مقالات

بين العامية والفصحى (32)     د.  أحمد الزبيدي         –          الإمارات 

"أباطيل وأسمار." (10) مقولة: "تزبّبت وأنت حِصْرِم.."

د. أحمد الزبيدي

يساقُ المثل “تزبّبت وأنت حِصْرِم..” للرَّجل الذي يتعاطى رتبةً قبل أن يستحقها، كمَن يجلس للتدريس ولمَّا يستكمِلْ آلَتَه، وكمَن يقعد للفتوى ولمَّا يأخُذْ عُدَّته. ومعنى تزبَّبْتَ؛ أي: جَعَلتَ من نفسك زبيبًا، والحِصْرِم: أوَّل العِنَب، فإذا كان أخضر سمِّي حِصْرِمًا، ولا يُسمَّى الناضج إلا زبيبًا.

ويقال أيضاً: الزبيبتان: هما الزبدتان،أي الشدقين، يقال: كلم فلان حتى تزببت شدقاه، أي حتى خرج الزبد عليهما، ومنه الحية ذات الزبيبتين.

وقصة المثل ذكرها ابن نجيم في كتابه “الأشباه والنظائر” (ص512)، قال :” لما جلس أبو يوسف- رحمه الله- للتدريس من غير إعلام أبي حنيفة، أرسل إليه أبو حنيفة رجلا فسأله عن خمس مسائل:

الأولى: قصّار جحد الثوب وجاء به مقصورًا، هل يستحق الأجر أم لا؟ فأجاب أبو يوسف: يستحق الأجر. فقال له الرّجل: أخطأت، فقال: لا يستحق، فقال: أخطأت، ثم قال له الرّجل: إن كانت القصارة قبل الجحود استحقّ، وإلا فلا.

الثانية: هل الدخول في الصّلاة بالفرض أم بالسّنّة؟ فقال: بالفرض، فقال: أخطأت، فقال بالسّنّة، فقال: أخطأت، فتحيّر أبو يوسف، فقال الرّجل: بهما، لأن التكبير فرض، ورفع اليدين سنّة.

الثالثة: طير سقط في قدر على النّار، فيه لحم ومرق، هل يؤكلان، أم لا؟

فقال أبو يوسف: يؤكلان، فخطّأه، فقال: لا يؤكلان، فخطّأه، ثم قال: إن كان اللحم مطبوخا قبل سقوط الطير يغسل ثلاثا ويؤكل، وترمى المرقة، وإلا يرمى الكلّ.

الرابعة: مسلم له زوجة ذميّة ماتت وهي حامل منه، تدفن في أيّ المقابر؟ فقال: في مقابر المسلمين، فخطّأه، فقال أبو يوسف: في مقابر أهل الذّمّة، فخطّأه، فتحيّر أبو يوسف فقال الرّجل: تدفن في مقابر اليهود- أي لأنهم يوجهون قبورهم إلى القبلة- ولكن يحوّل وجهها عن القبلة حتّى يكون وجه الولد إلى القبلة، لأن الولد في البطن يكون وجهه إلى ظهر أمه.

الخامسة: أمّ ولد لرجل، تزوجت بغير إذن مولاها، فمات المولى ، هل تجب العدّة من المولى؟ فقال: تجب، فخطّأه، ثم قال: لا تجب، فخطّأه ، ثم قال الرّجل: إن كان الزّوج دخل بها لا تجب، وإلا وجبت، فعلم أبو يوسف تقصيره، فعاد إلى أبي حنيفة، فقال تزبّبت قبل أن تحصرم. والله أعلم.

وذكروا أيضاً أن أبا الفتح عثمانَ بنَ جني الموصلي، النحْوِيَّ المشهور، واللغوي الكبير، قعَدَ للإقراء وتعليم الناس النحْوَ في الموصل، وما زال شابًّا.

ومرَّت الأيام، فمرَّ به أبو علي الفارسي، وهو يدرِّس الناس في حلقته فسأله أبو علي عن مسألةٍ في التصريف، فقَصّر فيها. فقال له أبو علي: “زَبَّبْتَ وأنتَ حِصْرمٌ”.

انتبه ابن جني لقصد الإمام، فما لبث أن ترك التدريس ولازم أبا علي الفارسي أربعين سنةً حتى مَهَر في العربية وحَذَق فيها عنه، وأتقن والصَّرف، فما أحَدٌ أعْلَم به منه.

