مقالات

وقفات مع المتنبي (41)         د. أحمد الزبيدي         –         الإمارات

(الثِّقَلْ والثُقلاء)

 

د. أحمد الزبيدي

 

قال أبو الطيب المتنبي في شرح ديوان المتنبي للواحدي (ص150):

أَذُمُّ إلى هَذا الزَّمانِ أُهَيلَهُ

فأعلمهم فدمٌ وأحزمهم وغدُ

والفدم: هو الثقيل الوخم, ويصفونه في مصر بـ”بالرِّخِم”، وفي بلاد الشام : ب”ثقيل الدم”.

يندرج هذا البيت من شعر المتنبي في شعر السخرية والتهكم، وهو ما ينكره جمعٌ من النقاد؛ أن يكون في شعر المتنبي سخرية وتهكم! وإذا وجد فوجوده نادر وقليل، والسبب في ذلك أن المتنبي-بزعمهم- ألزم نفسه طريق الصرامة، وحملها على جادة النأي عن السلامة ، فقضى عمره في سعي دؤوب، وجهاد حثيث غير مكذوب فلم يتسع لشيء من ذلك!

غير أن العلامة أبا فهر -رحمه الله- يرى عكس ذلك تماما، فالمتنبي -عنده- رجلٌ فكه، طيب الحديث، طيب النَّفْسِ مَزَّاح، والفكاهة من أكثر ضروب الكلام دورانا في شعره، وإن خفاء ذلك على كثير من الناس يعود لدقته ونفوذه في معرفته وإتقانه، وليس أدل على ذلك من أن المتنبي كان يقول القول ظاهره المدح وهو أبلغ ما يكون من الهجاء، وحسبنا مثالا من ذلك (كافور)، ورأي أبي فهر هذا تفرد به العلامة شاكر من بين دارسي المتنبي قديما وحديثا، وعلل ذلك بأن السخرية والفكاهة كانت في شعر أبي الطيب هي المنفذ لآلامه، وهي المنفس والمخرج لأحزانه ومضمر آرائه، وخبيء أحقاده. وقد بالغ في ذلك حتى قال :”ولعله كان في أصل طبيعته يميل إلى المرح، والطرب في وقار، ولولا ما كلف نفسه من المشقة للسيادة والمجد، لكان من أبرع الناس في نكتة بليغة، وأكثرهم نادرة عالية”.

ودليل أبي فهر ؛ أن أبا الطيب كان قد نادم في حياته الأمراء والوزراء ، وكانوا يحبونه بلا مراء ، ولا يصلح للمنادمة رجل متزمت بارد الطبع ثقيل الظل.

 قال معاذ اللاذقي لأبي الطيب :” والله إنك لشاب خطير، تصلح لمنادمة ملكٍ كبير”.

والثقيل، هو الذي يتبرَّمُ بمُجالستِهِ، ويتحَاشَى عن لقائهِ ومحادثتهِ ، لبرودته، وبلادته، وبعده عن الكياسة والظرف. وضِدُّهُ؛ خفيف الدم، خفيف الظل، حلو الحديث، جميل المعشر، دمث الخلاق، جميل المخبر والمحضر.

قال الزمخشري في “أساس البلاغة” (ج1ص111):” أنت ثقيل على جلسائك، وما أنت إلا ثقيل الظل بارد النسيم، وأنت والله من الثقلاء، وأنت مستثقل: يستثقلك الناس”.

قال الزبيدي في “تاج العروس” (ج7ص245) مادة “ثقل”.

” وثقال الناس وثقلاؤهم من تكره صحبته ويستثقله الناس. يقال: مجالسة الثقيل تضني الروح. ويقال: هو ثقيل على جلسائه، وما أنت إلّا ثقيل الظل بارد النسيم”.

وقد ذم المتنبي-رحمه الله- الثقلاء وتهكم بهم، وسخر منهم على عادة العرب، الذين يميلون بطبعهم وفطرتهم إلى الخفة والتخفيف في حياتهم ولغتهم، فلغتهم لغة الإعراب، والبناء فيها قليل ، وقد راعوا فيها الخفة دفعا للثقل، وقد تحدث عن ذلك جمع من العلماء؛ أمثال سيبويه، والفارسي، والكسائي، وابن جني، والزمخشري، وغيرهم، وهو ملاحظ لكل قاريء قرأ العربية ولاسيما علم النحو.

أما الثقلاء -موضوع مقالنا-؛ فيعلم الله أنني لم أترك كتابا من كتب التراث فيه مظنة الحديث عن الثقلاء إلا ورجعت إليه؛ من تفسير، وحديث، وفقه، وأدب، وتاريخ، وشعر، فماذا وجدت؟. وجدتُ ذم العلماء، واستثقال الحكماء، واستعاذة الظرفاء، ورأيت التحذير من مجالسهم، والتنبيه على بعض صفاتهم؛ ومن ذلك قولهم عن الثقيل :  “فلان ثقيل الطّلعة، بغيض التفصيل والجملة، بارد السكون والحركة؛ قد خرج عن حدّ الاعتدال، وذهب من ذات اليمين إلى ذات الشّمال. يحكي ثقل الحديث المعاد، ويمشى في القلوب والأكباد، ولا أدرى كيف لم تحمل الأمانة أرض حملته؟ وكيف احتاجت إلى الجبال بعد ما أقلّته؟ كأنّ وجهه أيام المصائب، وليالى النوائب، وكأنما قربه فقد الحبائب، وسوء العواقب….” . اه

ولأجل ذلك خصهم العلماء بمؤلفات خاصة.

المؤلفات في الثقلاء:

 (أخبار الثقلاء) للخلال، و(ذم الثقلاء)، لابن المرزبان،      و (ذم الثقلاء) للسحزي، و(الثقلاء) لأبي علي الحداد، كتاب (الثقلاء)، لأبي العنبس الصيمري و(ذمّ الثُّقَلَاء) للقاضي وكيع، و(كتاب الثقَلَاء) لابن نَاصِر الركاب، و(أخبار الثُقلاء)، لأبي مزاحم الخاقاني، و(أخبار الثُقلاء)، لأبي نعيم الأصبهاني، و(أخبار الثُّقَلَاء)، لأَبي على النَّيْسَابُورِي، و(رواية الثقلاء)، للجلالي، و(إتحاف النبلاء بأخبار الثقلاء) للسيوطي، ومن المحدثين الشيخ المغربي محمد الزمزمي الغماري له (أخبار الثقلاء والمستثقلين) وكتابه هذا ربما يكون أحسنها وأجمعها، فقد جمع فيه فأوعى، ومنهم الشيخ العبودي له أيضا كتاب (الثقلاء).

 ولأدباء موريتانيا منظومات في هذا الفن؛ أشهرها:  (منظومة في الثقلاء)، لعبد الله بن حنبل الشنقيطي، ويقول فيها :

هذا وللثقيل عند الظرفا

ما يقتضي من حاله أن يعرفا

و(منظومة في الثقلاء)، للشيخ ولد التاه الشنقيطي، ويقول فيها:

من ثقلاء العصر قد بُلينا

 بفئة قد كَدَّرتْ علينا

  كذلك حفلت أمات كتب الأدب على فصول متفرقة من أخبارهم، فكتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه، عقد مبحثا فصلًا خاصا سماه “الثقلاء”، و(ربيع الأبرار ) عقد بابا حاصا سماه: الأخلاق، والعادات الحسنة والقبيحة، والغضب والرفق، والعنف والرقة، والقسوة، وخفة الروح، والثقل، و(عيون الأخبار)  للدينوري؛ جعل فيه بابا للثقلاء، وكتاب (بهجة المجالس )،لابن عبد البر الأندلسي، فيه باب الثقلاء والطفيليين.

آية الثقلاء:

    جاء ذمّ الثقلاء في التنزيل العزيز؛ في قوله تعالى:(وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لحَدِيثٍ) [الأحزاب:53].  قال جمع من العلماء وعلى رأسهم الحسن البصري أن هذه الآية: “نَزلتْ فِي الثُّقَلَاء”، وقال: حسبك في الثقلاء أن الله لم يتجوَّزْ في أمرهم”.

 وعن ابن عباس وعائشة – رضي الله عنهما – قالا :”حسبك في الثقلاء، أن الله لم يحتملهم، وقال: (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا)، وقد قرئت الآية بين يدي إسماعيل بن أبي حكيم فقال: “هنا أدبٌ أَدَّبَ الله به الثقلاءَ”.

قال العلامة الألوسي-رحمه الله- :”وعندي كالثقيل المذكور من يدعى في وقت معين مع جماعة فيتأخر عن ذلك الوقت من غير عذر كثير شرعي بل لمحض أن ينتظر ويظهر بين الحاضرين مزيد جلالته وأن صاحب البيت لا يسعه تقديم الطعام للحاضرين قبل حضوره مخافة منه أو احتراما له أو لنحو ذلك فيتأذى لذلك الحاضرون أو صاحب البيت، وقد رأينا من هذا الصنف كثيرا”.

وقال الشِّهَابِ في حاشيته عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوِي (ج7ص181):” ولذا قيل إنها آية الثقلاء”.

وقال الأحنف: نزل قوله تعالى (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) في حق الثقلاء فينبغي للضيف ان لا يجعل نفسه ثقيلا بل يخفف الجلوس، وكذا حال العائد فان عيادة المرضى لحظة قيل للأعمش ما الذي أعمش عينيك قال النظر الى الثقلاء، وقيل:

 إذا دخل الثقيل بأرض قوم

فما للساكنين سوى الرحيل

  • قال بعض المشايخ- حين ذكر أهل الظاهر-: دع هؤلاء الثقلاء. هـ. فوصف علماء الظاهر بالثقلاء لثقل ظهورهم بعلم الرسوم، فلم ينهضوا إلى حقائق العلوم ودقائق الفهوم، وفي تائية ابن الفارض:

وجُزْ مُثَقلاً لو خَفَّ طَفَّ مُوكلاًّ

بمَنْقُولِ أَحْكَامٍ ومَعْقُولِ حِكْمَه

قال شارحه: أمره بالمجاوزة عن المثقلين بأثقال العلوم الظاهرة، من الفقهاء، والمتكلمين بأحكام المنقولات، والفلاسفة الموكلين بالمعقولات والحكمة، ووصف مُثقلاً بأنه: لو خف طفا، أي: لأنه لو كان خفيفًا بوضع الأثقال عنه كان طفيفًا، لا يرى لنفسه قدرًا، واللازم منتف فالملزوم مثله هـ.

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: صنع الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئاً فرخص فيه فتنزّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فخطب، فحمد الله ثم قال:» ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية.

وذكر الإمام الزمخشري في تفسيره للآية الكريمة-فتوح الغيب(ج4ص526): نمطاً من التفسير سماه تفسير الثقلاء. قال تعالى: ( وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) 34]. قال : وقيل: معناه أكرهوهن على الجماع واربطوهن، هجر البعير إذا شدّه بالهجار” ثم قال: وهذا من تفسير الثقلاء!

ذم الثقلاء

 قال اليوسي:” اعلم أن الثقلاء أشد الخلق ضرراً على العقلاء، وأثقل من رواسي الجبال على قلوب النبلاء”.

  • وكان أبو يعقوب الخُزيمي يقول: من فضائل العمى ومحاسنه: سقوط الواجب من الحقوق، والأمان من فضول النظر الداعية إلى الذنوب، وفقد النظر إلى الثقلاء والبغضاء.

  • قال الثعالبيُّ في “تَتِمَّة يتيمة الدهر: “كان حَدثني أبو الحسن الدُّلفيُّ المِصِّيصِيُّ الشاعر “والمِصِّيصة التي ينسب إليها ببلاد الشام”، وهو ممَّن لقيتُه قديمًا وحديثًا في مدةِ ثلاثين سنةً، قال: لقيتُ بالمَعَرَّةِ عجبًا من العجب! رأيتُ أعمى شاعرًا، ظريفًا، يكنى “أبا العلاء”، يَلعبُ بالشِّطْرنج والنَّرْدِ، ويدخُل في كلِّ فنٍّ من الجِدِّ والهَزْل، وسمعتُه يقول: أنا أحمدُ الله على العمى، كما يَحمَده غيري على البصَر، فقد صنع لي وأحسَنَ بي إذْ كفاني رؤيةَ الثقلاءِ البُغَضاء”.

  • وعن محمد بن سَلاّم قال، قال هلال بن عطية لبشّار؛ وكان يمازحه: إنّ الله عزّ وجلّ لم يذهب بصر أحد إلاّ عوّضه منه شيئا فما عوّضك؟ قال: الطويل العريض! قال: وما هو؟ قال: ألاّ أراك ولا أرى أمثالك من الثقلاء!

