مقالات

“معالم من فكر الشيخ عبد الله بن بيه” د. أماني محمد ناصر – الإمارات

من التنوير المقاصدي إلى التنوير الإنساني

الشيخ عبد الله بن بيه

ما إن يرد ذكر “التنوير” في الفضاء العربي الإسلامي عموماً؛ حتى تتبادر إلى الأذهان تصورات تحيلنا – في الغالب الأعم – إلى دلالات المصطلح في الحداثة الغربية التي “فصلت بين الأرض والسماء، أو بين الله والإنسان” بتعبير محمد وردي، لكن التنوير في فكر الشيخ عبد الله بن بيه، ينحو منحى آخر مختلف كلياً، من حيث أنه مؤسس على الكتاب والسنّة، فهو يجمع بين حكمة المقاصد وروح الرحمة القرآنية، وبين صوت العقل ونداء القلب. وبهذا المعنى هو عودة إلى الأصول في الموروث؛ بشروط العصر وقيم الحداثة، وتفاعلٌ مع الوعي الإنساني الكوني في ضوء مقاصد الحكمة والشريعة؛ بمقتضى اليُسر القرآني على قدر المستطاع الإنساني.

  أما جوهر التنوير في خطاب الشيخ الجليل، فهو “تحرير العقل بالدين، وتبرير الدين بالعقل، فلا تفاوت  ولا تعارض”،؛ لأنه “لا يمكن تعارض نقل صحيح مع عقل صريح، وإلا قُدِّمَ العقل الصريح الصحيح وحمل النقل على التأويل أو عدم الثبوت” (انظر: كتاب الشيخ ابن بيه “إثارات تجديدية في حقول الأصول”)، ما يعني أن التنوير هو دعوة صريحة للتحرر من أسر التقليد الأعمى، أو الجمود على المنقولات، وذلك لا يكون إلا من خلال إعلاء منطق الحوار على بساط الوئام السلام؛ بدل الخصام والصدام.

 الحضور الأخلاقي

خطاب الشيخ عبدالله بن بيه ينص صراحة وبوضوح شديد على حقيقة وأهمية حضور الأخلاق ومدى  فاعليتها؛ باعتبارها ضرورة حضارية، فمن دون الأخلاق تنهار المجتمعات وإن بلغت أعلى مراتب التقدم العلمي والتقني. وعليه يقرر الخطاب أن الأخلاق ليست الالتزام بالمبادئ والاقتداء بالمُثل فحسب، وإنما هي سعي نحو تهذيب النفس والارتقاء بالضمير الإنساني وفق رؤية مقاصدية شاملة، تشدها عروة وثقى، هي “الكلمة الحسنى”، فهي بنية رئيسة في محمولات الخطاب، وتُعتبر أولى مراتب الإصلاح؛ بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة: 83). وشدد الشيخ الجليل على هذا المعنى بإيضاح وإسهاب في كلمة له بعنوان “الأخلاق والفلسفة”، ألقاها في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية: “إن الأخلاق توفر الأمنَ النفسيّ للفرد، والأمنَ في العلاقات الاجتماعية، والأمنَ في المعاملات، والأمنَ في احترام النظام والتعليمات من خلال الصدق، والاستقامة، وحسن المعاملة، واحترام القيم، ذلك كله هو حُسن الخلق: إيمان بالحق، وإحسان على الخلق، وبشكل عام يمكن رجع الأخلاق إلى مصدرين أساسيين: المصدر الديني، والمصدر المنطقي العقلاني”.

ركيزتان أساسيتان

لقد أسّس الشيخ عبد الله بن بيّه مشروعه التنويري على ركيزتين أساسيتين:

الفهم المقاصدي للنصوص، وفقه المآلات في الواقع، ذلك لأن جسر العبور لتجاوز الأزمات الفكرية والاجتماعية في العالم الإسلامي؛ لن يتم بمجرد استدعاء نصوص تراثية، إنما بضرورة فهمها في سياق مقاصدها الكبرى، وتقدير مآلات تطبيقها على أرض الواقع.

  • الفهم الجديد لا يلغي القديم

لم يكتفِ الشيخ عبد الله بن بيه بترداد مقاصد الفكر الإسلامي التي تُمثّل الغايات الكلية التي جاءت الشريعة لتحقيقها، وإنما جعلها معياراً لقراءة النصوص الشرعية، وتحقيق العدل والرحمة من خلالها، ولا يقتصر عنده التعامل مع النصوص على ظاهرها اللفظي، وإنما يتجاوز ذلك إلى استكشاف غاياتها الكلية ومآلاتها الاجتماعية والإنسانية؛ وفق قواعد أصولية وفهم دقيق للواقع المعاصر. ويرى أنّ المقاصد هي سبيل لتحقيق وظيفة النصوص في حماية الدين والنفس والمال والعقل والعرض والحرية والكرامة والتعايش، ويؤكد على أنّ الاقتصار على ظاهرة النص دون اعتبار مقاصده قد يؤدي إلى الإخلال بالعدل أو تعطيل الحكمة، وهما ركنان أساسيان في الشريعة.

  وقال الشيخ ابن بيه في محاضرة افتراضية لطلبة (برنامج إعداد العلماء الإماراتيين الشباب) في أبوظبي عام 2021: “إن من أهم المحددات المنهجية للتعامل مع النصوص الشرعية، النظرة الشمولية للنصوص، التي تعتبر الشريعة كلها بمنزلة النص الواحد ولا يجوز تجزئتها وفصلها عن سياقاتها ومساقاتها التنزيلية”

وفي حوار معه في برنامج “ساعة حوار” عبر قناة “المجد” قال :

“المقاصد مرتبطة بالأدلة وشؤون الفقه وأنا رميت من يقول بأنها خارج الفقه بالفند، وأظهرت أنها كالروح بالجسد وكالمعدود في العدد إذا ضبطناها بأدلة أصول الفقه قد تنضبط، وإذا لم نضبطها بأدلة أصول الفقه لا تنضبط فنكون من المدرسة الثالثة التي لا تعتبر بالنصوص وإنما تعتبر بالبواطن”

وأكد الشيخ ابن بيه على إعادة فهم الدين بفهم جديد، وهذا الفهم الجديد عنده لا يلغي القديم، إنّما ينقيه من الجمود ويفتح له نوافذ تطل على الحياة. كما يؤكد أن الرحمة مقصد أعلى للنصوص، يجب أن يوجه قراءتنا وتأويلنا لها، فسبحانه وتعالى يقول: ﴿وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين﴾ (الأنبياء: 107). والفقيه، في نظره، لا يقف عند نص الحديث أو ظاهر الآية، إنّما يَسبر أغوارها، ويستكشف مآلات تطبيقها، ليُحقق بها الخير ويدفع بها الضرر، وهو ما يقودنا إلى الركيزة الثانية في فكره:

  • فقه المآلات

يرى الشيخ عبد الله بن بيّه أن فقه المآلات (قاعدة رئيسية في الفقه الإسلامي، ومفادها أنه على المكلَّف أن يُقدر العواقب بل وحتى على المفتي أن يقدر عواقب فتواه للمستفتي).. هو ضرورة ملحّة في عالم متغير تُواجه فيه الأمة تحديات سياسية واجتماعية وإعلامية خطيرة. كما يعدّه حجر الزاوية في الاجتهاد المعاصر.

وفي كلمته التأطيرية خلال منتدى تعزيز السلم عام (2016)، قال:

“الفتوى التي لا تنظر في مآلاتها قد تؤدي إلى فتن، والقول الذي لا يراعي حال الناس قد يُسهم في التطرّف.”

و يؤكد بن بيّه أنّ الفتاوي لا تُبنى على ظاهر النصوص فقط، إذ لا بد من النظر في السياق والمقصد، ويشدد على ضرورة إلمام المجتهد بظروف الزمان والمكان، إلى جانب إلمامه بالنصوص الشرعية، وقد جاء في مقدمة كتابه “صناعة الفتوى وفقه الأقليات” (2013)، “إن درجة الإفتاء في الشريعة منيفة، ومَرتَبَة صاحبه مَرتَبَة شريفة، ولهذا كان فن النوازل والفتاوى من الفنون الأصيلة في الفقه الإسلامي والتي اشتهرت إلى جانب النصوص والشروح والتعليقات، ولكل زمان نوازله وفتاويه تنوعت بتنوع الحوادث والوقائع وتعددت بتعدد اجتهادات المجتهدين واختلاف أهل الصنائع.

 ويوظف الشيخ الجليل فقه المآلات في قضايا مهمة وحساسة كالسلم الأهلي ودرء الفتن، ومواجهة المسائل الاجتماعية والسياسية المعقدة، والتعامل مع غير المسلمين. ذلك لأنّ الفقه الحقيقي لا يقف عند ظاهر الحكم، بل ينظر إلى ما بعده، مراعياً التفاعل بين النص والواقع، والمقصد والمآل. فكم من صوابٍ في الظاهر جلب فساداً في الواقع، وكم من تَوقُّفٍ عن الإفتاء كان عين الحكمة. وهو أمر مؤكد في قوله تعالى: ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم﴾ (الأنعام: 108).

ليُبيّن كيف أن الله نهى عن فعلٍ حق (سب الباطل) بسبب مآله الباطل (سب الله)، وهذا أصل قرآني في فقه المآلات.

الحرية مسؤولية

يرى الشيخ أنّ الحرية مسؤولية قبل أن تكون حقًا، وهي ليست هدفًا معزولًا، ولا صدامًا مع الشريعة وإنما قيمة داخل شبكة من الأخلاق والمسؤوليات، ومكوّن أصيل في بنية التكليف، وحرية مسؤولة تسعى إلى التحرر من الجهل والتسلط والانغلاق. وينطلق من مبدأ أساسي أنه لا ينبغي السعي إلى الحرية من خلال الحروب والصراعات، إنّما يدعو إليها عن طريق سلمي وواع، وينوه إلى أن حرية الفرد يجب أن تقف عندما تتعارض مع راحة المجتمع وسلمه الأهلي، عملاً بقوله تعالى: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29)، ولا ينظر الشيخ بن بيّه إلى الحرية أو التنوير كمفاهيم مجردة، إنما يخضعها لفقه المآلات، وهو ما يميز فكره عن غيره من دعاة التنوير والتجديد.

وفي كلمته بمؤتمر “الحرية الدينية”- واشنطن 17 يوليو، 2019 يقول:

“يجب أن نصل إلى الحرية المهذبة دون أن نعبر على جسر الحرب الذي مرّت من خلاله بعض الأُمم، إنّ موقف اللامبالاة من الخصومات ومن الحرب موقف غير مسؤول ولا يخدم الحرية نفسها على المدى البعيد والمتوسّط.  بل إن أكثر دعاة الحرية الدينية حماسا لها، – على غرار ما فعل جون لوك وفولتير-لم يكونوا يعتبرونها مبدأ مطلقا، وإنما ربطوها بمقصِد السلم من خلال مفهوم النظام العام للمجتمع، فإن حدود الحرية تقف حيث يصبح الفعل أو الفكر يُقْلِق راحة المجتمع ويهدّد سِلمَه الأهلي. وهذا ما أسماه كارل بُوبَرْ مفارقة التسامح، فإن التسامح المطلق يفضي إلى تلاشي التسامح، وكذلك فإن الحرية المطلقة تقضي على الحرية نفسها”.

جسور بين الإنسان والعالم

يرى الشيخ أنه بالإضافة إلى أن التنوير إصلاح للعلاقة بين المسلم ودينه، هو أيضًا بناء جسور بين الإنسان والعالم. وهو يربط السلام العالمي بالتصالح مع الذات، وهنا يبرز تأثره العميق بالآية الكريمة: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ﴾ (يونس: 25)، فيبني على أساسها فلسفة كاملة تقوم على أن الغاية الوجودية للدين هي السلام، لا الحرب، والحوار وليس الخصام، وقد تجاوز التنوير في فكره من دائرة الاجتهاد الفقهي وحدود الإفتاء التقليدي، إلى أفق كوني تتفاعل فيه الشريعة مع الإنسانية وتتجاوز فيه مقاصد الإسلام مع قيم التعايش والسلم العالمي. وقد بنى رؤية يتكامل فيها النص والمقصد، والمآل والواقع، والعقل والإيمان، لينتج بذلك مشروعًا تنويريًا فريدًا يبدأ من فقه النصوص وينتهي في خدمة التسامح والسلام العالمي.

وقد جاء في كلمته التأطيرية في الملتقى التأسيسي لمنتدى السلم، مارس 2014: “نحن نبحث عن أولي بقية من العالم، أولي عقول وتمييز لنكوّن معهم حلف فضول، يدعو إلى السلام، يدعو إلى المحبة والوئام، يدعو إلى الارتفاع عن وهدة الحروب إلى ربوة الازدهار والنماء، فصناعة هذه الجبهة الموحّدة بين محبّي الخير والدخول في تحالفات عابرة للثقافات ومتجاوزة لحدود الانتماءات الضيقة من صميم رسالة المنتدى وغاياته الاستراتيجية”.

وهكذا، نلاحظ أنه ينادي إلى تنوير لا يخاصم الوحي، وعقل لا يعلّق النصوص، وحرية لا تقصي الحقائق، وإيمان لا يكمم الفكر، وفكر يبني لا يهدم، وهو يقدّم نموذجًا نادرًا في الفكر الإسلامي المعاصر: فقيهًا متنورًا، وعالمًا واقعيًا، وفيلسوفًا هادئًا لم يقع في فخ القطيعة مع التراث، ولم ينزلق في وحل التقليد. لقد بنى جسرًا بين الأصالة والتجديد.. بين النص وروح العصر..بين العقل والروح.

تنويره ليس شعارًا، إنما مشروع لا يقصي أحدًا، داعيًا الجميع إلى طاولة الحكمة، ولعل هذا ما نحتاجه اليوم: تنويرًا يخرج من رحم الإيمان، لا من خارجه، ومنهجه في الجمع بين المقاصد والمآلات لا يُجرد النصوص من سلطانها، إنّما يُعيد قراءتها بعيون الراشدين، لا المتعجلين.

إننا أمام مدرسة علمية فريدة، لا تكتفي بـ”ما قاله السلف”، إنما تسأل: ما الذي يُرضي الله في واقعنا؟

إنه سؤال لا يجيب عنه إلا فقيهٌ بصير، مثل الشيخ عبد الله بن بيه، الذي مزج بين العلم والرحمة، والنص والمقصد، والواقع والرؤية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى