يقدّم الشاعر سمير اليوسف في قصيدته “ظلّ السؤال”نصًّا شعريًّا ينتمي إلى جغرافيا القلق الوجودي ويعيد رسم ملامح الذات القلقة عبر صور شعرية كثيفة يختلط فيها المجرّد بالمحسوس، لتغدو اللغة فضاءً مفتوحًا على تعدّد المعنى وتفلّت الإجابة. فالقصيدة تتأسّس منذ عنوانها على فكرة السؤال، غير أنّ السؤال هنا ليس موضوعًا يُطرح ولا إجابة تُنتظر، بل كينونة غامضة ترافق النص وتخلخل يقينه. يقول الشاعر:
ظلّ السؤال
لم يُولد،
لكنّه كان يُقنع الممرات
أن تُبلّل الإسفلت
بندوبٍ تشبه المطر
يتّضح من هذه الأسطر كيف يرفض الشاعر ولادة السؤال مكتملًًا، ويكتفي بظلاله، إذ يغدو السؤال أثرًا يترك ندوبًا على الواقع دون أن يتجسّد نصًّا قاطعًا. هنا تتجلّى نزعة الشاعر إلى تفكيك منطق السببية: فالمطر هنا ليس مطرًا، بل ندوبٌ رمزية على إسفلتٍ أعمى، تشي بأن الوجود ذاته معلّق بين امتلاء ناقصٍ وفقدٍ مستمر.
وتشتغل القصيدة على جدلية الضوء والعتمة، والحضور والغياب، لتنسج مشهدًا شعريًّا تتداخل فيه العناصر الحسية مع استعارات وجودية. ففي قوله:
في زوايا الضوءِ
جلس الصدى يتهجّى الوصايا،
فيما العتمةُ
تحوكُ عمامةً من الغبار
وتدسُّها في جيب الغيم
يقدّم الشاعر الصورة بوصفها بؤرة دلالية: الضوءُ الذي يفترض الكشف يتقاطع مع صدىً يحاول نطق «الوصايا» — في إشارة إلى المعنى الموروث أو المقدّس — بينما تتآمر العتمة على هذا الكشف بتحويله إلى غبارٍ خفي. يربك اليوسف المتلقي بتقنية المفارقة بين فضاءي النور والعتمة، ليظل السؤال معلقًا: أيهما أكثر صدقًا في قول الحقيقة؟
ومن مظاهر فرادة النص توظيف عناصر الطبيعة توظيفًا ميتافيزيقيًا؛ إذ تتحول الريح إلى كائنٍ أعرج:
الريحُ تعبرُ المدينةَ
بقدمٍ واحدة
وهذه الصورة، وإن بدت غرائبية، تحمل في عمقها دلالة هشاشة الحركة الإنسانية وسط كونٍ معتور، إذ تصبح المدينة التي يفترض أن تكون مركزًا صلبًا، مجرّد مسرح لريحٍ تجرّ أقدامها وحيدةً.
تتّكئ القصيدة كذلك على ثنائية الصوت والصدى، والكلمة وصمتها. ففي مشهد النور الذي “تكلم، لكن فمه كان مليئًا بالحجارة المصقولة” يلمّح الشاعر إلى إخفاق اللغة في تفريغ المعنى؛ فالحجارة هنا رمز للجمود، والذهب الذي يرتديه النور يشير إلى بريق زائف لا يضيء الحقيقة. إنّ اللغة، وهي أداة القصيدة المركزية، تظهر في “ظلّ السؤال” عاجزةً عن تلبية التوق الداخلي إلى اليقين، وهو ما يتجلّى أيضًا في مشهد الطفل في نهاية النص:
جلس طفلٌ
يقرأ على تراب الوقت
سؤالًا:
هل كان الحطب واعظًا؟
أم أن النارَ كانت المستمعة؟
هنا يختتم اليوسف قصيدته بسؤالٍ جديد، مزدوج الدلالة: فالطفل، وهو رمز البراءة والبدايات، لا يحمل إجابة، بل يكتفي بطرح سؤالٍ يفتح التأويل، مذكّرًا أن المعرفة دائرةٌ مغلقة تبدأ بالسؤال ولا تنتهي.
وتكمن قوة القصيدة في قدرتها على بناء مشهدية مفتوحة، إذ تنتقل من مشاهد الطبيعة (الريح، والغيم، والماء) إلى مشاهد ذات طابع وجودي خالص (المرآة الغائبة، والظلال المترددة، والحجارة التي تصير سؤالًا). كل صورةٍ هنا محمّلة بدلالات تأويلية، تعكس تيه الإنسان أمام مفاهيم كبرى كالوجود، والمصير، والحقيقة.
إنّ قصيدة “ظلّ السؤال” تُقيم في تخوم اللغة، وتستدعي قارئًا لا يبحث عن أجوبة نهائية، بل عن أثرٍ يتركه السؤال في روحه. بهذه البنية المفتوحة، ينجح سمير اليوسف في تثبيت صوته في فضاء القصيدة الحديثة، مستندًا إلى صور شعرية مقلقة، ولغة متحوّلة، وتعبيرٍ يجمع بين تجريدٍ تأملي وملامح ملموسة تجعل من القصيدة نصًّا يتجاوز حدود الشكل إلى سؤالٍ متجدّد عن جدوى الكلمة نفسها.