لذلك قال الحكماء :” لو سكت من لا يعلم لقلت الخصومة”.

وينسبون قريبا من هذا المعنى لسقراط الحكيم قوله :” لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف”.

 ولكن أنّى ذلك، وقد تصدر للفتيا والتدريس المهوّسون، والمدلّسون، والمفلسون الصعالك !.

ولله در القائل:

تصدّر للتدريس كل مهوّس

بليد تسمّى بالفقيه المدرس

فحق لأهل العلم أن يتمثلوا

ببيت قديم شاع في كل مجلس

لقد هزلت حتى بدا من هزالها

كُلاها وحتى رامها كل مفلس

فقد أتى على الناس حين من الدهر أصبح الواحد فيهم يتكلم في كل شيء، ويفتي في كل شيء، ويقرر في كل شيء، ومن هؤلاء محمد شحرور.

ولو تعلم شحرور ثقافة الصمت والاستماع لأعفى نفسه من مسؤولية كبيرة تنوء بثقلها الجبال، وتنبو عن وزرها الأسماع، ولو سكت شحرور وأضرابه ممن لا يعلمون شيئا لأراحوا واستراحوا، ولكن حقت عليهم كلمة المستشرقين فقالوا ما قالوا، فاضطر الناس أن يقولوا. فإلى عشاق شحرور، وإلى المعجبين بشحرور نهدي هذه الكلمات.

ولعل أجمل ما قيل فيهم وفي امثالهم؛ قول أمير المؤمنين على – رضي الله عنه -: “العلم نقطة كثَّرها الجاهلون”.

ورحم الله من قال :  “من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب “.

قال أبو حامد الغزالي -رحمه الله- في كتابه “المنقذ من الضلال : “لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته؛ إذ من شرط المقلد أن لا يعلم أنه مقلد، فإذا علم ذلك انكسرت زجاجةُ تقليده وهو شعب لا يُرأب، وشعثٌ لا يلم … إلا أن يذاب بالنار …”.

وقد رأى ابن عساكر أن الردع والمنع هو الأولى بهؤلاء.

قال في كتابه “تاريخ دمشق” :” وأنا أقول لو كان له من يردعه ويكفه ويمنعه ويقبضه ويقدعه ويسكته قهرا ويصمته قسرا، أو كان من يصرفه عن شنيع الجهالات، ويديع الضلالات؛ بالتأديب، والقصب، والتثريب، والتبكيت، والتأنيب، لرجونا أن يعفي الناس بذلك عما ينالهم الضرر أو كثير منه من جهته وإلى الله المشتكى وهو المستعان على كل  حادثة وبلوى”.

ومن أمثالنا في بلاد الشام ولا سيما فلسطين :” ، إذا كثر الملاحون غرقت السفينة”، وهو قول لسفيان الثوري، وقد سئل عمن حَدّث قبل أن يتأهل فقال: “إذا كثر الملاحون غرقت السفينة”.

 ومن أمثالنا : “الطبخة التي يكثر طبّاخوها تخرب “.

على أنّ بعض الكلام أهون من بعض!

قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- قال بعض العلماء: (قل من يتجاسر على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمره).

 دخل رجل على ربيعة الرأي -رحمه الله- فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: (لا ولكن استفتي من لا علم عنده، وظهر في الإسلام أمر عظيم)، وقال: (ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالحبس من السراق)،  فكيف لو رأى ربيعة الرأي زماننا هذا، وكيف لو رأى جرأة أبنائه الجهلاء، وشجاعة أولاده الأغبياء؛ على الفتيا والقضاء.

قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- “لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم، فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا”.

قلت: ليت شعري، فكيف إذا اخذوه عن جهالهم!.

وقال الإمام ابن حزم (لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون).

وقال الشيخ بكر بن عبد الله أبوزيد في كتاب التعالم (ص 8):

” فهؤلاء المنازلون في ساحة العلم وليس لهم من عدة فيه سوى ” القلم والدواة ” هم: الصحفية المتعالمون من كل من يدعي العلم وليس بعالم، شخصية مؤذية تتابعت الشكوى منهم على مدى العصور وتوالي النذر سلفا وخلفا …….. “.

ذكروا أن الإمام الشافعي دخل على تلاميذه يوما وهو يطير فرحا، فسأله تلاميذه عن سر فرحه؟!

قال : ناظرني اليوم عامي فغلبته، فزاد عجب التلاميذ، فأي فضل لإمام يناقش عاميا فيغلبه؟!

ومما ينسب إليه أيضًا -رحمه الله- قوله :”ما ناظرت عالمًا إلا غلبته، وما ناظرت جاهلًا إلا وغلبني”، ولا اظنها تصح.

لأجل ذلك عرف العلماء أقدارهم، فكانوا يحرصون على تعلم العلم وصيانته قبل ان يدخلوا في المناظرة، أو يتكلموا فيها.

قال الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: «مَا سَمِعْتُ شَيْئًا إِلَّا كَتَبْتُهُ، وَمَا كَتَبْتُهُ إِلَّا حَفِظْتُهُ، وَمَا حَفِظْتُهُ …».

أوصى يحيى بن خالد ابنه جعفرًا قال: «لا ترد على أحد جوابا حتى تفهم كلامه؛ فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره ويؤكد الجهل عليك ولكن افهم عنه، فإذا فهمته فأجبه, ولا تتعجل بالجواب قبل الاستفهام، ولا تستح أن تستفهم إذا لم تفهم فإن الجواب قبل الفهم حمق، وإذا جهلت قبل أن تسأل فاسأل، فيبدو لك واستفهامك أحمد بك، وخير لك من السكوت على العي».

قلتُ:  ولا يقول مثل هذا الكلام إلا رجل ضاق بالجهل والجهال !!.

قال الفقيه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي- رحمه الله وقد سئل عن الآية الكريمة {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35].

فقال: سألتَ- أعلى الله قدرك، وحرس من النوائب طورك، ونور بالعلم صدرك- عن قول الله- عز وجل-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35] إلى آخر الآية، وذكرت أنك لم تر فيها للمفسرين قولاً يزيل الحيرة، ويكشف الغمة، وأئمتنا المتقدمون- رضي الله عنهم- وإن كانوا لم يوضحوها كل الإيضاح، ولم يفصحوا عن معناها غاية الإفصاح، لقد نهجوا لنا السبيل إلى معرفة معناها، ونبهوا بيسير كلامهم على لطف غرضها وبعد مرماها، ونحن نقول فيها بحول الله قولاً يعرب عنها، ويشرح المبهم منها، فإن المجسمة من أهل ملتنا قد اغتروا بظاهر قوله- عز وجل-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فحملهم الجهل بحقيقة معناه على أن زعموا أن ربهم نور ونسوا قوله عز من قائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقد كذبهم الله- تعالى- في دعواهم هذه لقوله في عقب الآية: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]، فأخبرنا نصًا بأن جميع ما ذكره في الآية من النور، والمشكاة، والمصباح، والزجاجة، والشجرة والزيتونة أمثال مضروبة يعقلها عن الله- تعالى- من وفق لفهمها، وكشفت له الحجب عن مكنون علمها، كما قال- تعالى-: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وبحق ما قيل: لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف!!.

والحقيقة أنني في أكثر ما رأيت، وسمعت، وقرأت؛ أنَّ غالب ما يقدح به المعاصرون من قراءات ثابتة، وأحاديثَ صحيحة، وأحكام مُقرَّرة في سائر العلوم والفنون، إنَّما سببه جهلهم في ذلك الفنّ، وعدم الاطلاع على ظاهره فضلا عن دقائقه وأسراره، وحبهم السيدة والظهور.

ولقد ناقشني مرة بعض من يدعي العلم في صحيح البخاري، مناقشة القادح المنتقد، فرأيت قبل أن أخوض معه في النقاش أن أسأله أسئلة عامة عن البخاري وكتابه الصحيح، مثل عدد أحاديث البخاري؛ مع المكرر وعدد أحاديثه من غير المكرر، وأول حديث رواه البخاري، وآخر حديث..، ومتى ولد البخاري، ومتى توفي، ومن هم أهم مشايخه، وأهم تلاميذه، وغير ذلك من الأسئلة البديهية التي يعرفها كل من قرأ البخاري! فلم أحظ بإجابة واحدة على سؤال مما سألته تدل ولو من بعيد أن رأى كتاب البخاري، فتذكرت حينها قول الأئمة :”لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف، وعم الائتلاف، وانتشر الإلف والإلاف، وما قلنا حينئذٍ:  هَلْ لَهَا مِنْ تَلافٍ!!.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى