قال أبو الطيب المتنبي في “اللامع العزيزي” -شرح ديوان المتنبي- (ص 1228):
وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ وَما
تُفلحُ عُربٌ ملوكُها عَجَمُ
قال أبو العلاء المعري: ” معناه: إنما عَزَّ الناسُ بالملوك، فما تفلح العربُ إذا كانت ملوكها عجم؛ لأنهم لا همم لهم، وهم إذا رضوا بذلك فقد دنوا، فلا يرجى لهم فلاح.
قال أحد الشعراء شارحاً كلام أبي الطيب بما لا مزيد عليه:
الناس على دين ملوكهم
وتأبى الطباع على الناقل
وقد شاعت هذه العبارة حتى ظن بعض من لا علم له بالحديث الشريف (النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ) وهي ليست كذلك!
قال الإمام السخاوي في “المقاصد الحسنة” (ص689) “لا أعرفه حديثاً”.
ولأبي العلاء المعري -رحمه الله- :
عاشوا، كما عاشَ آباءٌ لهم سَلَفوا
وأورثُوا الدّينَ تقليداً، كما وَجَدُوا.
وفي نفس المعنى يقول الشاعر الآخر :
وَإِنْ كَانَ رَبُّ البَيْتِ بِالطَّبْلِ ضَارِبَاً
فَلاَ تَلُمِ الصِّبْيَانَ فِيهِ عَلَى الرَّقْصِ
ولنا أن نقول أيضاً : ” وَإن المرِيدين على دَأْبِ شيوخهم، والتلاِميذ على طريقة أُسْتَاذِيهِمْ”.
شاهده من القرآن:
وقد استنبط قومٌ من قوله تعالى لموسى وهارون -عليهما السلام- : (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) وتخصيص فرعون بالدعوة، ان فرعون إذا آمن فإن شعبه كله سيؤمن بإيمانه، ولا غرو في ذلك فالناس دائما على دين ملوكهم، وفي القانون الإلهي الذي نقرؤه في قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} الإسراء/ 16 نجد مصداق ذلك. لأن من معاني (أمرنا مترفيها) أكثرناهم حتى غلبت طرائقهم على مجتمعهم ففسد تركيبه ففقد صلاحية الحياة فصار إلى الدمار.. وهو القانون الذي مضى حكمه في الأندلس ثم في الدول الإسلامية كلها فكانت ولا تزال عبرة المعتبرين!!.
قال ابن عربشاه (المتوفى: 854هـ) في” فاكهة الخلفاء ” – (ص40):” وإذا حسن خلق الملوك العلية صلحت بالضرورة الرعية؛ طائعة، وكارهة، وسعت في ميدان الطاعة فارهة، فإن الناس على دين ملوكهم وسالكون طرائق سلوكهم”
شاهده من السيرة
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لهرقل: “أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين”، والشاهد قوله:” يؤتك الله أجرك مرتين”، وذلك أن بإسلامه سيدخل السواد الأعظم من رعيته في الإسلام، وهذا أيضا ترغيب من النبي صلّى الله عليه وسلّم لهرقل، لما سيناله من مضاعفة الأجر إذا أسلم، أجره وأجر من أسلم بإسلامه.
ثم قال له :”فإن تولَّيْتَ فإنَّ عليكَ إثمَ الأريسيِّينَ”. والأريسيون أتباع أريوس) Arius (الفرقة المسيحية الوحيدة القائلة ببشرية المسيح النافية لألوهيته.
كذلك ما روي أن ابن أم مكتوم -رضي الله عنه- أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وذلك في مكة، وعنده صناديد قريش، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم؛ لأن عادة الناس أنه إذا مال أكابرهم إلى أمر .. مال إليه غيرهم، كما قيل: الناس على دين ملوكهم، فقال له: “يا رسول الله علمني مما علمك الله أنتفع به”، وكرر ذلك، وهو لا يعلم تشاغله – صلى الله عليه وسلم – بالقوم إذ كان يُقال “الناسُ على دِين مُلوكِهم”.
كذلك زواج النبيّ صلى الله عليه وسلم من بنات الزعماء كان يهدف إلى غاية نبيلة، فإن دخول الزعماء في الإسلام دخولٌ لشعوبهم.
وقد اختلفت آراء علماء الاجتماع حول المقولة السالفة (الناس على دين ملوكهم)؛ فرأى فريق أن هذه المقولة تعكس تأثيرًا كبيرًا وفاعلا للقيادة السياسية؛ على سلوكيات الناس وأخلاقهم، على اعتبار أن الحكام غالبًا ما يكونون قدوة للناس في مختلف جوانب الحياة.
ويرى فريق أن هذه المقولة فيها شيء من المبالغة، وأن الشعوب دورها أكبر من ذلك مما يجعل لهم دور في التأثير على الساسة والحكام.
ويظهر لي ان الإمام الطبري كان ممن يميل إلى رأي الفريق الأول، فقد أورد في تاريخه(ج6ص497):” أن الوليد كان صاحب بناء واتخاذ مصانع وضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فإنما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع، فولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل، ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ وما تصوم من الشهر؟ وأصبح الناس وقد شملتهم نعمتا الرضا واليسر. قال (كثير) يخاطب عمر ويمدحه:
تكلمت بالحق المبين وانما
تبين آيات الهدى بالتكلم
وصدقت موعود الذي قلت بالذي
فعلت فأمسى راضيًا كل مسلم
وقد استدل على صحة هذه العبارة المؤرخ صاعد الأندلسي في كتابه طبقات الأمم (ص 76) . قال: “ثم لمّا أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم- المأمون- تمم ما بدأه جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، واستخرجه من معادنه، بفضل همته الشريفة، وقوة نفسه الفاضلة، فداخل ملوك الروم، وأتحفهم بالهدايا الخطيرة، وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطوطاليس وأبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس، وغيرهم من الفلاسفة، فاستخار لها مَهَرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن ثم حض الناس على قراءتها ورغبهم في تعلمها”.
يقول د. شوقي ضيف في كتابه “تاريخ الأدب العربي” – (ج10ص360):” كانت دولة الموحدين تعتنق في الفقه المذهب الظاهرى وتدعو إليه، … وأن الكثرة من القضاة كانت ظاهرية، فضلًا عمن كان منهم يتولى منصب قاضى القضاة، إذ الناس على دين ملوكهم، ولعل خير مثال لقاضى القضاة الظاهرى يوضح ما نزعم ابن مضاء قاضى القضاة أو رئيسهم فى عهد المنصور يعقوب، فإنه فجّر-على هدى المذهب الظاهرى فى الفقه-أكبر ثورة على سيبويه ونحاة المشرق بكتابه: “الرد على النحاة” إذ صوّب فيها سهامه على نظرية العامل التي تعد الأساس الذى أقام عليه النحاة بناء النحو مقدّرين أن العامل هو الذى يصنع الظواهر النحوية؛ من رفع، ونصب، وجر، وهو الذى يترتب عليه ما لا يكاد يحصى من تقديرات وتعليلات وأقيسة مع ما يضاف إلى ذلك من تمرينات افتراضية. وابن مضاء فى هذه الثورة على النحو وقواعده متأثر فى ذلك كله بالفقه الظاهرى وما ينكره على المذاهب الفقهية المشهورة من الاعتماد على الأقيسة والتعليلات مما أدى فى التشريع- كما أدى فى النحو-إلى ركام هائل من الافتراضات. والناس على دين ملوكهم”, ويغفر الله لأبي العتاهية حيث يقول:
ما الناسُ إِلاَّ مَعَ الدُنيا وَصاحِبِها
فَكَيفَ ما انقَلَبَت يَوماً بِهِ اِنقَلَبوا
يُعَظِّمونَ أَخا الدُنيا وَإِن وَثَبَت
يَوماً عَلَيهِ بِما لا يَشتَهي وَثَبوا
قال الأستاذ الطناحي -رحمه الله- :” ومهما يكن من أمر فقد واكب نشاط سلاطين آل عثمان في الجهاد والفتوح، نشاط آخر في العلم والكتب، وآية ذلك أن كل سلطان أو صدر أعظم كان يحرص على أن يبني بجوار المسجد مدرسة ومكتبة تابعتين له وملحقتين به، ولما كان الناس على دين ملوكهم، فقد اقتدى بالسلاطين في ذلك الوزراء ومشايخ الإسلام، وعلى ذلك، فمجموعات المخطوطات في تركيا تنسب إلى ثلاث طوائف: السلاطين، مثل مكتبة السلطان سليم الأول – وهي المكتبة السليمية بأدرنة، ومكتبات السلطان محمد الفاتح، والسلطان بايزيد، والسلطان أحمد الثالث، والمكتبة السليمانية نسبة إلى السلطان سليمان القانوني – أو المشرع – وكلها باستانبول.
والطائفة الثانية: الوزراء، مثل راغب باشا، وشهيد علي باشا، وكوبريلي باشا. والمكتبات الثلاث باستانبول، وكوبريلي باشا هذا، هو الوزير الفاضل أحمد بن محمد، وهو من كبار الرجال في الدولة العثمانية، يقول عنه المُحبّي في خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر 1/ 353: «ولم يكن في الوزراء من يحفط أمر الدين وقانون الشريعة مثله، صعباً شديداً في أمور الشرع، سهلاً في أمور الدنيا، وكان حاذقاً مدبراً للملك، قائماً بضبطه، وملك من نفائس الكتب وعجائب الذخائر ما لا يدخل تحت الحصر، ولا يضبط بالإحصاء”.
وكان الوليد بن عبد الملك يحب البناء ويعشق العمارة – والناس على دين ملوكهم – فبنيت في عهده القصور وشيدت الدور وزيدت في المساجد زيادات، وأضيفت إليها ملحقات. وسهلت الطرق، وحفرت الترع، ويذكر الأستاذ محمد كرد علي الدمشقي في كتابه “خطط الشام” أن الوليد أول من أمر بعمل (بيمارستانات) تعالج فيها المرضى، وإلى الوليد يرجع الفضل في بناء الجامع الأموي والمسجد الأقصى، ولقد أنفق على بنائه خراج الشام لمدة عامين على إحدى الروايات التاريخية، وأنفق في سبيل تشييده وزخرفته وتذهيبه ومرمرته (صبغه بالمرمر) وتفصيصه ورفع قبته، وإقامة عمده الكثير من المال، والوافر من الجهد، وفن (عمارته) ليس إسلامياً محضاً، ولا يونانياً صرفاً ولكنه خليط من هذا وذاك.
ومن الأمثلة المعاصرة؛ مطربة الغناء أم كلثوم، أو كما يسمونها “سيدة الغناء العربي” أو “كوكب الشرق”، فقد كانت تربطها بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر علاقة قوية، فقد كان من أكبر المعجبين بها، ومن اكثر الناس حرصا على حضور حفلاتها، وقد تطورت العلاقة حتى صارت علاقة عائلية، كل ذلك جعل من أم كلثوم مطربة غير عادية ، بل جعل منها كما يقول -محمد عبد الوهاب- “زعيمة” وكما يقول ناقد آخر من صناع الثقافة القومية، أشبه ما تكون بنجيب محفوظ وغيره من المفكرين والأدباء. ولولا أن الناس على دين ملوكهم كما يقال لما كان لها هذا الوزن الاجتماعي الكبير.
ونظرا لمكانة مصر بين الدول العربية فقد انتقلت عدوى الإعجاب بأم كلثوم إلى البلاد العربية، فتغنى بها الشعراء، وكتبت عنها المجلات، وتابعت أخبارها والصحف، حتى قال شاعر العراق الزهاوي يخاطبها :
يا أم كلثوم إنّا أمةُ رزحتْ
تحت المصائب أحقاباً فسلٌينا
وقد يعترض معترض على هذه المقولة فيقول: ” نعم، كان الناس قديماً على دين ملوكهم، ولكنهم اليوم تهيمن عليهم الوسائل الاجتماعية؛ حيث تتيح لهم التواصل وتبادل المعلومات، ومناقشة الأفكار مع الآخرين عبر الإنترنت،وتشمل هذه الوسائل مواقع وتطبيقات مثل فيسبوك، تويتر، انستغرام، سناب شات، تيك توك، وواتساب، بالإضافة إلى المنصات الأخرى؛ مثل لينكد إن ويوتيوب فقد تولت بالفعل أمور التوجيه وشئون التربية بما تتيحه من الانفتاح المطلق على ثقافات الغرب وأفكارهم.
وهذا الاعتراض مقبول إلى حد ما غير أن القرار يبقى في فتح هذه القنوات وبسطها والتضييق عليها يعود إلى أصحاب القرار.