  • ذكر الإمام الغزالي -رحمه الله- الإحياء ” (ج2 ص226) فوائد العزلة، وعدّ منها: “الخلاص من مشاهدة الثقلاء”.

  • وعن رجل من الأنصار قال: (كان أبو هريرة إذا استثقل الرجل قال: اللهم اغفر لنا وله وأرحنا منه) .

  • وفي كتاب:” منحة الباري بشرح صحيح البخاري المسمى «تحفة الباري» للإمام زكريا الأنصاري، عند شرحه للحديث الصحيح :” “يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، خَيْرُ مَالِ الرَّجُلِ المُسْلِمِ الغَنَمُ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ”. قال:” (شعف الجبال) أي: رءوسها، وفي العزلة فوائد: التفرغ للعبادة، وانقطاع طمع الناس عنه، وعتبهم عليه، والخلاص من مشاهدة الثقلاء.

  • وفي كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي(ج2ص178):” عن مُحمد بن عُبَيْد قال : كَانَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ يُجَالِسُ الشَّعْبِيَّ، وَيُنْشِدُ الشِّعْرَ، فَإِذَا جَاءَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ قَالَ: جَاءَ الثُّقَلَاءُ”.

  • وفي كتاب -الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع(ج2ص134):” قَالَ نَفْطَوَيْهِ مِنْ أَبْيَاتٍ:

  • خَلِّ عَنَّا فَإِنَّمَا أَنْتَ فِينَا … وَاوُ عَمْرٍو أَوْ كَالْحَدِيثِ الْمُعَادِ

  • وفي (روضة العقلاء) قال أبو بكر المروروذي: سألت أحمد بْن حنبل عَن الثقلاء، فقال سألت عنهم بشرا الحافي فقال النظر إليهم سخنة العين قلت لأحمد من الثقلاء قَالَ أهل البدع”.

  • وفي كتاب العزلة للخطابي، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: قِيلَ لِلْأَعْمَشِ: ” مِمَّ عَمَشَتْ عَيْنَاكَ؟ قَالَ: مِنَ النَّظَرِ إِلَى الثُّقَلَاءِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: قَالَ جَالِينُوسُ: لِكُلِّ شَيْءٍ حُمَّى وَحُمَّى الرُّوحِ النَّظَرُ إِلَى الثَّقِيلِ “.

  • وقال الشافعي رحمه الله:” ما جالست ثقيلاً إلا وجدت الجانب الذي يليه من بدني كأنه أثقل علي من الجانب الآخر”.

  • وكان ابنُ تيمية إذا جالس ثقيلاً، قال: مجالسةُ الثقلاءِ حمَّى الربْعِ، {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} . {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} . (مثلُ الجليسِ السيّئِ كنافخ الكيرِ) . إنَّ مِن اثقلِ الناسِ على القلوبِ العرِيَّ من الفضائلِ الصغير في المُثُلِ، الواقف على شهواتِه، المستسلم لرغباتِه، {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} .

  • قال الشاعرُ:

أنت يا هذا ثقيلٌ وثقيلٌ وثقيلْ

أنت في المنظرِ إنسانٌ وفي الميزان فِيلْ

  • وقال ابنُ القيمِ: إذا ابتُليت بثقيلٍ، فسلِّم له جسمك، وهاجرْ بروحِك، وانتقلْ عنهُ وسافرْ، وملِّكْه أذناً صمَّاء، وعيْناً عمياءَ، حتى يفتح اللهُ بينك وبينه. {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} .

  • قال الإمام الغزالي في (الإحياء) (ج2ص236):” وهذه الفوائد ما سوى الأوليين متعلقة بالمقاصد الدنيوية الحاضرة ولكنها أيضاً تتعلق بالدين، فإن الإنسان مهما تأذى برؤية ثقيل لم يأمن أن يغتابه وأن يستنكر ما هو صنع الله، فإذا تأذى من غيره بغيبة أو سوء ظن أو محاسدة أو نميمة أو غير ذلك لم يصبر عن مكافأته، وكل ذلك يجر الى فساد الدين وفي العزلة سلامة عن جميع ذلك فليفهم”.

  • قال بختيشوع: “احْمُوا مَرْضَاكُمُ الثُّقَلاءَ فَإِنَّهُمُ الْحُمَّى الْبَاطِنَة”.

  • قَالَ بعض أهل الْعلم بالأدب: “كَانَ يُقَال استخفاف الثقيل ثقل واستثقال الْخَفِيف عَلامَة الثُّقَلَاء، وَكَانَ يُقَال الْأنس بالثقيل عَلامَة الثّقل لِأَن كل طير يطير مَعَ شكله”.

  • قال الْأَصْمَعِي: “لَيْسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا ثقيل وَلَا أحب الثُّقَلَاء”.

  • قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ:” إِنَّه ليَكُون فِي الْمجْلس عشرَة كلهم يخف عَليّ فَيكون مِنْهُم الرجل استثقله فيثقلون عَليّ”.

  • عن أبي جَعْفَر عبد الْأَعْلَى، قَالَ: “ذكر بَين يَدي معن اللَّذَّات فَقَالَ القطيعة فِي الثُّقَلَاء من اللَّذَّات”.

  • عَن معمر قَالَ: مَا بَقِي من لذات الدُّنْيَا إِلَّا ثَلَاث: محادثة الإخوان، وَأكل القديد، وحك الجرب، وَأَزِيدكُمْ؛ زِيَادَة الوقيعة فِي الثُّقَلَاء، وتمثل بِهَذَا الْبَيْت:

لَيْتَني كنت سَاعَة ملك المو

ت فأفني الثقال حَتَّى يبيدوا

  • وقعد جماعة عند معروف الكرخي فأطالوا القعود، فقال لهم: إن ملك الشمس لا يفتر عن سوقها، فمتى تريدون القيام؟ وقال بعض السلف: من فاتته ركعات الفجر فليلعن الثقلاء.

يعني: الذين يزورون الإنسان بعد العشاء، ويسهرون معه حتى يعطلوه عن ركعتي الفجر.

  • ومن دعاء يزيد بن هارون قول:” «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنَا مِنَ الثُّقَلاَء» 0

الثقلاء في الشعر:

للحكماء وَالشعَراء أَقوال كثيرة في الثّقَلَاءِ طَفَحَتْ بِهَا كُتُبُ أَدَبِ الْأَخْلَاقِ والأمثال.

ومما قيل في ثقيل:

أنت يا هذا ثقيل

وثقيل وثقيل

أنت في المنظر إنسان

وفي المخبر فيل

لو تعرضت لظلّ

 فسد الظلّ الظليل

قال الحمدوني لبعض الثقلاء:

سألتك بالله إلاّ صدقت

وعلمي بأنّك لا تصدق

أتبغض نفسك من بغضها

وإلاّ فأنت إذن أحمق

وكان الأعمش إذا حضر مجلسه ثقيل ينشد:

فما الفيل تحمله ميّتا

بأثقل من بعض جلّاسيا

قال مطيع بن إياس:

قلت لعباس أخينا

يا ثقيل الثقلاء

أنت في الصيف سموم

 وجليد في الشتاء

أنت في الأرض ثقيل

وثقيل في السماء

‏وقال أحمد شوقي في الثقيل والثُقَلاء:

‏سقطَ الحمارُ من السفينةِ في الدُّجَى

‏فـبـكـى الرفـاقُ لفقدِهِ وتَـرَحّـموا

‏حـتى إذا طـلـعَ الـنـهـارُ أتـتْ بـهِ

‏نـحـوَ السـفـيـنةِ مـوجةٌ تـتـقـدمُ

‏قـالتْ خـُذوهُ كـما أتانيَ سـالـمًا

‏لـمْ أبـتـلـعْـهُ لأنــهُ لا يُــهــضـــمُ

وللأستاذ ياسر الحمداني، وهو من المحدثين:

نَاشَدْتُكَ اللهَ يَا مَنْ قَدْ أَتَيْتَ إِليّ

إِنْ كُنْتَ تَرْفُقُ بي أَنْ لاَ تُطِيلَ عَلَيّ

وللشَّاعِرُ الْقَرَوِيّ رَشِيد سَلِيمٌ الخُورِي:

أَلَسْتَ تَرَى حَوْلَنَا الثُّقَلاَءَ

تُقَرِّحُ أَشْكَالُهُمْ نَاظِرَيْكَا

ابن الجوزي والثقلاء:

يقول رحمه الله في (صيد الخاطر): أعوذ بالله من صحبة البطالين، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، وما يتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور، وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان، فلقد رأيت الزمان أشرف شيء، والواجب انتهاؤه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لئلا يمضي الزمان فارغاً، فجعلت من الاستعداد للقائهم قطع الكاغد، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي.

قصة الشيخ الأديب علي الطنطاوي مع أحد الثقلاء:

وإذا كان فينا من يحسن الاستفادة من وقته، وينفقه في علم أو أدب أو شيء مما ينفع الناس، لم يعدم من الثقلاء من يضيع عليه وقته، ويسرق عمره، ولا يتوهم أنه أساء، وما أظن أن في القراء من لا يذكر حادثة في هذا الباب … كنت ذاهباً إلى المدرسة ذات مرة، وكان عليّ محاضرة لم يبق دون موعدها إلا مسافة الطريق، وكنت مسرعاً لا أكاد أبصر طريقي فاعترضني رجل كبير كان ناظر المدرسة الثانوية التي كنت فيها وله في البلد حرمة ومقام، فأقبلت عليه أحييه وأفهمته برفق أن عليّ محاضرة قد حان موعدها فقال: طيب … لحظة، وانطلق يتكلم، فلا والله ما سكت إلا بعد ما مضت نصف ساعة ألقى هو فيها المحاضرة عليّ، وأنا أتململ وأتحرك ويربدّ وجهي وأحس النار تشتعل في عروقي. فلما انتهى قال:

– أظن أننا وقفناك … عدم المؤاخذة !.

نوادر الثقلاء :

يُحكى أن أبا حنيفة دخل على الأعمش، فقال له: جاء في الخبر من سلب الله كريمتيه عوضه عنهما ما هو خير منهما فما الذي عوضك؟ فقال في معرض المطايبة: عوضني عنهما أن كفاني رؤية الثقلاء وأنت منهم. لله در من قال:

أنست بوحدتي ولزمت بيتي

فطاب الأنس لي وصفى السرور

وأدبني الزمان فلا أبالي

بأني لا أزار ولا أزور

ولست بسائل ما عشت يوماً

أسار الجند أم ركب الأمير

واستأذن بعض الثقلاء على ابن المبارك فلم يأذن له، فكتب إليه ذلك الثقيل:

هل لذي حاجة إليك سبيل؟

 لا طويل قعوده بل قليل

فأجابه ابن المبارك:

أنت يا صاحب الكتاب ثقيل

وقليل من الثقيل طويل

  • وفي (تاريخ دمشق) لابن عساكر (ج60ص94): عن ابن عباس عن المفضل بن المهلب أنه قال:” الثقلاء ثلاثة والرابع أشدهم علي رجل كان يزور قوما فاستثقلوه وسألوا الله أن يريحهم منه فغاب عنهم أياما فانفسحت أبصارهم وطابت أنفسهم ثم أتاهم معتذرا وقال والله ما حبسني عنكم إلا الشغل”.

  • ذكر ابن المرزبان في كتابه (الثقلاء) عن بشر بن حجر قال: “انقطع إلى أبي علقمة النحوي غلام يخدمه، فأراد أبو علقمة الدخول في بعض حوائجه فقال له: يا غلام أصقعت العتاريف؟ فقال له الغلام: زقفيلم. قال أبو علقمة: وما زقفيلم؟ قال له: وما معنى صقعت العتاريف؟ قال قلت لك: أصاحت الديوك؟ قال: وأنا قلت لك لم يصح منها شيء”..

  • ومن ربيع الأبرار؛ قال سريّ السقطيّ: “مرضت في طرسوس وجاء إلى عيادتي جمع من الثقلاء فأطالوا الجلوس حتى أملّوني، ثم استدعوا مني فرفعت يدي وقلت: اللهمّ علّمنا كيف نعود المرضى”.

  • وعاد ثقيل مريضا فأطال الجلوس فقال المريض: قد تأذينا من كثرة الداخلين. فقال العائد: أغلق الباب؟ فقال: نعم ولكن من خارج.

وفي شرح (مقامات الحريري) ج2ص134 :” وكان بعض الظرفاء إذا رأى ثقيلًا قال: قد جاءكم الجبل، فإن جلس عندهم قال: قد وقع عليكم.

  • وسمع الأعمش كلام ثقيل فقال: من هذا الذي يتكلّم وقلبي يتألم.

  • قال رجل لخالد بن صفوان: أتستثقل فلانا؟ قال: أوّه كدت والله أن تصدع قلبي بذكره، والله لهو أثقل من شراب الترنجبيل بماء التين في أيام الحكاك بعقب التخمة وأوان الحجامة.

سلّم ثقيل على بعض الظرفاء فقال: وعليك السّلام شهرا.

  • قعد ثقيل عند ظريف، فسئل عن ذلك، فقال: كانت نفسي قد شمخت عليّ فأردت أن أهينها بذلك.

  • وقال رجل لغلام هاشمي: يا بغيض، فشكاه إلى أبيه، فقال: قد علمت أنك بغيض، فكرهت أن أقوله لك حتى يكون بغضك بإسنادك.

  • وسئل إنسان له ثلاث بنين ثقلاء: أيّ بنيك أثقل؟ فقال: ليس بعد الكبير أثقل من الصغير إلا الأوسط.

  • كان أبو العتاهية يقول لابنه محمد: أنت والله يا محمد ثقيل الظلّ، مظلم الهواء جامد النسيم، بارد حامض منتن.

  • قال سهل بن هارون: من ثقّل عليك نفسه، وغمك سؤاله فأعره أذنا صماء، وعينا عمياء.

  • وفي حدائق الأزاهر:” جاء بعض الثقلاء إلى بعض الظرفاء، فقال له: بلغنا عنك أن لك أربعة آلاف كلمة من الجواب المسكت، وأحب أن تعلمني بعضها، قال: سل عما بدا لك حتى أعلمك، قال: إن قال لك أحد: اسكت يا ثقيل. قال: قل له، صدقت، فخجل الرجل وانصرف.

  • وجلس ثقيل إلى جانب ظريف ثم قال: لعلك استثقلتني؟ قال: يعلم الله أني استثقلتك وأنت في بيتك، فكيف وأنت بجانبي؟

وفي (العقد الفريد) ج2ص155 :” أَهْدى رجلٌ من الثُقلاء إلى رجل من الظُرفاء جَمَلاَ، ثم نزَل عليه حتى أبْرمه، فقال فيه:

يا مبرماً أهدى جَمَلْ

خُذْ وانصرف ألفيْ جَمَل

قالَ وما أوْقارُها

قلتُ زَبِيبٌ وعَسَلْ

قال ومَن يَقُودها

قلتُ له ألْفَا رَجُل

قال ومَن يَسُوقها

قلتُ له ألْفَا بَطَل

قال وما لِباسُهم

قلتُ حُلِيً وحُلَل

قال وما سِلاحُهم

قلتُ سُيوف وأَسَل

قال عَبِيد لي إذن

قلتُ نَعم ثم خَوَل

قال بهذا فاكتُبوا

إذن عليكم لي سِجل

قلت له ألْفي سِجل

فاضمَنْ لنا أن تَرْتَحل

قال وقد أضجرتُكم

قلتُ أَجَل ثم أَجل

قال وقد أبرَمتُكم

قلتُ له الأمر جَلَل

قال وقد أثقلتكم

قلتُ له فوق الثَقل

قال فإني راحلٌ

قلتُ العَجَلِ ثم العَجَل

يا كوكبَ الشُؤم ومَن

أرْبَى على نحْس زُحَل

يا جبلاً مِن جَبَلٍ

في جَبَلٍ فوق جبَل

  • حيلة ظريفة للتخلص من الثقلاء .. لكنها كذبة..!

فكر أحد الأدباء في طريقة للتخلص من زيارات الثقلاء فكان يحتفظ بعمامته وعصاه بالقرب من باب مسكنه، فإذا دق الباب أسرع ووضع عمامته على رأسه وأمسك بعصاه، ثم يفتح الباب، فإذا ظهر أن الزائر غير مرغوب فيه قال: كم أنا سيئ الحظ لأنني خارج لمقابلة متفق على موعدها من قبل، أما إذا كان الزائر محبوباً لديه فيقول: كم أنا سعيد الحظ، لقد عدت من الخارج الآن!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى