مقالات
وقفات مع المتنبي (40) د. أحمد الزبيدي – الإمارات
على قدر أهل العزم... وانتقاد "سيف الدولة" الحمداني


قال أبو الطيب المتنبي في “معجز أحمد” (ص321):”
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ
وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ الْمَكَارِمُ
وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صغارها
وَتَصْغرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ
قال أبو العلاء المعري: ” العزائم جمع عزيمة، وهي إمضاء الأمور، وكذلك عزمت على كذا: أي أمضيته. والمكارم: جمع مكرمة، وهي كل فعل محمود”.
والرجل الصغير النفس يستكبر الصغير، والعالي الهمة يصغر في عينه ما يفعله وإن كان عظيماً.
يقول: عزيمة كل إنسان على قدر همته وشهامة قلبه، إن كان عظيم القدر والخطر، جد أمره ومضت عزائمه، وإن كان الرجل فشلاً اضمحلت وبطلت، وكذلك المكارم: تكون على حسب فاعليها، فهي من الشريف شريفة، ومن الوضيع وضيعة.
الثعالبي في “يتيمة الدهر” قال: استنشد “سيف الدولة ” الحمداني أبا الطيب المتنبي يوما قصيدته التي أولها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وكان معجباً بها, كثير الاستعادة لها، فاندفع أبو الطيب ينشدها، فلما بلغ قوله فيها “وقفت وما في الموت شك لواقف” – البيتين – قال له “سيف الدولة”: لقد انتقدنا عليك هذين البيتين كما انتقد على امرئ القيس بيتاه وهما:
كأني لم أركب جوادًا ولم أقل
لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
وبيتاك لا يلتئم شطراهما كما لا يلتئم شطرا هذين البيتين. كان ينبغي لامرئ القيس أن يقول:
كأني لم أركب جوادًا ولم أقل
لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الرزق الروي للذة
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
ولك أن تقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال: أيد الله مولانا, إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا كان أعلم بالشعر منه، فقد أخطأ امرؤ القيس, وأخطأت أنا. ومولانا يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز معرفة الحائك، لأن البزاز يعرف جملته وتفاريقه، لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شرب الخمر للاتصاف بالشجاعة في منازلة الأعداء. وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى وهو الموت ليجانسه, ولما كان وجه الجريح المهزوم لا يخلو من أن يكون عبوسًا, وعينه من أن تكون باكية قلت (ووجهك وضاح وثغرك باسم) لأجمع بين الأضداد في المعنى وأن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله, وأجازه بخمسين دينارًا من دنانير الصلات وفيها خمسمائة دينار.
قال الإمام ابن جني يعلق على حكاية انتقاد “سيف الدولة” بيتي أبي الطيب: ليس الملك والشجاعة في شيء من صناعة الشعر، ولا يمكن أن يكون في ملاءمة بين الصدر والعجز أحسن من بيتي المتنبي، لأن قوله “كأنك جفن الردى وهو نائم” هو في معنى قوله “وقفت وما في الموت شك لواقف”، فلا معدل لهذا العجز عن هذا الصدر, لأن النائم إذا أطبق جفنه أحاط بما تحته, فكأن الموت قد أظله من كل مكان كما يحدق بالجفن بما يتضمنه من جميع الجهات, وجعله نائما لسلامته من الهلاك, لأنه لم يبصره وغفل عنه بالنوم فسلم ولم يهلك.
وقوله:
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
هو النهاية في البشاشة. يقول: المكان الذي تكلم فيه الأبطال فتكلح وتعبس ثم وجهك وضاح لاحتقارك الأمر العظيم, ومعرفتك به, ألا تراه يقول بعده:
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
وقد تفنن “ابن الأثير” في نثر أبيات المتنبي فقال: سرى إلى حصن كذا مستعيدا منه سبيّة نزعها العدو اختلاسا، وأخذها مخادعة لا افتراسا؛ فما نزلها حتّى استقادها ولا نازلها حتّى استعادها؛ فكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم، وعلق عليها من رؤوس القتلى نمائم؛ ثم قال: وفي هذا من الحسن مالا خفاء فيه، فمن شاء أن ينثر شعرًا فلينثر هكذا وإلا فليترك، ثم نقله إلى معنى آخر، وأبرزه في صورة أخرى فأضاف إليه البيت الذي قبله من القصيدة فصار على هذه الصورة:
بناها فأعلى والقنا تقرع القنا
وموج المنايا حولها متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت
ومن جثث القتلى عليها تمائم
ثم نثرهما فقال: بناها والأسنّة في بنائها متخاصمة، وأمواج المنايا فوق أيدي البانين متلاطمة؛ وما أجلت الحرب عنها حتّى زلزلت أقطارها بركض الجياد، وأصيبت بمثل الجنون فعلّقت عليها تمائم من الرؤوس والأجساد. ولا شك أن الحرب تعرّد «1» عمن عزّ جانبه، وتقول ألا هكذا فليكسب المجد كاسبه. قال وهذا أحسن من الأوّل وأتمّ معنى. ثم تصرف فيه بزيادة على هذا المعنى فقال: بناها، ودون ذاك البناء شوك الأسل، وطوفان المنايا الذي لا يقال سآوي منه إلى جبل؛ ولم يكن بناؤها إلا بعد أن هدمت رؤوس عن أعناق، وكأنما أصيبت بجنون فعلّقت القتلى عليها مكان التمائم، أو شينت بعطل فعلّقت مكان الأطواق. قال وهذا الفصل فيه زيادة على الفصل الذي قبله.
ومثله لعبد الله بن طاهر:
إنّ الفتوح على قدر الملوك وهم
ات الولاة وإقدام المقاديم
وقال أبو فراس:
تهون علينا في المعالي نفوسُنا
ومن يخطب الحسناءَ لم يُغْلِه المهرُ
أهمية علو الهمّة في حياة المسلم
يقول ممشاد الدينوريّ:
“همتك فاحفظها, فإن الهمّة مقدمة الأشياء, فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال”.
ويقول ابن القيم رحمه الله:
(لابد للسالك من همة تسيِّره وترقيه, وعلم يبصِّره ويهديه) .
وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم : “كن رجلاً رجله في الثرى وهمه في الثريا, وما افترقت الناس إلا في الهمم, من علت همته علت رتبته, ولا يكون أحدٌ إلا فيما رضيت له همته”.
-
تَفَاضُل الناس ِبتفاوت هِمَمهم:
قال الله تعالى: {إن سعيكم لشتَّى}.
اجتمع عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبه، فقال لهم مصعب: “تمنَّوا”، فقالوا: “ابدأ أنت”، فقال: “وِلاية العراق، وتزوُّج سكَِينة ابنة الحسين، وعائشة بنت طلحهَ بن عبيد الله”، فنال ذلك، وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم، وجهَّزها بمثلها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يُحمل عنه الحديثُ، فنال ذلك، وتمنى عبد الملك الخلافة، فنالها”،وتمنى عبد الله بن عمر الجنة.
-
قال ابن رجب: عون الله للعبد على قدر قوة عزيمته وضعفها، فمن صمم على إرادة الخير أعانه الله وثبته.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
ولهذا وردت ” خواصّ الرسل” في القرآن الكريم : “أولوا العزم”.
واعلم أن العزيمة على الرشد مبدأ الخير، فإن الإنسان قد يعلم الرشد وليس له عليه عزم.
العزيمة مفتاح المعالي
ينقل لنا د. توفيق الواعي في كتابه «الإيمان وإيقاظ القوى الخفية» قصة عجيبة تؤكد المعني الذي تحدث عنها المتنبي رحمه الله، من أن العزيمة الأكيدة هي مفتاح الوصول للمعالي .. يقول:
هناك قصة لشاب غفا أثناء حصة الرياضيات، واستيقظ على صوت جرس انتهاء الحصة، ونظر إلى السبورة وقام بكتابة المسألتين الموجودتين فوقها، وقد افترض أنهما الواجب المدرسي لهذا اليوم، فعاد إلى البيت وأخذ يجتهد طيلة النهار والليل لحلهما. .. لم يستطع الشاب حل أي منهما، إلا أنه واصل المحاولة بقية الأسبوع، وفي نهاية الأمر، استطاع حل إحداها وذهب بها إلى الفصل، فلما رآها المدرس أصيب بالذهول فقد اتضح أن المسألة التي قام بحلها كان المفترض عدم وجود حلًّ لها ، وكان المدرس قد كتبها على السبورة من باب تعريف الطلاب ببعض المسائل التي لم يتوصل أحد إلى حلها”.
ولله در الشاعر حيث يقول:
دواؤك فيك وما تُبصر
وداؤك منك وما تشعر
وتزعم أنك جِرْم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
-
وبهذا يضحُ لنا أن أبا الطيب من أكبر شعراء الدنيا إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق، فالناقد المنصف يقطع بأنه رفع من شأن الشعر العربي فأحله مرتبة لم يكن يطمح لها من قبل، وحسبه أنه نفى عنه الزخارف اللفظية، والأساليب التقليدية، والأغراض الدنيئة، و نفخ فيه من روحه العظيم؛ العظمة والابتكار، والتجديد، والسمو إلى الغايات البعيدة، والآمال العتيدة. وقد قلت رأيي من قبل في مدائحه بشكل عام ومدائحه لسيف الدولة بشكل خاص؛ حتى إنه يقصد من ورائها أن تكون للمدوح تلقينا وتعليما للمباديء السامية، والقيم الرفيعة، والمعاني النبيلة. ومثال على ذلك هذه القصيدة التي يمدح بها سيف الدولة، فإن فيها دليلًا قاطعًا لمن يتشكك في ذلك.