مقالات

“أكذوبة (نهاية الفلسفة) و اتهام أبي حامد الغزالي” زيد الأعظمي – العراق

زيد الأعظمي

” أبو حامد الغزالي، في كتابه (تهافت الفلاسفة)، قد قضى على الفلسفة في العالم الإسلامي وأوقف حركة التقدم العلمي”. هذه الدعوى، رغم شيوعها، تمثل نموذجاً صارخاً للمغالطات المنطقية التي تنم عن قراءة سطحية للتاريخ وقصور في فهم طبيعة التطور الفكري في الحضارة الإسلامية.

برهان التاريخ: الفلسفة لم تمت

إن أبسط نظرة تاريخية تكشف تهافت هذه الدعوى. فالغزالي (ت. 505هـ) إن كان قد “قتل” الفلسفة، فكيف نفسر ظهور ابن رشد (ت. 595هـ) بعده بأقل من قرن، والذي يُعد من الفلاسفة في تاريخ الإسلامي والأوربي ايضاً؟ وكيف نفسر ازدهار المدرسة الإشراقية مع السهروردي وعشرات المدارس الفلسفية التي استمرت قروناً بعد الغزالي – بغض النظر عن طبيعة هذه المدارس؟

الحقيقة أن الإنتاج الفلسفي في العالم الإسلامي لم يتوقف بل تنوع وتعمق. ففي الأندلس ازدهرت الفلسفة مع ابن باجة وابن طفيل، وفي المشرق تطورت مع فخر الدين الرازي، هذا الازدهار المستمر يدحض بشكل قاطع فرضية “الموت المزعوم” للفلسفة.

طبيعة نقد الغزالي: تصحيح لا تدمير

من يقرأ “تهافت الفلاسفة” بعين منصفة يجد أن الغزالي لم يهاجم الفلسفة كعلم، بل انتقد عشرين مسألة محددة من آراء الفلاسفة المسلمين المتأثرين بأرسطو، معتبراً سبع عشرة منها بدعة وثلاثاً فقط كفراً. أما المنطق والرياضيات والطبيعيات فقد أقرها وأيدها، بل ألف في المنطق كتباً عدة منها “معيار العلم” و“محك النظر”.

وهذه المسائل الثلاث هي:

1القول بقِدَم العالم

رأي الفلاسفة:

– العالم قديم أزلي مع الله، لم يسبقه عدم.

اعتراض الغزالي:

  • هذا يتناقض مع صريح القرآن القائل بأن الله خلق السماوات والأرض.

  • ينفي قدرة الله المطلقة على الخلق والإيجاد من العدم.

  • الإجماع على أن الإيمان بحدوث العالم من ضروريات الدين.

2إنكار علم الله بالجزئيات

رأي الفلاسفة:

  الله يعلم الكليات فقط لا الجزئيات المتغيرة

اعتراض الغزالي:

   – ينافي صريح القرآن: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها.

   – يؤدي إلى نقص في علم الله وهو كمال مطلق.

   – يستلزم أن الله لا يعلم أفعال العباد التفصيلية.

   – يهدم أساس الثواب والعقاب الأخروي.

3 إنكار حشر الأجساد

   – ينفي قدرة الله على إعادة الأجساد بعد فنائها.

    لماذا اعتبرها الغزالي كفراً؟

– مخالفة صريح الشرع: هذه المسائل تناقض نصوصاً قطعية لا تحتمل التأويل.

– إجماع الأمة: مخالفة لما أجمع عليه المسلمون.

بعض التنبيهات

– كان الغزالي يرى التكفير للأقوال لا للأشخاص

– الغزالي كفّر القول وليس بالضرورة القائل

– التكفير الفعلي يحتاج شروطاً وانتفاء موانع فلم يركز على تكفير للأشخاص.

ومع ذلك والأهم من ذلك أن الغزالي استخدم المنهج الفلسفي ذاته في نقده للفلاسفة، مما يدل على تقديره لهذا المنهج كأداة للوصول إلى الحقيقة. لقد كان نقده نقداً داخلياً يهدف إلى تنقية الفلسفة من التناقضات، لا نقداً خارجياً يسعى لهدمها.

المنهج الإسلامي: النقد البناء كآلية للتطور

إن ما قام به الغزالي يمثل جوهر المنهج الإسلامي في التعامل مع المعارف الوافدة: الأخذ والنقد والتطوير. هذا المنهج لم يقتصر على الفلسفة، بل شمل جميع العلوم. فالرازي نقد جالينوس وطور الطب، وابن الهيثم نقد بطليموس وأسس علم البصريات الحديث، والبيروني نقد الفلك الهندي وطور علم الفلك.

هذا النقد البناء هو الذي حول المعارف اليونانية الخام إلى علوم متطورة. فالفلسفة اليونانية التي كانت مجرد تأملات نظرية، تحولت على أيدي المسلمين إلى منهج متكامل يجمع بين النظر والعمل، وبين العقل والتجربة، وبين الحكمة والمعرفة من خلال آليات النظم المفتوحة في اللغة.

التأثير على أوروبا: من المثالية إلى التجريبية

إن الزعم بأن الغزالي أوقف التقدم فهو لا شك يتجاهل حقيقة تاريخية مهمة: إذ أن أوروبا استفادت من النقد الإسلامي للفلسفة اليونانية أكثر من استفادتها من الفلسفة اليونانية نفسها. فرانسيس بيكون، رائد المنهج التجريبي في أوروبا، تأثر مباشرة بابن الهيثم والكندي وكثير من العلماء المسلمين الذين أوجدوا وطوروا المنهج التجريبي قبله بقرون.

لقد كان المسلمون هم من حولوا أوروبا من المنهج الأرسطي المثالي إلى المنهج التجريبي العملي. وهذا التحول هو الذي مهد للثورة العلمية والنهضة الأوروبية. فالنقد الذي مارسه الغزالي وغيره لم يكن عائقاً أمام التقدم، بل كان شرطاً ضرورياً له.

الخلاصة:

إن المغالطة التي تتهم الغزالي بقتل الفلسفة تكشف عن عدة أمور:

أولاً: القراءة السطحية للتاريخ التي تختزل ظواهر معقدة في تفسيرات أحادية ساذجة.

ثانياً: الجهل بطبيعة التطور المعرفي الذي يتطلب النقد والمراجعة المستمرة.

ثالثاً: عدم فهم خصوصية المنهج الإسلامي الذي يجمع بين الأصالة والانفتاح.

رابعاً: التسرع في إطلاق الأحكام دون دراسة متأنية للنصوص والسياقات.

إن الحضارة الإسلامية لم تكن حضارة نقل وتقليد، بل حضارة نقد وإبداع. والغزالي لم يكن معول هدم، بل كان أحد بناة صرح هذه الحضارة. نقده للفلسفة لم يقتلها بل نقاها وطورها، تماماً كما ينقي الصائغ الذهب من الشوائب ليزداد بريقاً ونقاءً..

والدرس المستفاد هو ضرورة التحلي بالتفكير النقدي العميق، وتجنب الأحكام المتسرعة، والحذر من المغالطات التي تروج وهي في حقيقتها في غاية الجور والجهل. فالعقل الناضج هو الذي يميز بين النقد البناء والهدم، وبين التطوير والتدمير، وبين الأصالة والجمود.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى