مقالات

دراسات قرآنية ( 18) د . أحمد الزبيدي – الإمارات

رد الإمام الرازي على أبي القاسم الكعبي المعتزلي  - المسألة الأولى  (مفهوم الإيمان)

د. أحمد الزبيدي

 ذكرنا في الحلقة السابقة من هذه السلسلة المباركة -إن شاء الله- ؛ وهي سلسة (رد الإمام فخر الدين الرازي على الإمام أبي القاسم الكعبي): أحد أئمة المعتزلة، ورئيس طائفة “الكعبية”،وذكرنا أن له آراء    ومقالات كلامية انفرد بها، و له كتاب في “التفسير” و”تأييد مقالة أبي الهذيل” و “جزء بعنوان ” باب ذكر المعتزلة”و “أدب الجدل” و “تحفة الوزراء ” و “الطعن على المحدثين “.

 وذكرنا ثناءَ أبي حيان التوحيدي عليه، وثناء الخطيب البغدادي على كتبه وانتشارها ببغداد.

ونحن بحول الله في هذه السلسلة سنتعقب تعقب الرازي لأقوال الكعبي وردوده عليه، حتى نخرج بصورة واضحة، وفكرة جلية عن الكعبي وآرائه؛ اللغوية، والفقهية، والفلسفية، والكلامية.

   قال الإمام الرازي عند تفسيره للآية الكريمة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }. [الْبَقَرَةِ: 3] .

اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع ويجمعهم فرق أربع:

الفرقة الأولى: الذين قالوا: الإيمان اسم لأفعال القلوب، والجوارح، والإقرار باللسان، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية، وأهل الحديث، أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلا عقليا أو نقليا من الكتاب والسنة، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيرا كان أو كبيرا. فقالوا مجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر، وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد به التصديق، ولذلك يقال فلان آمن بالله وبرسوله، ويكون المراد التصديق، إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، فلا يقال فلان آمن بكذا إذا صلى وصام، بل يقال فلان آمن بالله كما يقال صام وصلى لله، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة، أما إذا ذكر مطلقا غير معدى فقد اتفقوا على أنه منقول من المسمى اللغوي- الذي هو التصديق- إلى معنى آخر، ثم اختلفوا فيه على وجوه:

 أولها: أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات؛ سواء كانت واجبة، أو مندوبة، أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات، وهو قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار بن أحمد.

وثانيها: أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل، وهو قول أبي علي وأبي هاشم.

وثالثها: أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد، فالمؤمن عند الله كل من اجتنب كل الكبائر، والمؤمن عندنا كل من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد، وهو قول النظام، ومن أصحابه من قال: شرط كونه مؤمنا عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها. وأما أهل الحديث فذكروا وجهين:

 الأول: أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيمانا إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة. وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر، ثم كل معصية بعده كفر على حدة، ولم يجعلوا شيئا من الطاعات إيمانا ما لم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود والإنكار، لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كُلاب .

الثاني: زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها وهو إيمان واحد وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان، ومن ترك شيئا من الفرائض فقد انتقص إيمانه، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه، ومنهم من قال: الإيمان اسم للفرائض دون النوافل. الفرقة الثانية: الذين قالوا: الإيمان بالقلب واللسان معا، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب: الأول: أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب، وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين:

أحدهما: اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من فسرها بالاعتقاد الجازم- سواء كان اعتقادا تقليديا أو كان علما صادرا عن الدليل- وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال. وثانيهما: اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا؟ قال بعض المتكلمين: هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف. وقال أهل الإنصاف: المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالما بالعلم أو عالمًا لذاته وبكونه مرئيا أو غيره لا يكون داخلا في مسمى الإيمان. القول الثاني: أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا، وهو قول بشر بن عتاب المريسي، وأبي الحسن الأشعري، والمراد من التصديق بالقلب الكلام القائم بالنفس. القول الثالث: قول طائفة من الصوفية: الإيمان إقرار باللسان، وإخلاص بالقلب. الفرقة الثالثة: الذين قالوا: الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط، وهؤلاء قد اختلفوا على قولين: أحدهما: أن الإيمان عبارة عن معرفة الله بالقلب، حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقربه فهو مؤمن كامل الإيمان، وهو قول جهم بن صفوان. أما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان. وحكى الكعبي عنه: أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم.

 وثانيهما: أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب وهو قول الحسين بن الفضل البجلي.

الفرقة الرابعة: الذين قالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط وهم فريقان: الأول: أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط، لكن شرط كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب، فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيمانا، لا أنها داخلة في مسمى الإيمان، وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي وإن كان الكعبي قد أنكر كونه قولا لغيلان. الثاني: أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وهو قول الكرامية، وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع.

رأيه في الإيمان

 والذي نذهب إليه أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب، ونفتقر هاهنا إلى شرح ماهية التصديق بالقلب فنقول: إن من قال العالم محدث فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفا بالحدوث، بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثا، والحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث للعالم فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو بالانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص، واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمرا واحدا يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات، ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول، ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم، لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به، فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم، فالمراد من التصديق بالقلب هو هذا الحكم الذهني، بقي هاهنا بحث لفظي وهو أن المسمى بالتصديق في اللغة هو ذلك الحكم الذهني أم الصيغة الدالة على ذلك الحكم الذهني وتحقيق القول فيه قد ذكرناه في أصول الفقه، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم مع الاعتقاد فنفتقر في إثبات هذا المذهب إلى إثبات قيود أربعة: القيد الأول: أن الإيمان عبارة عن التصديق، ويدل عليه وجوه: الأول: أنه كان في أصل اللغة للتصديق، فلو صار في عرف الشرع لغير التصديق لزم أن يكون المتكلم به متكلما بغير كلام العرب، وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربيا. الثاني: أن الإيمان أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين، فلو صار منقولا إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على معرفة ذلك المسمى، ولاشتهر وبلغ إلى حد التواتر، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه بقي على أصل الوضع. الثالث: أجمعنا على أن الإيمان المعدى بحرف الباء مبقى على أصل اللغة فوجب أن يكون غير المعدى كذلك.

الرابع: أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب قال: {مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ }. [الْبَقَرَةِ: 41]، وَقَوْلُهُ: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ }. [النَّحْلِ: 106]، {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ }. [الْمُجَادَلَةِ: 22]، {وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ}. [الْحُجُرَاتِ: 14].

الخامس: أن الله تعالى أينما ذكر الإيمان قرن العمل الصالح به، ولو كان العمل الصالح داخلا في الإيمان لكان ذلك تكرارا. السادس: أنه تعالى كثيرا ذكر الإيمان وقرنه بالمعاصي، قَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ}. [الْأَنْعَامِ: 82]، {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ}. [الْحُجُرَاتِ: 9] وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى}. [الْبَقَرَةِ: 178] مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِصَاصَ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الْمُتَعَمِّدِ ثم إنه خاطبه بقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ.

وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}. [الْبَقَرَةِ: 178] ،وَهَذِهِ الْأُخُوَّةُ لَيْسَتْ إِلَّا أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. [الْحُجُرَاتِ: 10].

وثالثها: قوله: {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة}. [البقرة: 178]، وهذا لا يليق إلا بالمؤمن، ومما يدل على المطلوب قوله تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا}. [الأنفال: 72]، هذا أبقى اسم الإيمان لمن لم يهاجر مع عظم الوعيد في ترك الهجرة في قوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}. [النحل: 28] وقوله: {ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا}. [الأنفال: 72] ومع هذا جعلهم مؤمنين ويدل أيضا عليه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}. [الممتحنة: 1] وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم}. [الأنفال: 27] ،وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا}. [التحريم: 8]، والأمر بالتوبة لمن لا ذنب له محال وقوله: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون}. [النور: 31] لا يقال فهذا يقتضي أن يكون كل مؤمن مذنبا وليس كذلك قولنا: هب أنه خص فيما عدا المذنب فبقي فيهم حجة. القيد الثاني: أن الإيمان ليس عبارة عن التصديق اللساني، والدليل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}. [الْبَقَرَةِ: 8] نَفَى كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ عِبَارَةً عَنِ التَّصْدِيقِ اللِّسَانِيِّ لَمَا صَحَّ هَذَا النَّفْيُ.

القيد الثالث: أن الإيمان ليس عبارة عن مطلق التصديق، لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمنا. القيد الرابع: ليس من شرط الإيمان التصديق بجميع صفات الله عز وجل، لأن الرسول عليه السلام كان يحكم بإيمان من لم يخطر بباله كونه تعالى عالما لذاته أو بالعلم، ولو كان هذا القيد وأمثاله شرطا معتبرا في تحقيق الإيمان لما جاز أن يحكم الرسول بإيمانه قبل أن يجربه في أنه هل يعرف ذلك أم لا. فهذا هو بيان القول في تحقيق الإيمان، فإن قال قائل: ها هنا صورتان:

الصورة الأولى: من عرف الله تعالى بالدليل والبرهان ولما تم العرفان مات ولم يجد من الزمان والوقت ما يتلفظ فيه بكلمة الشهادة. فههنا إن حكمتم أنه مؤمن فقد حكمتم بأن الإقرار اللساني غير معتبر في تحقيق الإيمان، وهو خرق للإجماع، وإن حكمتم بأنه غير مؤمن فهو باطل، لقوله عليه السلام: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان».

وهذا قلب طافح بالإيمان، فكيف لا يكون مؤمنا ؟.

الصورة الثانية: من عرف الله تعالى بالدليل ووجد من الوقت ما أمكنه أن يتلفظ بكلمة الشهادة ولكنه لم يتلفظ بها فإن قلتم إنه مؤمن فهو خرق للإجماع، وإن قلتم ليس يؤمن فهو باطل، لقوله عليه السلام: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان». ولا ينتفي الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق. والجواب: أن الغزالي منع من هذا الإجماع في الصورتين، وحكم بكونهما مؤمنين، وأن الامتناع عن النطق يجري مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى