: هو أن هذا مقرر لما ذكرنا من أن محمدا صلى الله عليه وسلم، لما رأى جبريل عليه السلام خلق الله له علما ضروريا علم أنه ليس بخيال وليس هو على ما ذكرنا قصد الحق، وتقديره ما جوز أن يكون كاذبا وفي الوقوع وإرادة نفي الجواز كثير قال الله تعالى: { لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ }. [غافر: 16] وقال: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ }. [الأنعام: 103] وقال: { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ}. [النمل: 93] والكل لنفي الجواز بخلاف قوله تعالى: { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }. [يوسف: 56] { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا}. [الكهف: 30]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}. [النساء: 48] فإنه لنفي الوقوع.

المسألةالرابعة : الرائي في قوله: {ما رأى}، هو الفؤاد أو البصر أو غيرهما؟ نقول فيه وجوه:

 الأول: الفؤاد، كأنه تعالى قال: ما كذب الفؤاد ما رآه الفؤاد أي لم يقل إنه جني أو شيطان بل تيقن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح.

 الثاني: البصر أي: ما كذب الفؤاد ما رآه البصر، ولم يقل إن ما رآه البصر خيال.

 الثالث: ما كذب الفؤاد ما رأى محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا على قولنا الفؤاد للجنس ظاهر أي القلوب تشهد بصحة ما رآه محمد صلى الله عليه وسلم [من الرؤيا] وإن كانت الأوهام لا تعترف بها.

المسألة الخامسة : ما المرئي في قوله ما رأى؟.

 نقول على الاختلاف السابق والذي يحتمل الكلام وجوه ثلاثة:

 الأول: الرب تعالى.

 الثاني: جبريل عليه السلام .

الثالث: الآيات العجيبة الإلهية، فإن قيل كيف تمكن رؤية الله تعالى بحيث لا يقدح فيه ولا يلزم منه كونه جسما في جهة؟ نقول: اعلم أن العاقل إذا تأمل وتفكر في رجل موجود في مكان، وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله، و [إذا] تفكر في أمر لا يوجد أصلا وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله تعالى يجد بينهما فرقا وعقله يصحح الكلام الأول ويكذب الكلام الثاني، فذلك ليس بمعنى كونه معلوما لأنه لو قال الموجود معلوم الله والمعدوم معلوم الله لما وجد في كلامه خللا واستبعادا فالله راء بمعنى كونه عالما، ثم إن الله يكون رائيا ولا يصير مقابلا للمرئي، ولا يحصل في جهة ولا يكون مقابلا له، وإنما يصعب على الوهم ذلك من حيث إنه لم ير شيئا إلا في جهة فيقول إن ذلك واجب، ومما يصحح هذا أنك ترى في الماء قمرا وفي الحقيقة ما رأيت القمر حالة نظرك إلى الماء إلا في مكانه فوق السماء فرأيت القمر في الماء، لأن الشعاع الخارج من البصر اتصل به فرد الماء ذلك الشعاع إلى السماء، لكن وهمك لما رأى أكثر ما رآه في المقابلة لم يعهد رؤية شيء يكون خلفه إلا بالتوجه إليه، قال إني أرى القمر، ولا رؤية إلا إذا كان المرئي في مقابلة الحدقة ولا مقابل للحدقة إلا الماء، فحكم إذن بناء على هذا أنه يرى القمر في الماء، فالوهم يغلب العقل في العالم لكون الأمور العاجلة أكثرها وهمية حسية، وفي الآخرة تزول الأوهام وتنجلي الأفهام فترى الأشياء لوجودها لا لتحيزها، واعلم أن من ينكر جواز رؤية الله تعالى، يلزمه أن ينكر جواز رؤية جبريل عليه السلام، وفيه إنكار الرسالة وهو كفر، وفيه ما يكاد أن يكون كفرا، وذلك لأن من شك في رؤية الله تعالى يقول لو كان الله تعالى جائز الرؤية لكان واجب الرؤية لأن حواسنا سليمة، والله تعالى ليس من وراء حجاب ولا هو في غاية البعد عنا لعدم كونه في جهة ولا مكان فلو جاز أن يرى ولا نراه، للزم القدح في المحسوسات المشاهدات، إذ يجوز حينئذ أن يكون عندنا جبل ولا نراه، فيقال لذلك القائل قد صح أن جبريل عليه السلام كان ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وعنده غيره وهو يراه ولو وجب ما يجوز لرآه كل أحد، فإن قيل إن هناك حجابا نقول وجب أن يرى هناك حجابا فإن الحجاب لا يحجب إذا كان مرئيا على مذهبهم، ثم إن النصوص وردت أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده فجعل بصره في فؤاده أو رآه ببصره فجعل فؤاده في بصره، وكيف لا، وعلى مذهب أهل السنة الرؤية بالإرادة لا بقدرة العبد، فإذا حصل الله تعالى العلم بالشيء من طريق البصر كان رؤية، وإن حصله من طريق القلب كان معرفة والله قادر على أن يحصل العلم بخلق مدرك للمعلوم في البصر كما قدر على أن يحصله بخلق مدرك في القلب، والمسألة مختلف فيها بين الصحابة في الوقوع واختلاف الوقوع مما ينبئ عن الاتفاق على الجواز والمسألة مذكورة في الأصول فلا نطولها، ومنها قوله تعالى : { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}. [النجم: 41].

قال الفخر الرازي: “الأوفى إشارة إلى الزيادة فصار كقوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }. [يونس: 26] وهي الجنة: وزيادة وهي الرؤية فكأنه تعالى قال وأن سعيه سوف يرى ثم يرزق الرؤية، وهذا الوجه يليق بتفسير اللفظ فإن الأوفى مطلق غير مبين فلم يقل: أوفى من كذا، فينبغي أن يكون أوفى من كل واف ولا يتصف به غير رؤية الله تعالى، ومنها قوله تعالى : {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}. [المطففين : 22 الى 28].

أما قوله: {ينظرون} ففيه ثلاثة أوجه:

 أحدها: ينظرون إلى أنواع نعمهم في الجنة من الحور العين والولدان، وأنواع الأطعمة، والأشربة، والملابس، والمراكب، وغيرها، قال عليه السلام: «يلحظ المؤمن فيحيط بكل ما آتاه الله وإن أدناهم يتراءى له مثل سعة الدنيا».

الثاني: قال مقاتل: ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون في النار.

الثالث: إذا اشتهوا شيئًا نظروا إليه فيحضرهم ذلك الشيء في الحال، واعلم أن هذه الأوجه الثلاثة من باب أنواع جنس واحد وهو المنظور إليه، فوجب حمل اللفظ على الكل، ويخطر ببالي تفسير رابع: وهو أشرف من الكل وهو أنهم ينظرون إلى ربهم ويتأكد هذا التأويل بما إنه قال بعد هذه الآية: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم}. والنظر المقرون بالنضرة هو رؤية الله تعالى على ما قال: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ، إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }. [القيامة: 22، 23] ومما يؤكد هذا التأويل أنه يجب الابتداء بذكر أعظم اللذات، وما هو إلا رؤية الله تعالى.

الرابع : قوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم}.

المعنى: إذا رأيتهم عرفت أنهم أهل النعمة بسبب ما ترى في وجوههم من القرائن الدالة على ذلك .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى